الحبيب المصطفى « ٧٦ » و 77
السيرة النبوية العطرة
(( وفاة أبو طالب )) ..
__________________________
انتهى الحصار بإرادة وتوفيق من الله تعالى ، وخرج بنو هاشم وبنو المطلب من شعبهم ، ورجعوا إلى حياتهم الطبيعية يمارسون كل نشاط في مكة ، وانتهت المقاطعة الظالمة ..
ولكن العداوة مازالت موجودة للنبي صلى الله عليه وسلم من قريش ، وبسبب الحصار الذي استمر ٣ سنوات ، تعب ومرض أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي بلغ من العمر بعد رفع الحصار ٧٩ عام بالتقويم الميلادى ، أى ما يزيد على ال ٨١ سنة بالتقويم الهجرى ..
___________________________
ضعف جسد أبى طالب وأشرف على الموت ، فبلغ سادة قريش أن أبا طالب على فراش الموت ..
فقال بعضهم لبعض : لنذهب إلى أبي طالب قبل أن يحل به الموت ، وقبل أن يأتي ابن أخيه محمد ... ليأخذ لنا على ابن أخيه ، ويأخذ له منا .. ليكف عنا ونكف عنه ، وليدعنا وديننا وندعه ودينه ..
فإنا نخاف بعد إسلام حمزة وعمر ، إن تبعه غيرهم أن يأخذوا السيادة منا ..
فحضر سادة قريش ومشايخها مثل عتبة بن ربيعة ، وأخوه شيبة ، وأبو سفيان ، وأبو جهل ، وعبد الله بن أبى أمية ، وغيرهم من وجهاء قريش حضروا إلى بيت أبو طالب ..
فلما حضروا ، هنا أحب أبو طالب أن يعقد صلحا ، بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته ..
___________________________
فقال أبو طالب لسادة قريش : إني أحب أن أرحل عن الدنيا ، وأنا أشهد الصلح بينكم وبين محمد .. فأرسل إلى النبي من يخبره بالحضور ، فحضر صلى الله عليه وسلم ..
[[ وتجمع الروايات على أنه كان بين القوم وبين فراش أبي طالب متسع لمقعد رجل ]] .. فخاف شيطان هذه الأمة أبو جهل ، أن يجلس النبى فى هذا المكان ، فيكون أقرب إلى عمه ويكون له تأثير عليه .. فوثب كالشيطان ، وجلس بالمكان .. فلم يعد للنبي مكان للجلوس ، فلما حضر النبي .. لم يجد مكان إلا أن يقف عند عتبة الباب ، [[ وهذا مبدأ عند النبى صاحب الخلق العظيم ، فمن أخلاقه أنه كان يجلس مع أصحابه حيث ينتهي المجلس .. فإذا دخل على المجلس أعرابي لا يعرف النبى ، والنبي جالس بين الصحابة ، ينظر إليهم ثم يسأل .. أيكم محمد ؟؟.. هذه أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم ]] ..
وقف النبي عند عتبة الباب [[ غرفة صغيرة فيها سرير امتلأت بالرجال ، ويقف النبي على الباب ، تخيلوا المنظر بعقولكم ]] .. لدي تعقيب بعد قليل هل نطق أبو طالب بالشهادة قبل موته؟.
___________________________
فرفع أبو طالب رأسه إليه وقال : يا محمد يا ابن أخي .. هؤلاء أشراف قريش وسادتها ، وقد نزل بي من الأمر ما ترى .. وأنا أحب أن أرى بينكم صلحا قبل أن أفارق الدنيا ..
فقال صلى الله عليه وسلم : نعم يا عم .. أريد منهم كلمة واحدة لا سواها ، تدين لكم بها العرب وتتبعهم العجم ..
يا قريش لو أطعتم الرسول واستجبتم له ، لرأيتم كيف كان لكم فضل في دولة الإسلام ، لقد ملكت أمة محمد وحكمت العالم كله ، وليست قرية من أمته ، يا قريش الخليفة هارون الرشيد نظر يوما للسماء وقال {{ أيتها الغمامة أمطري حيثُ شئتِ فإنَّ خراجكِ عائدٌ إليّ }.
ولكن الكفر ضلال ، إلى هذا اليوم نحن نذكركم يا كفار قريش ، ونعيبكم وندعو عليكم ، هذا ما أخذتموه من عداوتكم لحبيبنا صلى الله عليه وسلم .
ولكم بمشيئة الله ، موعد مع جهنم في الآخرة عند الله عزوجل ]] ..
___________________________
قال النبى : أريد منهم كلمة واحدة تدين لكم بها العرب وتتبعهم العجم ... ولأنهم كفار والكفر ضلال ، تسرٌَع بالإجابة أبو جهل وقال : نعم وأبيك [[ يعني نعم ونحلف برأس أبيك ]] ..
نعم وأبيك ، نعطيك عشرة إذا أردت ويتم الصلح .. فقال : قولوا لا إله إلا الله ، وتخلعون عبادة الأصنام ..
___________________________
وكعادتهم قريش فى السخرية .. صفقوا ، وصفروا ، ووضعوا أيديهم على رؤوسهم
وقال أبو جهل وهو يضحك : واللات إن هذا الرجل لن يعطيكم شيء .. فنظر أبو طالب إلى النبي وقد تأثر من فعل القوم ، وهم كما وصفهم الله تماما :
{{ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ }} ..
[[ قسورة يعني الأسد ، مثل الأسد عندما يطارد مجموعة من الحمير .. هل تخيلتم المنظر ، سادة قريش هكذا تماما }} ..
فلما رأى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تأثر فأراد أن يخفف عنه فقال :
يا محمد يا ابن أخي ، والله ما أراك طلبت منهم شحطة [[ الشحطة عند العرب يعني الشيء المستحيل والصعب ، ما طلبت منهم إلا الخير ]] .. فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله عمه أبو طالب ، طمع فى إسلامه قبل وفاته .. فقال :
أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك ، وأشفع لك بها عند الله ... فرد عليه عبد المطلب قائلا : يا ابن أخى ، والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بنى أبيك من بعدى ، وأن تقول قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها ، لا أقولها إلا لأسرك وتقر بها عينك ... فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، ترغب عن ملة عبد المطلب؟؟ ، فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ، وهم ما يزالون يكلمانه كى لا ينطقها ، حتى قال آخر شيء كلمهم به : على ملة عبد المطلب .. فقال النبي : والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه فأنزل الله .. {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .. ونزلت أيضا {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يهدى من يشاء} ...
فلم يعلن أبو طالب إسلامه ، وفاضت روحه .. لم يقلها على مسمع من النبي (لا إله إلا الله) ..!!
___________________________
يا أبا طالب !!
يا عم نبينا صلى الله عليه وسلم ..
والله أتعبت وأوجعت قلبي ، واتعبت قلوب كثير من المسلمين .. ومما لا شك فيه أنك أيضا أتعبت قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنت كنت له بمنزلة الوالد .. والله إننا جميعا نشهد أنك بذلت جهدا جباراً في سبيل الإسلام والدعوة ، وتحملت الكثير من بداية بعثة النبى ، وحتى انتهاء سنوات الحصار .. ولم يسمع منك النبي مرة واحدة :
لا إله إلا الله؟؟!!!
______________________________________________________________________
أبو طالب من أكبر علامات الاستفهام في السيرة ، وقد حير موقفه الكثير من الناس .. أبو طالب أفعاله وأقواله تؤكد بتصديق نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكان يكرر في حياته {{ إن محمدا لا يكذب }} .. كيف لا وهو الذي رباه وكان له بمنزلة الأب ، فهو يعرفه أكثر من جميع الناس ..
والدليل على ذلك عندما قال للرسول صلى الله عليه وسلم ، في بداية الدعوة {{ فامضِ لما أمرت به }} ..
[[ بمعنى ما جئت به ليس من عند نفسك ، وإنما من عند الله تعالى ]] .. كما أن نبوءة النبى عن الأرضة ، التى ذكرها لأبى طالب ، وأدت إلى إنهاء الحصار ، هى أكبر دليل على صدق نبوته بشهادة أبى طالب .. لماذا لم يعلن أبو طالب إسلامه بعد كل ما عاصره مع النبى؟؟..
قال إبن كثير : كان استمرار أبو طالب على دين قومه من حكمة الله تعالى ، ومما صنعه لرسوله من الحماية .. إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركى قريش وجاهة ولا كلمة ، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه ، ولاجترأوا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه ..
أما لماذا لم ينطق بالشهادة عند وفاته؟؟.. فكما ذكرنا من قبل ، أجاب عليها هو بنفسه ، عندما طلب منه النبى أن يقلها ..
ويعتقد أهل السنة أن أبا طالب عم رسول الله مات كافراً ، لا يوجد في ذلك خلاف معتبر بين أهل العلم ، ويستدلون على ذلك بأحاديث عدة .. منها حديث العباس بن عبد المطلب أنه قال :
قلت للنبي : ما أغنيت عن عمك ، فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار .. ( الضحضاح من الماء معناها مستوى الماء الذى لم يبلغ الكعب ، وهنا استعارة لاستخدامها مع النار ، ومعناها يخفف عنه العذاب ) ..
أما عن رأى أهل الشيعة : فيعتقد الشيعة أنه مات مسلماً مؤمناً بالرسالة المحمدية .. ومما جاء فى مذهبهم ، ما ذكر عن الإمام جعفر الصادق أنه قال :
هبط جبرئيل على رسول الله فقال : يا محمّد ، إنّ الله عزّ وجل قد شفّعك في خمسة :
في بطن حملك وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف ، وفي صلب أنزلك وهو عبد الله بن عبد المطّلب ، وفي حجر كفلك ، وهو عبد المطّلب بن هاشم ، وفي بيت آواك وهو عبد مناف بن عبد المطّلب (أبو طالب) ، وفي أخ كان لك في الجاهلية ..
هذا ما قيل من أهل السنة ، وما جاء ذكره عن أهل الشيعة ..
والله أعلم ،،،
___________________________
ولإيضاح هذا الأمر : قلنا من قبل ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقف على عتبة الباب عند موت أبي طالب .. هناك روايات تقول ، أن العباس كان أقرب الناس إلي فراش أبو طالب لحظة موته .. وأنه قبل خروج روحه ، نظر العباس إليه فرآه يحرك شفتيه ، فأصغى إليه بأذنه ، فسمعه ينطق الشهادة ..
وأن العباس عندئذ قال : يا محمد ، سمعته قال الكلمة التي تريد ( يقصد ، لا إله إلا الله ) ..
ولكن .. [[ لماذا قال العباس للنبى عند وفاة أبي طالب ، أنه قال الكلمة التي تريد ، ولم يقلها بهذا النص "لا إله إلا الله" صراحة ؟؟..
من دَرَسَ السيرة وتعمق بها ، تتضح له أمور كثيرة .. أنا أتصور الموقف كالآتي : العباس قيل أنه كان قد أسلم ، ويكتم إسلامه في ذلك الوقت ، وكفار قريش في غرفة أبي طالب ، ومات أبو طالب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطمع فى إسلام عمه ونطقه للشهادة ، وظل يقول له ، قلها يا عم ، أشهد لك بهاعند الله ، وهو واقف بعيدا عند عتبة الباب ، فلما فاضت روحه ، ظهر حزن النبي على وجهه .. والعباس كان أقرب لأبي طالب ، وكما يقول أنه سمع منه الشهادة .. فلما رأى حزن النبي ، لم يتمالك نفسه وأراد أن يبشره ، فقال له أمام سادة قريش ، قال الكلمة التي تريد ، ولم يقل له ، قال لا إله إلا الله .. لأنه كان يكتم إسلامه ، فلا يجوز أن ينطق بلفظ الشهادة صراحة أمام قريش ]] ..
فقال له صلى الله عليه وسلم : ولكني لم أسمعها ..
___________________________
أخيرا .. أنا أقول عن نفسي ،
جزيت خيراً يا أبا طالب ، هذا عن نفسي ولا ألزم أحد بقناعتي ..
ولكنى أعتبر أن مصير إيمانه أو عدم إيمانه فى علم الله وبيده سبحانه .. إن أراد به خيرا ، وفقه لنطق الشهادة لحظة موته ولو همسا ، ولربما سمعها العباس ..
أما يا عم نبينا يا أبا طالب ، فيما يتعلق بدفاعك عن نبينا صلى الله عليه وسلم ، أقول لك مرة أخرى ومن كل قلبي : {{ جزيت خيراً يا أبا طالب }} .. أبو طالب أعماله وأفعاله كلها تدل على إيمان .. ولكن لم يُظهر إسلامه بالظاهر .. ومسألة هل أسلم أبو طالب أم لا ، كانت مسألة خلافية ، لكنها من وجهة نظرى كما قلت فى علم الله .. وأنا أتضرع إلى الله سبحانه وتعالى وأدعوه ، أن يكون ما ذكره العباس من سماعه لأبى طالب ينطق بالشهادة لحظة وفاته صحيحا... ونرى أبا طالب ممن نجوا من عذاب النار ..
كل شيء علمه عند الله ، وهو أرحم الراحمين ..
___________________________ حزن النبي صلى الله عليه وسلم على موت عمه حزنا كبيرا .. مات أبو طالب ودفن في مقبرة مكة بالحجون .. وبعد موت عمه زاد أذى قريش تجاه النبي ، لأن أبا طالب هو الذي كان يحميه ويدافع عنه متحديا كل من حاول النيل منه .. ومما زاد من حزنه عمقا ، أنه حدث بعد وفاة عمه أبي طالب بثلاثة أيام ، توفيت زوجته السيدة خديجة بنت خويلد .. وقيل كانت وفاتها قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة ، وقيل بعد وفاة أبى طالب بشهر ، وقيل غير ذلك .. الخلاصة ، أننى لاحظت فى جميع المراحل ، اختلافا كبيرا بين رواة السيرة ، خاصة فى تواريخ وقوع الأحداث بالإضافة إلى الاختلافات فى مجرياتها .. وفى جميع الأحوال ، فقد هلكا عم النبى وزوجته فى عام واحد ، أطلق عليه عام الحزن الذى وافق العام العاشر من البعثة ، الثالث قبل الهجرة ، وسنتحدث عنه فى الجزء التالى ...
الحبيب المصطفى « ٧٧ »
السيرة المحمدية العطرة
( وفاة خديجة رضي الله عنها ) .
___________________________
بعد وفاة أبي طالب ،
يقول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري في صحيحه قال : { ما نالت قريش مني شيء أكرهه إلا بعد موت أبي طالب}.
فلم ينته حزنه على عمه ، حتى فُجع صلى الله عليه وسلم بمصيبة أكبر .. فبين وفاة أبي طالب ، والمصيبة الثانية شهر واحد فقط .
ماتت السيدة خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم .
ولقد اختلف المؤرِّخون في تحديد من الذي مات أولاً ، هل هو أبو طالب ، أم خديجة رضي الله عنها؟
فمنهم مَنْ قدَّم موت أبي طالب ؛ لأنَّه حدث بعد الخروج من الشِّعْب بستَّة أشهر ، أي أنَّه حدث في رجب من السنة العاشرة ، ثمَّ كانت وفاة خديجة رضي الله عنها ؛ لأنَّه اشتُهر أنَّها حدثت في رمضان من السنة العاشرة للنبوَّة ، ومنهم مَنْ قدَّم وفاة خديجة رضي الله عنها ، وجعل موت أبي طالب في شوال بعد خديجة بخمسة وثلاثين يومًا كما جاء في بعض الروايات ، والمسألة فيها اختلافات وبحوث وإن كانت لا تهمُّ كثيرًا ؛ لأنَّ المصيبتين حدثتا في وقتٍ قريبٍ جدًّا من بعضهما البعض ، وكانت آثارهما مشتركة ..
وأغلب الظن أنه قيل أن وفاة خديجة ، حدثت بعد انتهاء الحصار بعدة أشهر ، فى يوم ١٠ رمضان بعد ١٠ أعوام من البعثة النبوية ، وقبل الهجرة ب ٣ سنوات .
___________________________
مات النصير القوي خارج البيت وهو عمه أبو طالب .
وبعد شهر واحد ، مات الحضن الدافئ داخل البيت وهي السيدة العظيمة أمنا وأم المؤمنين :
{خديجة رضي الله عنها }.
وحزن النبي صلى الله عليه وسلم على موتهما حزنًا شديدًا .
إذ لم تكن خديجة رضي الله عنها مجرَّد زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم، أو أُمًّا لأولاده ، وإنَّما كانت وزيرَ صِدْقٍ بحقٍّ ، وكانت المستشار الأمين ، وكانت الرأي الحكيم ... (إنَّها كانت وكانت) ، هكذا ذكرت عائشة رضي الله عنها وهي تصف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خديجة رضي الله عنها!.. فعن عائشة رضي الله عنها قالت : مَا غِرْتُ من أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلا من خَدِيجَةَ ، وَمَا رَأَيْتُهَا ، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، وَكان إذا ذَبَحَ الشَّاةَ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ، ثُمَّ يَبْعَثُ منها إلى صَدَيقات خَدِيجَةَ .. فربما قُلْتُ لَهُ : كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ ، فَيَقُولُ : «إِنَّهَا كَانَتْ ، وَكَانَتْ ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ» ..
وإذا كنَّا نعرف أنَّ مُتَعَ الدنيا لا تُحصى ولا تُعَدُّ ، فإنَّنا نُدرك يقينًا أنَّ أفضل مُتَع الدنيا قاطبةً هي المرأة الصالحة .. وسبب اليقين أنَّ هذا هو إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا ، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» وخديجة رضي الله عنها لم تكن مجرَّد امرأة صالحة ، إنَّما كانت من الصالحات المعدودات في تاريخ الإنسانيَّة كلها ..
___________________________
وكان توقيت وفاة أبي طالب والسيدة خديجة توقيتا دقيقا جدا .. فقد وافقت وفاتهما ، أكثر فترات الدعوة حرجا ... لو كنا نحن الذي نضع سيناريو الأحداث ، لما اخترنا على الإطلاق هذا التوقيت لوفاة أبي طالب والسيدة خديجة .
كان من الممكن أن نختار وفاتهما بعد الهجرة ، بعد أن يكون للنبي أنصار يحمونه ..
ولكن الله هو الذي اختار هذا التوقيت الذي يعتبر من أصعب وأحرج فترات الدعوة ،
وكأن الله تعالى يلفت نظر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويلفت أنظارنا نحن جميعا إلى معنى هام وهو :
أن النصر من عند الله تعالى ، وليس من عند أبي طالب ولا خديجة ولا أي مخلوق ، وكأن الله يقول لنبيه : يارسول الله ،
اعتمد بقلبك فى كل أمورك على الله تعالى ، لا أن يكون القلب معتمدا جزئيا على الله ، ويكون هناك جزء من القلب معتمدا على أحد من البشر .
___________________________
ماتت خديجة جزاها الله عنا كل خير ، ورضي الله عنها وأرضاها ، وهنيئاً لها منزلتها في الجنة .. فقد روى أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [[ خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وابنة مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ]] ، وذلك فخر لنا أيضا أن أمنا خديجة هي سيدة نساء أهل الجنة ...
وشيعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقبرة الحجون ، ونزل في قبرها ودعا لها .. ماتت السكن والطمأنينة ، والمودة والصدر الحنون الذي كان داخل بيته ، صلى الله عليه وسلم ...
كانت تخفف عليه همومه ، وتواسيه ، وتبشره وتعينه بمالها ، فكانت خير نصير له .. ويكفى أنها بعد وفاتها ، لم يرث النبى منها شيئا .. فقد أنفقت كل مالها فى سبيل الله ، رغم أنها كانت من أغنى أغنياء قريش ، رضى الله عنها وأرضاها ...
ومات النصير الخارجي له ، عمه أبو طالب الذي كان يقف في وجه قريش كلها كالسد المنيع ..
فَقد النبي النصيران سويا ، وحزن حزناً شديداً ، خديجة تموت في هذه الظروف ؟؟ هو في أمس الحاجة إلى سكن داخل البيت
[[ لأن بيت الرجل يكون جنة أو جحيم ، وذلك يعتمد على الزوجة ، وقد كانت خديجة جنة ، بل رياض جنة للنبي صلى الله عليه وسلم ]] ..
___________________________
ونظرا لأن النبى صلى الله عليه وسلم ، كان دائما ما يذكر السيدة خديجة بالخير ، ويحب أن يتحدث عنها ، كانت السيدة عائشة ، كما قلنا من قبل تشعر بالغيرة منها ، وذات مرة قالت للنبى : مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عز وجل خَيْرًا مِنْهَا {{ الشدق هو جانب الفم مما تحت الجلد .. وحمراء الشدق كناية عن أن المرأة سقطت أسنانها نتيجة تقدمها فى العمر ، فلم يبقى إلا حمرة لثاتها }} .. فقَالَ النبى : «مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عز وجل خَيْرًا مِنْهَا ، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وجلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ» ..
وفى مناسبة أخرى ، حدث أن قالت عائشة رضي الله عنها كلمة لم ترضى النبى عن خديجة ،
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم منها غضباً شديداً .. وأراد أن يعبر عن غضبه ، مع حسن خُلقه ، فأخرج المسواك من جيبه ، وهزه في وجه عائشة عند أنفها ، وقال :
والله لولا أخشى القصاص يوم القيامة ، لأوجعتك ضرباً بهذا المسواك !!
__________________________________________________________________ سؤال : وهل المسواك يوجع أو يصلح للضرب ؟؟
الجواب ، هو مجرد تعبير عن غضبه ، ولأن الضرب في الشرع يراد به التأديب وليس التعذيب .. [[ تجد زوج من الجهلة ، أصاب عين زوجته بتورم وازرق لونها من الضرب .. وبكل سفالة ووقاحة يقول : ربنا قال فى القرآن إضربوهم !!!. وتجده لا يحفظ الآية ، ومن الممكن لو وضعت له الآية أمامه ، لا يستطيع قراءتها !!
يجهلون بشرع الله ويشوهون الإسلام ، كى يبرروا غباءهم .. يا أبو جهل ، ما هكذا الضرب المقصود .. والله لتأخذن حقها منك أمام الله ، وستسأل عنها يوم القيامة ]] ..
___________________________________________________
رحلت خديجة ورحل أبو طالب عم النبي ، رحلت السيدة خديجة بعد أن عاشت ٢٥ عاما متصلة مع النبى ، لم يحدث خلالها أى خلاف بينهما ... ومن المعروف أنها رضى الله عنها ، إلى يومنا هذا ، تحظى بمكانة كبيرة ومنزلة عظيمة عند جميع الطوائف الإسلامية ... ويكفى أم المؤمنين خديجة فخرا أن حدث قبل وفاتها ، أن بشرها جبريل بالجنة .. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام ، أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنّي ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب" ...
ومن تأثره صلى الله عليه وسلم سمى هذا العام {{ بعام الحزن }} لأنه حزن فيه حزنا شديدا .. وفى أعقاب ذلك ، تكالبت عليه قريش بالإيذاء ..
يتبع ..
الأنوار المحمدية
صلى الله عليه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق