الخميس، 14 سبتمبر 2023

 هذا الحبيب   « ٧٢ »

السيرة النبوية العطرة (الهجرة الثانية إلى الحبشة ، الملك العادل ) .

__________________________

كما ذكرنا من قبل ، اجتمع بنو هاشم وبنو المطلب في مكان واحد ، الذي يسمى {{ شعب أبي طالب }} .. وتركوا بيوتهم من أجل حماية النبي صلى الله عليه وسلم من بطش قريش .. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حماية من أهله وعشيرته ، خاف على الصحابة المستضعفين الذين ليس لهم عشيرة تحميهم ، فأمرهم بالهجرة الثانية إلى الحبشة ..

 ووضع عليهم أمير ، وهو ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ..

 فخرج { ٨٣ } رجل وبضعة عشرة إمرأة ، { يقال ثمانية عشرة أو تسع عشرة امرأة } .. ومن بينهم هؤلاء الذين كانوا قد هاجروا للحبشة فى الهجرة الأولى ، ولما علموا بإسلام عمر بن الخطاب ، رجعوا إلى مكة ، ظنا منهم أن الأمور تحسنت في مكة .. فلما رجعوا وجدوا الأمور أسوء من ذى قبل ، فرجعوا مع المهاجرين مرة ثانية إلى الحبشة .. 

___________________________

الموقف الآن : هاجر من هاجر ، من الصحابة إلى الحبشة .. والرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه ، في شعب أبي طالب تحت الحصار والمقاطعة ..


استمرت المقاطعة 3 سنوات ، حتى أكل صلى الله عليه وسلم ورق الشجر وتشققت شفتاه .. 

[[ سنعود إلى أحداث المقاطعة ، ولكن دعونا نقف الآن مع هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة ، ودروس لكل مسلم ]] ..

__________________________

هاجر الصحابة إلى الحبشة ، مع أميرهم {{ جعفر بن أبى طالب }} رضي الله عنه ، عن طريق البحر 

[[ الحبشة هي ما نعرفه الآن ، دولتى أثيوبيا وأريتريا مجتمعين .. كانوا من قبل دولة واحدة ]] ..

عاش المهاجرين في الحبشة ، وأخذوا يعملون فيها .. منهم من عمل بالزراعة ، ومنهم من عمل في المصنوعات الجلدية .. وكانت أخلاقهم رفيعة ومعاملتهم طيبة ، واحترموا قوانين البلاد وأهلها ، وفى المقابل أحبهم اهل الحبشة وعاملوهم معاملة طيبة .. 

___________________________

وصلت الأنباء من الحبشة الى مكة أن المسلمين في أمن وأمان واستقرار ، ويحيون حياة طيبة .. كما وصلت إلى قريش قصيدة ، كتبها أحد المهاجرين المسلمين ، يتحدث فيها عن سعادته هو والمسلمون في أرض الحبشة ...

 فاغتاظت قريش وجن جنونها .. وقالوا : الآن أصبح لمحمد قواعد خارج مكة في أرض الحبشة .. فاجتمعوا وتشاوروا فى الأمر :

ماذا نصنع وما العمل مع من هاجر من أصحاب محمد ؟!!

قالوا نرسل وفدا إلى النجاشي ملك الحبشة .. [[ للعلم النجاشي كان لقب لكل من يحكم الحبشة ، وليس اسم ، اسمه الحقيقي {{ أصحمة بن أبجر }} ، كما كان

لقب {{ قيصر }} يطلق على كل من حكم الروم .. ويطلق لقب {{ كسرى }} على كل من حكم فارس .. ولقب {{ المقوقس }} على من حكم مصر ]] ..

___________________________

قررت قريش أن ترسل رجلين من دهاتها لمقابلة النجاشي ومحاولة إقناعه بأن يطرد المسلمين من الحبشة ، ويردهم إلى مكة مرة أخرى ..

قالوا : نختار رجلين يتقنان فن السياسة ، يذهبان إلى النجاشي ملك الحبشة .. فاختاروا داهية العرب في السياسة {{ عمرو بن العاص }} ومعه عبد الله بن أبى ربيعة .. وللعلم ، عمرو بن العاص كانت له علاقة قوية بالنجاشي ، وكان قد زار الحبشة من قبل .. 


أرسلتْ قُريشٌ عَمرَو بنَ العاصِ وعبدَ الله بنَ أبي رَبيعةَ (قبلَ أن يُسلِما) ، وأرسلوا معهُما كل ما قد يحبه النَّجاشيِّ من الهدايا الثمينة والقيمة ، له ولبَطارِكتِهِ .. وقالوا لهم : قدموا الهدايا أولاً للبطاركة حتى تضمنوا ولاءهم وتأييدهم لكم فى هذه المهمة .. وقولوا لهم : إنا نريد منكم أن تقنعوا النجاشى ، أن يسلم لنا المهاجرين دون أن يستقبلهم أو يسألهم .. 

________________________________________________

فلما وصلوا إلى الحبشة ، وزعوا الهدايا على البطاركة .. [[ البطاركة ، هم كبار رجال الدين عند النصارى ، وحكم النجاشي قائم على النصرانية. وهم يعتقدون أن عيسى عليه السلام هو الرب أو ابن الرب ]] ..

قالوا للبطاركة : إن هؤلاء سفهاء من قومنا فارقوا ديننا .. وإنا نريد أن نتفاوض مع النجاشي كى يسلمهم لنا ، ونطلب منكم أن تقنعوه أن يسلمهم ، دون أن يستقبلهم ، أو يسألهم ..

قالوا لماذا ؟ !!!

قالوا : لأن أصحاب محمد يعملون بالسحر ، فإذا قابلوا النجاشي سحروه فلا يسمع لأحد ..

[[ عمرو بن العاص وضع الخطة المحكمة مع البطاركة ]] ..


ولكن هناك نبوءة عن النبي صلى الله عليه وسلم .. {{ إضربوا في الأرض حتى يجمع الله شملكم .. إلى أين يا رسول الله ؟؟.. إلى الحبشة .. لما الحبشة بالذات يا رسول الله ؟.. لأن فيها ملك لا يظلم عنده أحد }} ..

________________________________________________________

فلما اجتمع {{ عمرو بن العاص والبطاركة بالنجاشي }} ، وقدموا له الهدايا .. ((وكان عمرو كما قلنا ، صديقا للنجاشي وبينهم معرفة سابقة)) .. قال النجاشي : ما الأمر يا عمرو تكلم ؟.. قال : إن فينا سفهاء قدموا إلى بلدك ، خرجوا عن دين الآباء والأجداد ، فلا هم بقوا على ديننا ، ولا دخلوا في دينك أيها الملك [[ عمرو بن العاص داهية العرب ، لاحظوا اسلوبه فى الكلام ]] ، وابتدعوا دين لا نعرفه نحن ولا أنت !!!

وقد أرسلنا أشراف قومنا ، حتى تردهم إلينا ، فأهلهم أعلم بهم وهم أولى بهم ..

فقال البطاركة من حوله جميعا بصوت واحد :  نعم صدق أيها الملك .. فصاح الملك العادل بالبطاركة وقال : بئس ما شهدتم به !!!! .. كيف أحكم بنعم قبل أن أسمع الطرف الآخر ؟؟!!


ثم صاح بالجند من حوله قائلا : أرسلوا إليهم حتى أسمع منهم ، فإذا سمعت قضيت بأنهم صادقون أو غير ذلك .. 

____________________________________________________________________

فأرسل النجاشي إليهم .. [[ لما وصل إلى الصحابة طلب النجاشى لهم بالحضور ]] .. أحسوا أنه سوف يسألهم عن سبب تواجدهم فى بلده .. 

قالوا : ماذا نقول له ؟؟!!

قال جعفر بن أبى طالب : سنقول الحق وما أنزل على نبينا وليكن بعدها ما يكون .. 

قالوا : يا جعفر أنت المتحدث فينا [[ جعفر الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم {{ لقد أشبهت خَلْقِي وَخُلُقِي }} .. وكان أشبه الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد تحدثنا من قبل عن قصة إسلامه ]] ..

___________________________________________________________________

تقدم جعفر ووقف المسلمون من خلفه ..

فلما دخل الملك ركع الجميع إجلالاً له ، إلا الصحابة بقوا واقفين ظهورهم مستقيمة .. 

فنظر النجاشي إليهم وقال : 

ألا تركعون لنبيكم ؟؟!!!

قالوا : لا لقد علمنا نبينا أننا لا نركع إلا لله .. 

فقال لهم :كيف تسلمون على نبيكم ؟ 

قالوا : نقول له السلام عليك يا رسول الله .. 

فسكت النجاشي ، ونظر إلى عمرو وقال : هات ما عندك يا عمرو ، تكلم .. (أراد أن يواجههم عمرو بما قال فيهم) .. 

فتحدث إليه عمرو بنفس الكلام الذي قاله له من قبل ، فلما انتهى .. قال النجاشي : 

قد سمعت منك ، ثم التفت إلى الصحابة قائلا : وأنتم من المتكلم فيكم ؟؟..

فتقدم جعفر حتى وقف أمام النجاشي وقال : أيها الملك ، كنا قوم أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، وندفن البنات أحياء ، ونأتي كل الموبقات ... فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه .. فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ما جاء به من دين الله ..

[[ هل رأيتم  ذكاء جعفر بن أبى طالب ، أعطاه صورة الجاهلية الحقيقية القبيحة ، والنصارى يعلمون أن هذا كفر وقريش جهلة يعبدون الأصنام ، فى حين أن النصارى لا يعبدون الأصنام .. ثم حول الحديث إلى صفة النبي الذي بعثه الله وأنه صادق وأمين والكل يعرف ذلك .. والآن لاحظوا كيف انتقل معه من صورة الجاهلية القبيحة ، إلى صورة الإسلام السمح ]] ..

 قال : فدعانا الرسول إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان .. وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً .. (وعدد له تعاليم ومبادىء الإسلام) .. ثم قال : فتعدى علينا قومنا فعذبونا ، وضيقوا علينا ، حتى نرتد عن ديننا ونعود لملتهم .. فقال لنا نبينا اذهبوا إلى الحبشة .. فسأله النجاشي : ولماذا اختار نبيكم الحبشة ؟ 

قال له : قال لنا نبينا إن في الحبشة ، ملك لا يظلم عنده أحد .. قال النجاشي : 

وهل معك مما جاء به نبيك عن الله من شيء ؟ 

قال : نعم .. قال له النجاشى : فاقرأه على .. فاختار جعفر أن يقرأ عليه من القرآن ، ما تيسر من سورة مريم ( وفى هذا فطنة وذكاء من جعفر ) ... 

___________________________

فقرأ جعفر : 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ..

{{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نبيا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا *}}.. صدق الله العظيم ،،،


[[ أنظروا جعفر يقرأ  (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) يصب كلام الله في أذان الحاضرين صبا  ، عبد لله مش رب ولا إله ، إني عبد الله .. لا تخجلوا من إسلامكم ، أنتم مع الله يا خير أمة ، الله واحد أحد لم يلد ولم يولد ]] ..

___________________________________________________________________

فدمعت عينى النجاشي بعدما انتهى جعفر من قراءته ، وبكى حتى ابتلت لحيته ، وبكت البطاركة جميعا من حوله .. 

وهو نفس المشهد الذى ذكره الله تعالى فى القرآن الكريم فى سورة المائدة : بسم الله الرحمن الرحيم {{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ }} ..


ثم قال النجاشى لعمرو بن العاص ومن معه : إن هذا والذى جاء به عيسى ، ليخرج من مشكاة واحدة .. انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما .. فخرجا ، لكن عمرو بن العاص لم ييأس ، وصمم على أن يعود فى اليوم التالى إلى النجاشى بحيلة أخرى ..


  يتبع .. 

الأنوار المحمدية ..

 صلى الله عليه وسلم

ليست هناك تعليقات:

المتابعون

أرشيف المدونة الإلكترونية