الجمعة، 29 سبتمبر 2023

السيرة المحمدية العطرة .. 95-100

 الحبيب المصطفى  «  ٩٥  »

السيرة المحمدية العطرة .. 

        (( قرار الهجرة ))

__________

بعد ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قريش برحلة الإسراء .. وطلبوا منه أن يصف لهم المسجد الأقصى ، ووافق ووصف المسجد ، ثم طلبوا منه أن يخبرهم عن قافلتهم القادمة من الشام .. فوافق كلامه عن القافلة كل الوصف .. فما كان من أبي جهل وهو ممثل لقريش ، إلا أن قال : [[ أشهد يا محمد أنك لساحر ]] ..

___________

{{ نظرة عامة }} ، لوضع النبي صلى الله عليه وسلم الآن في مكة :

قلنا أن العام {{ العاشر }}  من البعثة أطلق عليه عام الحزن ،

[[ تخيلوا عشرة أعوام ، في كل يوم استهزاء بدعوته ، وأذى في الطريق .. في السوق ، وعند الكعبة ، وتعب نفسي وحصار ...إلخ ]] ..

في هذا العام وكما قلنا من قبل ، فقدَ النبي صلى الله عليه وسلم ، عمه {{ أبا طالب }} ، الذي كان يوفر له الحماية من بطش قريش .. وزوجته {{ السيدة خديجة رضي الله عنها }} ، التي كان يأوى إليها ..

واشتد جداً إيذاء قريش للرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى قال : {{ ما نالت منى قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب }} ..

___________

في هذا الوقت بدء النبي صلى الله عليه وسلم ، يفكر في الهجرة من مكة .. إذ يجب أن يترك مكة هو والمسلمون ، ويذهبون إلى مدينة أخرى ، تكون عاصمة دولتهم ، ومركز للدعوة إلى الله .. 

أصبح الوضع في مكة صعبًا ، لا أحد من أهل مكة يريد أن يدخل في الاسلام ، ومن يدخل في الإسلام يكتم إيمانه ، خوفاً من بطش قريش .. وبلغ إيذاء قريش للمسلمين ، وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ذروته .. إذ عمدت قريش ، إلى تشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم ، في مكة وخارج مكة .. وكان أبو جهل وأبو لهب يتناوبان على أذية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما يتم دعوتهم في الأسواق والمواسم ، وكان يجد منهما عنتًا كبيرًا ، إضافة إلى ما يلحقه من إعراض وأذى المدعوين أنفسهم ..


وكمثال على ذلك : وصل الحال في مكة ، إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يمشي ذات مرة ، فرأى امرأة عجوز ، تحمل حزمة من الحطب ، وهي متعبة جدا ، تمشي قليلاُ ثم تقف ، والعرق يتصبب منها .. فما كان منه صلى الله عليه وسلم ، إلا أن اتجه إليها ، وحمل عنها الحطب ، ومشى وهي تمشي وراءه .. وفي الطريق قالت له هذه العجوز  :  يا بني ليس عندي ما أكافئك به ، إلا أن أقدم لك نصيحة !

قال : ما هي؟..

قالت العجوز : هناك في مكة ، رجل سيء الخلق اسمه {{محمد بن عبد الله }} .. يفتن الناس ويسحرهم ، إياك أن تقترب منه ، أو تستمع إليه .. فلما وصلا الى بيتها ، قالت له : ما اسمك؟..

 فابتسم لها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : 

{{ محمد بن عبد الله }} ..

فذهلت وقالت له : أأنت هو ،هو؟ !

قال : نعم أنا هو ..

قالت العجوز : أنت الذي تدّعي أنك رسول من عند الله !

قال : نعم ، فأنا رسول الله .. 

قالت : أشهد أنك لصادق ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك يامحمد رسول الله .. 

فأسلمت هذه العجوز فى الحال ..

___________

أما خارج مكة : 

 كانت قريش أيضا ، تعوق الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن إبلاغ دعوته خارج مكة ،

فكان إذا جاء أحد من خارج مكة ، كانت قريش تحذره من الرسول ، وتقول  : 

هناك رجل ساحر اسمه : {{ محمد بن عبد الله }} .. إذا سمعت كلامه يسحرك ، ويفرق بينك وبين قومك ، وبين أبيك وزوجتك ..

حتى أنه جاء إلى مكة ، سيد من سادة قبيلة {{ دوس }} ، اسمه : {{عمرو بن طفيل }} .. فأخذوا يحذرونه من الرسول صلى الله عليه وسلم ، بقولهم : 

إياك أن تقترب منه ، إياك أن تكلمه ، إياك أن تستمع إليه ،

حتى حشى {{ عمرو بن الطفيل}} في أذنيه القطن .. خوفاً من أن يسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيسحره كلامه !!!


وانتشر هذا الحديث في الجزيرة كلها ، حتى وصل الأمر إلى أنه ، إذا أراد الرجل أن يسافر إلى مكة من أي مكان في الجزيرة .. كان قومه يحذرونه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقولون له : {{ احذر غلام قريش لا يفتننك }} !!!..

___________

ضاق الحال بالنبى .. 

{{ ضاقت فلما استحكمت حلقاتها .. فرجت وكنت أظنها لا تفرجُ }} .. عندئذ قرر النبي صلى الله عليه وسلم ، ترك مكة والهجرة منها {{ لكن كان عليه البحث عن المكان المناسب لنشر الدعوى ، بدون مضايقات وتحديات }}.. فالوقت يمر ، مرت أكثر من عشر سنوات منذ بداية البعثة ، والإسلام لا يتحرك أو أن الحركة أصبحت بطيئة جدا .. والرسول يريد أن يبلغ الدعوة ، ليس لأهل مكة فقط ، بل {{ للناس كافة ، للإنس والجن }} ، المهمة ليست سهلة على الإطلاق ..

___________

هنا ، قرر النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يعرض الإسلام على رؤساء القبائل خارج مكة ، 

في موسم الحج والمواسم التجارية .. وكانت كل قبائل العرب تأتي إلى مكة في موسم الحج ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينتهز هذه الفرصة ، ويعرض على تلك القبائل الدخول فى الإسلام ..


كانت هناك أسواق ثابتة معروفة للعرب بمكة ، يأتيها العرب من كل أنحاء الجزيرة العربية ، وفيها سلع مختلفة .. فكان صلى الله عليه وسلم ، يذهب أيضا الى هذه الأسواق ، حتى يلتقي بالعرب من كل أنحاء الجزيرة ..

كان يقف في الأسواق ويقول : هل من رجل ، يحملني إلى قومه فيمنعني ، حتى أبلغ رسالة ربي؟؟.. ، فإن قريشاً قد منعوني أن ابلغ رسالة ربي !!.. (يمنعنى أى يحمينى ويمنع عنى الأذى) ..


كان طلبه من هذه القبائل واضح 

وهو {{ الإيواء ، والنصرة ، حتى يبلغ كلام الله }} ..

___________

حتى كان يوم من الأيام .. وقف صلى الله عليه وسلم وقال :

{{  يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا }} ..

فمنهم من تفل في وجهه ،

ومنهم من حثا عليه التراب ،

ومنهم من سبه ، حتى انتصف النهار .. فأقبلت ابنته زينب رضي الله عنها وأرضاها ومعها الماء ، 

 فغسل وجهه ويديه ، وهو ينظر إلى الدمعة في عينيها ، من حزنها على أبيها صلى الله عليه وسلم ..

وقال لها : يا بنية ، {{ لا تخشي على أبيكِ غلبة ولا ذلة }} ..

كعادة الأب .. يريد أن يخفف عنها ، فالأب لا يتحمل دمعة من ابنته .. 


[[ هذا حبيب الله يا أمة محمد ، يا من تتباكون عند أول ابتلاء والبعض يكفر ، أنظروا كم تحمل صلى الله عليه وسلم ، من منكم يتحمل من الأذى ، ما تحمله حبيب القلوب صلى الله عليه وسلم ، وهو حبيب الله؟؟ ]] ..

___________


لقد واجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما تعرض له من أذى نفسي وبدني بالثبات على دينه ، والاستمرار في دعوته ، ليكون ـ في كل زمان ومكان ـ قدوة للمسلمين عامة وللدعاة خاصة في الصبر والثبات ، فإذا كان الإيذاء قد نال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يعد هناك أحد أكبر من الابتلاء والمحن ، وتلك سنة الله مع الأنبياء والمؤمنين ، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه ـ قال : (( قلت : يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟.. قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل .. يُبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة )) .. رواه ابن ماجه ،،

__________

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ، يخرج لمقابلة تلك القبائل سرا في الليل ، أو يذهب مسافرا إليهم في أماكنهم ، كما فعل مع الطائف .. 


ومن القبائل التى ذهب إليها الرسول صلى الله عليه وسلم

قبائل {{ كلب وبني حنيفة وبني عامر وغيرهم }} ..


حتى أن المفاوضات مع قبيلة {{ بني عامر }} كانت على وشك النجاح ، وهذه القبيلة كانت من أكبر خمس قبائل في الجزيرة ..

ذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرض عليهم دعوة الإسلام ، فقال رجل منهم اسمه {{  بيحرة بن فراس }} ، بعدما سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأُعجب بكلامه ، قال لقومه والنبي جالس بينهم : 

والله لو أني أخذت هذا الفتى لأكلت به العرب [[ يعني لو تكفلته ، لانتصرت على جميع العرب ، وذلك بعدما استمع إلى كلامه ]] .. ثم نظر للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له : 

أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك .. أيكون لنا الأمر من بعدك؟.. 

[[ يعني إذا بايعناك وأصبحت ملكا من الملوك العظام ، هل تعدنا أن نكون خلفائك في الملك ]] ..

فقال له صلى الله عليه وسلم :   {{الأمر لله يضعه حيث يشاء }} ..

فقال له : أَفَنُهدفُ نحورنا للعرب دونك [[ يعني نتعرض للموت بالدفاع عنك ]] .. فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟.. إذا لا حاجة لنا بأمرك .. 

[[ يعني نمكنك حتى تحكم وتنتصر ، ثم تجعل ناس غيرنا تحكمنا ]] ..

النبي صلى الله عليه وسلم هو من رفض {{ بني عامر }} .. بالرغم من أنها قبيلة قوية وكثيرة العدد ، لأن نية {{ بنى عامر }} ، كانت السلطة والسيطرة على العرب ، وليست لوجه الله تعالى ..

 _________


المفاوضات مع قبيلة  {{ بني شيبة }} .. وهي من القبائل المحترمة التي خرج اليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان معه {{ أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب}} .. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو راوي الحديث :

لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ، أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج وأنا معه ، حتى وصلنا إلى مجلس عليه السكينة والوقار ..

فقال لهم أبو بكر : من القوم؟؟.. [[ أى من أي قبيلة ]] ..

قالوا : {{شيبان بن ثعلبة }} ..

فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :  بأبي وأمي ، هؤلاء غُرَر الناس [[ يعني كبار القبيلة ]] ..

وكان يجلس بينهم رجل اسمه {{ مفروق }} ، يقول علي رضي الله عنه : كان مفروق  قد غلبهم لسانًا وجمالاً ، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبتيه ..

[[ يعني مفروق رجل يعرف كيف يتكلم ، وجميل الشكل ، وقوي البنية ، له غديرتان تسقطان على تريبتيه ، اي العظمتان أعلى الصدر إذا كانتا بارزتان ، فهما عند العرب ، علامة على القوة والجمال ]] ..

فاستأذنوا بالجلوس ، فجلس أبو بكر بجانب {{  مفروق }} ..

فقال أبو بكر رضي الله عنه لمفروق : كيف العدد فيكم؟ 

فقال مفروق : إنا لا نزيد على الألف ، ولن تغلب ألف من قلة ..

[[ يعني سأله أبو بكر  كم عددكم ، عندها فهم مفروق أن سؤال أبو بكر يدل على أنه يطلب منهم المساعدة .. فقال نحن عددنا ألف ولكن لا تستهين بالعدد ، أطلب ما تريد ]] ..

فقال أبو بكر : وكيف المنعة فيكم؟.. 

فقال مفروق : إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى .. [[ أي يبلغ غضبنا شدته عند القتال ، لا نرى أمامنا من الغضب ]] .. 

ثم قال مفروق لأبي بكر :

 لعلك أخو قريش؟.. [[ يعنى لعلك أنت ذلك الرجل الذي تتكلم عنه قريش ، الذي انتشر خبره ]] ..

فقال أبو بكر : إن كان بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، 

 فها هو ذا : [[ وأشار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ]] ..

فالتفت مفروق إلى رسول الله

وقال : إلام تدعونا يا أخا قريش؟ 

فقال له الرسول : 

{{ أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأني عبد الله ورسوله ، وإلى أن تؤووني وتنصروني .. فإن قريشا قد تظاهرت على الله ، وكذٌَبت رسوله ، واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغني الحميد }} ..

فقال مفروق : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟.. فو الله ما سمعت كلاما أحسن من هذا ..

فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوله تعالى : 

{{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }} ..


فلما سمع مفروق كلام الله ، ذُهل وتأثر وقال : دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك ، وظاهروا عليك ..

___________

ثم نظر مفروق إلى شيخهم 

وقال : يا أخ قريش ، هذا {{ هانئ بن قبيصة }} ، وهو شيخنا .. فقال هانئ : 

قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ، وإني أرى تركنا ديننا واتباعنا دينك ، لمجلس جلست إلينا لا أول له ولا آخر ، لذل في الرأي ..

[[ يعني أنا سمعت كلامك ، ولكن الحكمة تقتضى أنه من جلسة واحدة ، لا يجوز اتخاذ القرار ]] ..

وإنه لقلة نظر في العاقبة ، أن الزلة مع العجلة .. [[ أى لا داعى للعجلة ، لأن العاقبة تكون سيئة مع العجلة ]..

وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدا .. [[ أى نكره أن نتفق معك ، بدون أخذ رأي قومنا ]] ..


ثم نظر هانئ الى رجل آخر يجلس معهم [[ يعني شاركنا الحديث ]] 

اسمه {{ المثنى بن حارثة }} وقال : وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا ..

فقال المثنى [[ و قد أسلم بعد ذلك ]] .. قال : 

قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ،

والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة ، في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك .. [[ يعني هانئ قال الصواب ]] .. وإنا إنما ، نزلنا بين صَرَيَين أحدهما اليمامة والآخر السَّمامة ..

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : 

ما هذان الصريان؟؟..

قال : أنهار كسرى ومياة العرب ..

[[ أى يقول للنبي ، نحن عايشين في منطقة بين نارين ، بين كسرى وبين العرب ، على حدود إيران  والعرب ]] .

فأما ما كان من أنهار كسرى ، فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول ، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ، ألا نحدث حدثًا ولا نأوي محدثا ..

[[ يعني قومنا عايشين بعضهم بأراضي كسرى ، والبعض الآخر بأراضي العرب .. كما نقول على الحدود  ، وكسرى ما بيرحم وعاهدناه أن لا نأوي أحد ، يوجع رأسنا ورأسه ]

 وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش ، مما تكره الملوك [[ يعني إذا سمع كسرى بك وبدينك ما بيعجبه .. أنت تدعو الى مبدأ كلكم لآدم وآدم من تراب ، وكلنا سواسية ، الملوك ما بيعجبهم إلا السيد سيد والخادم خادم ]] .. فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب

فعلنا .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعجب بكلامهم : 

{{ ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق ، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه }} ..

ثم بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم : {{ أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم ، تسبحون الله وتقدسون }} ، فقالوا : 

اللهم فلك ذاك ..

وقد كان ذلك [[ صلى الله وسلم عليك يا حبيبي يا صادقاً بالوعد ]] ..

___________

كان موقف {{ بنى شيبان }} فيه وضوح وتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم ، عرضوا على النبي حماية جزئية ، وموقفهم جميل وعاقل .. 


يتبع .. الأنصار أهل يثرب {{ المدينة المنورة }} ، رضي الله عنهم .. لنعرف قدر أهل المدينة المنورة ، الذي سيخرج منها النور المحمدي ويملأ أركان هذا الكون 


الحبيب المصطفى  «  ٩٦ »

السيرة المحمدية العطرة ..

      (( بيعة العقبة الأولى))

___________

سقطت قريش كلها من عين النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلم أن بعد كل هذه السنين ، وهو بينهم يدعوهم إلى الله لا أمل فيهم ، وأخذ صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج ..

وعمه أبولهب يمشي وراءه يكذبه ، فتنفر الناس منه .. 

يقولون : إذا كان عمه يقول عنه هكذا ، فلا داعي أن نسمع ما يقول ..  

حتى التقى صلى الله عليه وسلم ، بنفر من الرجال الذين لم يصغوا إلى أبي لهب .. وقفوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ..

___________

فقال لهم النبى : ممن القوم؟ 

قالوا : من يثرب [[ المدينة المنورة ، كان اسمها يثرب ]] ..

فقال صلى الله عليه وسلم : من الأوس أم من الخزرج؟..

 [[ قبيلتين في يثرب ]] ،

قالوا : من الخزرج .. 

فقال لهم صلى الله عليه وسلم : هل تجلسوا أكلمكم؟؟..

قالوا : بلى يا ابن سيد قومه [[ هم يعلمون أنه ابن عبد المطلب ]] .. فجلسوا إليه ، وكان عددهم {{ستة}} وقيل {{ سبعة }} وهم :

١ - أميرهم أسعد بن زرارة ..

٢ - رافع بن مالك ..

٣ - معاذ بن عفراء ..

٤ - عوف بن الحارث .. 

٥ - عبادة بن الصامت .. 

٦ - عقبة بن عامر .. 

٧ - جابر بن عبدالله السلمي .. [[ ليس هو جابر بن عبد الله ، الصحابي المشهور برواية الحديث ]] ..

عددهم سبعة ، وأميرهم {{ أسعد بن زرارة }} ..

___________

قالوا : ماذا عندك يا أخ قريش؟.. 

قال : إني رسول الله إليكم ، وإلى الناس كافة ، أدعوكم إلى لا إله إلا الله ، ونبذ ما تدعون من دونه من آلهة تصنعونها بأيديكم ، ودعاهم إلى الإسلام وشرح لهم أخلاقه ومبادئه .. 


فقال بعضهم لبعض همسا (ليس على مسمع من النبي) .. أتعلمون ، أليس هذا الذي تحدثكم عنه اليهود..؟؟

 ويستفتحون به عليكم؟؟..


ولنا هنا وقفة .. ماذا عن اليهود في هذا المقام ، لنفهم السيرة أكثر؟؟..  

المغضوب عليهم [[ اليهود ]] فى

يثرب : كان يقيم فى يثرب قبائل عديدة من اليهود ، أشهرهم ثلاثة قبائل : 

١- بنى النضير .. 

٢ - بنى قينقاع ..

٣ - بنى قريظة ..

وكانوا يحاصرونها ، فيسكنوا شمالها ، وجنوبها ، وشرقها ،

أى أحاطوا بيثرب ..

___________

العرب كانوا قبيلتين : {{ الأوس ، والخزرج }} ..

أوس وخزرج ، كان جدهم واحد ، 

القبيلتين أبناء عمومة .. 

{{ أوس هو أخو خزرج }} من نفس الأب ونفس الأم ..

أمهم اسمها {{ قَيلى }} .. وأبوهم {{ حارثة بن عمرو بن عامر الكهلان }} ..  


وكانت اليهود تنسب العرب لأمهاتهم [[ يعني يقولون فلان ابن فلانة ]] ..

لماذا ينسبون العرب لأمهاتهم؟؟..

لأن اليهود أغلبهم أبناء زنا ، فلا ينتسبون إلى آبائهم ، بل ينتسبون إلى أمهاتهم وهذا طبعهم .. وعنهم أخذ العوام ، أن الرجل ينسب إلى أمه لا إلى أبيه ، [[ لأن أمه مؤكدة ، هي التي حملت وولدت ، أما من أبوه؟؟..  لا ندري .. هذا الكلام عند المغضوب عليهم اليهود ، ومن قلدهم ، ممن هم دون البهائم من سائر العرب ]] ..  ونلاحظ ذلك فى لغة الدجالين (( من يرغب فى فك أو عمل سحر ، يقول الدجال ، أعطيني اسمه واسم أمه )) ، لأن السحر والتعامل مع الشياطين ، من اختصاص المغضوب عليهم اليهود ، والدجالين تعلموا منهم الشعوذة ..

أما فى شرع الله ، قال تعالى :

 {{ أدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ }} ..

إذا اليهود ينادون العرب في يثرب ، من الأوس والخزرج :

{{ يا بني قَيلى }} ، ينسبوهم إلى أمهم .. 

_________

اليهود كانوا محور ومحرك الشر بين القبيلتين .. فكان يقع بين الأوس والخزرج ، ما يقع بين الناس من خلافات ، في تجارتهم وفي معاملاتهم .. [[ والعرب معروف عنهم الشهامة ، فهم أكرم قوم خلقهم الله ، وأكرمهم الله أن جعل حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء منهم ، وأكرمهم الله أيضا ، بأن أنزل القرآن بلغتهم ، وجعلها لغة أهل الجنة خالدين فيها أبداً .. الباكستاني والإيراني والتركي والهندي والأمريكي والفرنسي .. الخ ، من المسلمين ، كلهم سيتكلمون باللغة العربية في الجنة ، (إن كانوا من أهلها) إلى مالا نهاية  سوف تمحى اللغات كلها ، وتبقى لغة القرآن الكريم ، لغة العرب .. هل عرفتم قيمتكم أيها العرب؟؟ ]] ..


كان اليهود منذ نشأتهم ، قبل الإسلام وبعد الإسلام ، لا يحبون أن تتوحد العرب .. فكانوا دائماً يحدثون الوقيعة والعداوة بينهم ، وقد اتبعوا هذه السياسة ، فى التعامل مع الأوس والخزرج أولاد العم .. [[ ابن عمك قال ، وابن عمك عمل .. الأوس قالوا ، الخزرج قالوا ]] .. لأن اليهود يعلمون أنه لو اجتمعت قلوب أولاد العم وكلمتهم ، أصبح كل اليهود أذلاء تحت أقدام الأوس والخزرج !!.. [[ تماماً كما يحدث منهم معنا فى الفترة الحالية ، وتلك سياستهم في كل زمان ]] ..

___________

أضف إلى ذلك ، أن اليهود تركوا أهل يثرب من العرب ، يعملون بالزراعة .. أما هم فقد اهتموا بالعمل بالصياغة والمجوهرات ، وصناعة السلاح .. فكانوا أصحاب أسواق الذهب ، وصنع  السلاح ، (( سيطرة تامة على رءوس الأموال كعادتهم )) ..

[[ تماماً كحالنا اليوم ، نحن دول مستهلكة ، لا نجيد إلا الجدال وتعدد المذاهب لنتفرق أكثر ، ونتقاتل فيما بيننا كمسلمين ، ونضيع أموالنا على شراء الأسلحة من أعدائنا ، لنقتل بعضنا البعض .. هل عرفتم  الآن يا من تتابعون السيرة ، معنى قوله صلى الله عليه وسلم : [[ بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ]] ..

يصنعون السلاح ، فنشتريه لنقتل بعضنا البعض .. وهذا ما اتبعوه مع الأوس والخزرج ، كلما وجدوهم وقد عم السلام بينهم ، يحدثوا بينهم الفتنة .. ثم يبيعوا لكلا منهما السلاح ، حتى يتقاتلوا فيما بينهم .. وعندما يفيق الأوس والخزرج من غفلتهم ، يندموا على ما حدث بينهم .. وتعود الكرة من جديد ، يعنى اليهود كانوا يتلاعبون بهم كيفما شاءوا ... فإذا ما حدث وتصالحا الأوس والخزرج ، وطالت مدة توافقهما ، شعر اليهود بالضعف أمام العرب .. فلجأوا لحيلة أخرى وهى تخويف وترهيب العرب بأن يقولوا لهم : غداً يبعث النبي الخاتم ، وهو خاتم أنبياء ورسل الله ، (وفى ظنهم أنه سيأتى من بنى إسرائيل) .. فنؤمن به لأننا أهل كتاب ، وتكفرون أنتم يا أهل الأصنام ، فنقتلكم به قتل عاد وإرم (قوم هود عليه السلام) ..

فكان اليهود دائما  يكثرون القول عن هذا النبي الخاتم وصفاته ، وأنه سيبعث فى هذا الزمان ، وينتظرون بعثته .. 

___________

حتى عرف الأوس والخزرج أوصاف نبي آخر الزمان من اليهود أنفسهم .. وصدق الله العظيم إذ قال عن اليهود : 

{{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }} ..


وقال عنهم في موضع آخر :

{{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }} صدق الله العظيم ..

 

فعرف العرب أن هناك نبي سيبعث واقترب زمانه وعرفوا صفاته من اليهود .. 

___________

فلما عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه علي جماعة الخزرج ، قالوا لبعضهم البعض : أتعلمون ، أليس هذا الذي تحدثكم عنه اليهود ، وتتوعدكم به ويستفتحون به ؟

قالوا : ورب الكعبة إنه هو  !!!

فقالوا : فلا تسبقنا إليه اليهود ، ولنؤمن به .. 

فآمن السبعة رضي الله عنهم وأرضاهم ،  وعلى رأسهم كما ذكرنا : {{ أسعد بن زرارة أميرهم }} ..ووضعوا أيديهم بيد النبي صلى الله عليه وسلم ، إيمانًا فقط وليس بيعةً .. 

[[ يعني فقط شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ]] .. أسلم السبعة ، وعلمهم صلى الله عليه وسلم شيء من الدين .. 


فقال له أسعد بن زرارة : يا رسول الله ، لقد جئنا وكنا نريد أن نحالف قريش ، على إخوتنا بعد يوم بعاث .. 

[[ ماهو يوم بعاث؟؟.. قبل فترة من إسلامهم ، الأوس والخزرج حدث بينهم قتال ، فى مكان بالقرب من المدينة المنورة يسمى بعاث ، فمات كل الكبار منهم وساداتهم وزعمائهم ، وما بقى منهم إلا أبناؤهم الشباب ، وكانت هذه آخر الأحداث بين الأوس والخزرج أيام الجاهلية ]] ..

 قال أسعد : يا رسول الله ، إن جمع الله قومنا عليك فلا أعز منك فينا .. [[ أي إذا جمع الله بينهم برسول الله ، وأصلح قلوبهم بالمحبة .. سيكون النبى بينهم ، أعز من فيهم ]] ..

___________

وانطلقوا إلى قومهم دعاة إلى الله ، وشرح الله صدر البعض فجاءوا في موسم الحج الثاني ..

و بدلا من أن يكونون سبعة ، تخلف منهم اثنان .. 

وصحبهم من جديد سبعة رجال آخرين ، فأصبحوا {{  ١٢ رجلا }} ،

واجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة .. [[ أي عند جمرة العقبة في منى ، التي يرميها الحجاج في اليوم الأول فقط ، سبع جمرات ]] ..

اجتمعوا وبايعوا النبي ، وكانت بيعتهم لا تشمل جهادًا ، [[ وركزوا على هذه النقطة ، لم يبايعهم على الجهاد ، ولكن سنرى ماذا سيفعل هؤلاء الكرام في غزوة بدر ]] ..

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم :

{{ تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق .. فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه }} ..

فقالوا  : قبلنا وبايعوه ..

وانطلقوا إلى قومهم ، ونحن الآن في السنة {{ ١٢ من البعثة }} ، فكانت هذه بيعة العقبة الأولى ..

__________

فلما انطلقوا ، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنا نريد رجل من أصحابك يعلمنا القرآن ويكون إمامنا بالصلاة ..  خافوا إذا وقف الإمام من الأوس ألا يرضى الخزرج ، وإذا كان الإمام من الخزرج ألا يرضى الأوس .. وهم حديثو العهد بالإسلام ، فأحبوا أن يخرجوا من هذا المأزق .. 

فاختار لهم النبى صلى الله عليه وسلم ، أول سفير فى الإسلام

{مصعب بن عمير رضي الله عنه} ..

 مصعب أنعم فتى في قريش ومن السابقين إلى الإسلام ، عندما أسلم ، منعت أمه عنه المال ..

[[ بعدما كان مصعب ، يلبس أجمل الثياب ، وكان شابا منّعما بين شباب مكة كلهم ، وكان ينفق المال على جميع أصحابه من الشباب ]] ..

فلما أسلم ، منعت أمه عنه المال  وجعلته يلبس الخيش ..

[[ كيس من الخيش ، يشقه من الأسفل ، و يلبسه بعنقه رضي الله عنه وأرضاه ، لأنه لم يعد معه ما يشتري به من ثياب ]] ..


اختاره النبي أن يكون معلم الأنصار في المدينة ، عرف النبي صلى الله عليه وسلم من يختار ..

اختار مصعب الذي باع الدنيا كلها ، من أجل دينه .. فلا يمكن أن تدخل الفتنة إلى قلبه في المدينة ، ولابد أن يكون صادق ، والدعوة إلى الله تحتاج إلى الصدق بالإيمان .. 

[[ لأنه لو كان الإنسان متعلم ، وحافظ للقرآن ، وحافظ ألف حديث ، وليس في قلبه صدق ، سترى كلامه جاف ، لذلك نرى بعض الدعاة على المنابر ، صراخ وتباكي وصياح ، ليحركوا قلوب الناس ، وليس هناك داعي لكل هذا الكلام ، لأن الداعية ، إذا لم يكن قلبه صادقا مع الله ، مستحيل يوصل كلامه لقلوب الناس ، مهما علا صوته بالصراخ ]] ..

مصعب بن عمير ، كان معجوناً بالصدق عجناً ، رضي الله عنه وأرضاه .. وسنرى ماذا فعل مصعب فى المدينة المنورة ، رضي الله عنه ...


الحبيب المصطفى  «  ٩٧ »

السيرة المحمدية العطرة .. 

(إسلام سعد بن معاذ رضي الله عنه)

__________

ذهب{{ مصعب بن عمير }} معهم إلى يثرب [[ المدينة المنورة ]] .. ونزل ضيفا عند أسعد بن زرارة ، 

وأصبح مصعب يبيت عنده ، وفي النهار يذهب ويدعو الناس إلى الله ..

وكان يجتمع بهم بعد العصر في بستان ، فيقرأ عليهم القرآن ويعلمهم تعاليم الدين .. 

وكان أسعد بن زرارة، له ابن خالة وهو سيد الأوس،اسمه:{ سعد بن معاذ}

___________

انتشر الخبر بالمدينة ، أن أناسا اتبعوا دين القرشي ، وأن محمدا قد أرسل رجل من أصحابه ، يعلمهم هذا الدين الجديد..


وذات يوم ، ذهب أسعد بن زرارة بصحبة مصعب ، إلى بستان قريب من بستان سعد بن معاذ ، 

وكان هذا البستان يجتمع من حوله شباب يثرب .. فاصطحب أسعد بن زرارة ، مصعب إليه .. وجعله يقرأ القرآن هناك بصوت مسموع ، فاجتمع الشباب حوله يستمعون ..

[ قريش كانوا سادة ، وفيهم الكثير من كبار بالسن ، وكفر أغلبهم برسول الله ودين الله ]

أما في المدينة .. فكما قلنا قبل خمس سنين ، قامت حرب في منطقة بعاث وسميت {{ يوم بعاث }} ، وكانت بين الأوس والخزرج ، قُتل فيها كبار الأوس والخزرج جميعا ، واستلم السيادة شبابهم ( فكان قادتهم من حديثى السن ) ، وانظروا إلى دور الشباب في المجتمع .. 


اجتمع الشباب حول مصعب ، وهو يقرأ القرآن ويرتله كما أُُنزِل ، وكما تعلمه من النبي صلى الله عليه وسلم .. 

فنظر إليهم سعد بن معاذ من بستانه ، فغاظه ما رأى من تجمع الشباب حول مصعب ..

___________

فقال لابن عم له واسمه {{ أُسيد بن الحضير }} :

قال : يا أسيد ، لا أب لك [[ وكلمة لا أب لك ليست سب عند العرب ، ولكنها كلمة تودد ، فيها مدح للذي تتكلم معه .. معناها يا من  لا تعتمد على أبيك ، أى أنه رجل يعتمد على نفسه فى كل أموره ، ولا حاجة له بمساندة أباه ]] ..

قال : يا أسيد لا أب لك ..

قال : نعم يا سيد قومه .. 

قال : ألا ترى ما يصنع ابن خالتي أسعد بن زرارة ، واللات لولا صلة الرحم بيني وبينه لقمت ومنعته ،  

اذهب إليه أنت يا أسيد هو والقرشي الذي معه ،  فامنعهم عما يفعلون..

قال أسيد : أجل يا سيد قومه حباً وكرامة .. 

فقام {{ أسيد بن حضير }} ومعه حربة ومضى إليهم ..

___________

فلما قدم إليهم أسيد ،

قال : ما شأنكما؟.. اعتزلوا هذا المكان ، إن كان لكم في أنفسكم حاجة ، [[ يعني اذا أردتم أن تظلوا سالمين (كلمة تهديد) ]] ..

فنظر إليه {{مصعب بن عمير رضي الله عنه }} ..

[[ وهذا درس لكل داعية إلى الله ، من  أصحاب الصوت العالى والكلام الجارح .. "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ  وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" ]] ..

نظر إليه مصعب وابتسم ، وبكل هدوء ولطف قال له : 

أولك خير من ذلك؟..

قال : ما هو؟.. 

قال له مصعب : تجلس فتسمع ، فإن سمعت شيئاً يرضيك فهو ذا ، وإن كرهته ابتعدنا وكفيناك ما تكره .. 

فقال له أسيد : أنصفت ، فوضع حربته وجلس .. 

فقرأ عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام .. فتغيرت ملامح وجهه وقد تأثر بكلام الله عز وجل ..

قال : بما يأمر دينكم هذا؟.. 

فذكر له تعاليم الدين .. 

فقال : إنكم تدعون إلى شيء حسن ، ماذا يصنع من أراد الدخول في دينكم؟.. 

قال له مصعب : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ثم تغتسل وتتطهر وتصلي ركعتين لله ..

فقام وفعل كما قال له مصعب وجلس معهم يستمع .. ونسي سعد بن معاذ ، فلما تذكر استأذنهم وذهب مسرعاً لسعد بن معاذ ، وهو يتمنى لو أن سعد هو الذي أسلم ..

___________

فلما أقبل أسيد ، نظر إليه سعد من بعيد وقال للحاضرين : 

أقسم لكم لقد عاد أسيد بغير الوجه الذي ذهب به .. [[ شيء طبيعي ، ذهب بوجه مظلم ، وجه مشرك بالله ، ورجع بوجه مضيء ، وجه مسلم يؤمن بوحدانية الله ]] ..

فلما وصل ، سأله سعد : 

يا أسيد ما الخبر؟؟..

قال : يا سيد قومه لا بأس عند القوم ، وقد نهيتهم ووعداني أن يمتنعوا عن ما تكره .. 

فلم يعجب سعد هذا الكلام ، وقام من مكانه غاضباً وقال : 

ما كفيتني هاتيها ، فأخذ الحربة من يد أسيد ، ومضى سعد ولحقه أسيد بن الحضير ، لأنه رأى أن سعد ذهب لقتال وشر ..

___________

فلما أقبل سعد بن معاذ إلى مصعب وأسعد بن زرارة ، واقترب منهم .. 

قال أسعد : يا مصعب ، جاءك سيد قومه كلهم ، هذا إبن خالتي سعد بن معاذ ..{والله لإن آمن هذا الرجل على يديك يا مصعب ، سيسلم الأوس كلهم ، يا مصعب أصدق الله فيه .. فتوجه مصعب بقلبه إلى الله بالدعاء}

فلما وصل سعد بن معاذ ، وقف أمام مصعب وأسعد ، وكان غاضبا وهو سيد قومه ..

[[ والسيد إذا كان سيدا بمعنى الكلمة ، لا يخرجه الغضب عن العقل والحلم ولو كان غاضباً ]] ..

فوقف ولأنه سيد قومه قال : 

ما شأنكما ، ألم أرسل إليكما نذير؟..

فابتسم مصعب رضي الله عنه وأرضاه ، وقال له بهدوء : 

يا سيد قومه .. 

قال : نعم .. 

قال : ألا تجلس وتسمع ، إن سمعت شيئاً يرضيك هو ذاك ، وإن سمعت ما تكره كففنا عنك ما تكره .. 

قال : قد أنصفت وزدت في الإنصاف ..


وأسند حربته على النخلة ، وجلس وقال : هاتِ ما عندك .. 

فقرأ مصعب عليه  القرآن من سورة الزخرف ، وكان مصعب حسن الصوت :

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{{ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ  * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ * وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ }} صدق الله العظيم ،،

___________

فلما سمع سعد كلام الله ..

يقول أسعد بن زرارة عن سعد : 

{{ والله الذي لا إله إلا هو ، لقد رأيت الإسلام في وجه سعد بن معاذ ، قبل أن ينطق بالشهادة .. وقد أشرق وجهه وهو يسمع القرآن }} ..

فلما انتهى مصعب دعاه إلى هذا الدين .. 

قال سعد : ماذا يصنع الذي يريد أن يدخل فى هذا الدين؟..

قال له مصعب : قُم يا سيد قومه فتطهر ، ثم تشهد ثم صلي ركعتين لله .. 

فقام واغتسل ، ولبس ثياب نظيفة ، ونطق الشهادتين وصلى ركعتين كما علمه مصعب .. 

ثم سأل سعد بن معاذ رضي الله عنه :

ما واجب من يدخل هذا الدين؟..

قال له مصعب : أن يدعو غيره إليه ..

___________

 فقام سعد بن معاذ حتى أقبل على قومه ، فلما رأى القوم سعد بن معاذ من بعيد قادما إليهم ..

 قالوا جميعاً : واللات لقد عاد إليكم سعد بن معاذ بوجه غير الذي ذهب به ، {{ نور الإيمان}} ..

فوقف سعد بن معاذ أمامهم وقال : يا بني عبد الأشهل .. 

قالوا : نعم يا سيد قومه .. 

قال : كيف تعلمون أمري فيكم؟.. 

قالوا : سيدنا وابن سيدنا ، وأعقلنا ، وأحكمنا ، إذا أمرت فأمرك مطاع .. 

فقال سعد : فإن كلامكم علي حرام ، رجالكم ونساؤكم ، حتى تؤمنوا بالله ورسوله .. 

فدخلت بني عبد الأشهل كلها في ليلة واحدة في دين الله .. 


يقول مصعب : والله الذي لا إله إلا هو ، لم ننم في تلك الليلة ، وفي بني عبد الأشهل رجل مشرك .. وقام سعد وأسيد ابن خالته، يحطمان الأصنام .. 

دخل أغلب سكان المدينة المنورة بالإسلام بكل سهولة ، لماذا؟؟..

سبب انتشار الإسلام في المدينة بهذه السرعة ، لأن طبع أهل المدينة هو الرقة واللين ، وعدم الكبر وجحود الحق .. وذلك يرجع إلى أصلهم ، لأن أصل أهل المدينة من اليمن ، وأهل اليمن معروفون برقة القلب ، ولين الطباع .. لذلك قال صلى الله عليه وسلم ، لما جاءه وفد من اليمن ، قال : 

{{ أتاكم أهل اليمن ، هم أرق أفئدة وألين قلوباً }} ..

شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأهلنا في اليمن ..

وهناك سبب آخر وهو : 

وجود قبائل لليهود في المدينة ، جعل أهل المدينة على علم بأن ، هنا نبي سيبعث في ذلك الوقت ، وكان اليهود في المدينة دائما يرددون : {{ إن نبياً مبعوثاً الآن قد أظل زمانه }} ، يعني جاء وقته ..

___________

سعد بن معاذ رضي الله عنه سنرى منه من خلال السيرة مواقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسلم وكان عمره {{ ٣٠ }} عامًا ومات وعمره {{ ٣٦ }} عامًا ، ست سنوات فقط في الإسلام ، ولما توفى اهتز لموته عرش الرحمن ..  


فقد ثبت في الحديث الصحيح المتواتر عن النبي عليه الصلاة والسلام ، اهتزاز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ رضي الله عنه ، (( الحديث المتواتر ، هو حديث فى أعلى درجات الصحة والثبوت .. وهو الحديث الذى رواه جماعة ، يستحيل أن يتواطؤوا على الكذب ، وأسندوه إلى شيء محسوس )) .. وقد جاء في بعض الأثر أنّ سبب اهتزاز عرش الرحمن ، إنّما كان فرحاً من رب العزة بلقاء سعد ، وأما الكيفية فلا يُسأل عنها .. وقال شيخ الإسلام إبن تيمية في مجموع الفتاوي : إنّ اهتزاز عرش الرحمن ليس فيه نقيصة في حق الله تعالى ، سواء كان سبب اهتزازه فرح العرش بمقدم روح سعد ، أو كان بسبب فرح الرحمن للقاء سعد ، وإن اهتزاز العرش ليس من صفات الله تعالى ، وإنّما من صفات العرش المخلوق ..


سعد بن معاذ الذي كان بديناً كما يصفه الصحابة [[ كان وزنه زائد ]] .. عندما استشهد وحملوه الصحابة ليدفنوه ، لم يجدوا له ثقلاً ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ، لقد حملته الملائكة .. وشهد دفنه سبعون ألف من الملائكة ، لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك .. 

رضي الله عنه وأرضاه ،،،



[١١:٠٣ م، ٢٠٢٢/١٠/٢٣] عادل الجوهري: الحبيب المصطفى  « ٩٨ »

السيرة المحمدية العطرة .. 

      (( بيعة العقبة الثانية ))  

__________

انتشر الإسلام في يثرب ، ولكن

 مازال من أهل يثرب ، من لم يدخلوا في الإسلام بعد .. 

إنما الذين دخلوا جميعهم هم ، قوم {{ سعد بن معاذ من الأوس }} ..

 أما الخزرج ، فمنهم من أسلم ، ومنهم من لم يسلم .. ولم ينتشر الإسلام في كل بيوت الأنصار ، ولكن نستطيع القول ، أن عددًا كبيرًا من أهل يثرب انتشر فيهم الإسلام .. 

[[ يثرب لم يكن اسمها المدينة المنورة ، ولكن سُميت بالمدينة المنورة ،  بعد أن هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم فسماها بالمدينة المنورة ، وسماها طيبة ، وسماها طابة .. ونهانا أن {{ نسميها يثرب }} ، ؛ لأن يثرب تعني التفرق ونحن لا نقول يثرب إلا في سرد السيرة ومقام التعريف فقط ]] ..

___________

انتشر الإسلام بالمدينة المنورة ، وأقام مصعب فيها كما ذكرنا من قبل ، سفيراً لرسول الله يعلم الناس القرآن وتعاليم الدين ، حتى عُرف بالمدينة بالمقرئ ..

الناس من أهل المدينة ، الذين دخلوا فى الإسلام ولم يروا نبيهم ، ولم يسمعوا صوته صلى الله عليه وسلم .. أصبحت قلوبهم تتشوق لرؤيته ، وانتشر بين المسلمين في المدينة هذا الحديث : 

[[ إلى متى نحن آمنون مطمئنون ، ونترك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يتعرض للأذى من قريش ، ويعرض نفسه الكريمة على القبائل ، ألا فلنبايعه ونخرجه من مكة إلينا ]] .. 

شعور أهل المدينة ، كان كشعورنا نحن الآن ممن يتابعون السيرة ، لم نره ، ولم نسمع صوته صلى الله عليه وسلم ، حتى أننا لم نر  من رآه .. ( والله يارب أنت تعلم مافي قلوبنا من شوق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجعله شفيعنا يوم القيامة ، واسقينا من يده الشريفة شربة ماء لا نظمأ بعدها أبدا ... حُرمنا رؤيته في الدنيا ، فلا تحرمنا جواره وجوار أصحابه في الجنة ).. 

___________

ولنا شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نعتز بها : 

خرج على أصحابه يوماً ، وقد جلسوا يتدارسون [[ أي يتباحثون ]] ..

فسألهم صلى الله عليه وسلم ، عن أي شيء يتدارسون؟؟..

قالوا : نقول من أشد خلق الله إيماناً؟..

قال : فماذا قلتم؟؟..

قالوا : قلنا ، أشد الخلق إيماناً {{ الملائكة }} ..

فقال لهم : كيف لا يؤمنون وهم يطوفون حول العرش؟؟..

قالوا : الأنبياء .. 

قال : كيف لا يؤمنون وقد أنزل عليهم الوحي؟؟ ..

قالوا : إذن نحنُ يا رسول الله ..

قال : كيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ، ويتنزل الوحي علي من السماء؟؟.. 

قالوا : إذن من يا رسول الله؟؟..

فقال : قوم من أمتي من بعدي ، يجدون كتاب بين أيديهم ، يقرأونه فيؤمنون به ، ولم يروني .. يود أحدهم لو رآني بأهله وماله ، أولئك أشد خلق الله إيماناً ..

نحمد الله على نعمة الإيمان ، ومحبة الله ورسوله ، نحمد الله على نعمة {{ لا إله إلا الله محمد رسول الله }} ..

___________

فلما كان موعد الحج ، (( وكان عددا كبيرا من مسلمى قريش يريدون الذهاب للحج للتعرف على النبى ومبايعته )) .. سبقهم مصعب قبل موسم الحج إلى مكة ، وأخذ ينسق بينهم وبين رسول الله ، وكانت هذه خطة محكمة ، وضعت حتى لا تشك قريش بهذا التنسيق ، فمصعب قرشي وهو من أهل مكة ..

وكان الاتفاق أن موعدهم في الحج .. 

وقال لهم مصعب : أن يختاروا منهم بعض الرجال ، ونصحهم ألا يكون العدد كبير .. لأن الذين أسلموا أعدادهم أصبحت كثيرة في المدينة المنورة .. فلو اجتمعوا بالنبي في مكة جميعا ، انفضح أمرهم ، فاتفقوا أن يكون عددهم فى حدود {{ ٧٠ رجل }} .. فعدد ٧٠ رجل بين أعداد الحجيج ، الذين يأتون إلى مكة من جميع بقاع الأرض ، لن يستطيع أحد من كفار قريش أن ينتبه لهم .. 

___________

فخرج ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان .. وسبقهم مصعب ، 

وكان مصعب هو همزة الوصل بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .. 

أخبرهم صلى الله عليه وسلم ، عن طريق مصعب ، أن موعدهم معه أواسط أيام التشريق .. 

[[ يعني بمفهومنا الآن ، ثالث يوم العيد فى الصباح الباكر ]] ، وكان موعدهم عند جمرة العقبة ، وسنرى حكمة رسول الله فى هذه المباحثات ، وأخذه بالأسباب .. 


قال يا مصعب : قل لهم إذا مضى الثلث الأول من الليل ، والناس قد ناموا .. فلا تنتظروا غائب ولا توقظوا نائم ، وليتسللوا إلى العقبة تسلل القطا .. 

[[ لم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم صيادا ، وسبحان الذي علمه طباع القطا ، فهو نوع من الطيور يعرفها الصيادون ، من كثرة حذرها من الصيد ، لا تنام كما ينام الطير .. بل تقف على رجل واحدة ، وتأخذ بالرجل الأخرى حصاة ، حتى إذا غلبها النوم ، ترتخي المفاصل فتسقط الحصاة ، فتستيقظ من نومها ، فتطير وتغير موقعها ]] ..

قال له : وليتسللوا تسلل القطا ، فإن عليهم من قريش عين .. [[ يعلم أن قريش تراقبهم ]] ،

لأنه إذا افتضح أمرهم ، لا تُحمد العاقبة ..

تم تحديد الموعد ، وكان موعد يثبت مدى دقة رسول الله ، وتوخيه الحذر ، وأخذه بالأسباب .. 

__________

اختار رسول الله ، أن يكون اللقاء في الثلث الأوسط من الليل ، وهو وقت يكون فيه جميع الناس في مكة ، يغطون في نوم عميق .. [[ لأنه قد يتأخر نوم بعضهم إلى الثلث الأول من الليل قبل الفجر ، أما عن الثلث الأوسط ، فأغلب الظن أن أهل مكة والحجيج ، سيكونون في سبات عميق ]] ..

واختار رسول الله مكان بعيد ، وهو الشعب الأيمن عند العقبة .. حتى يكون بعيد عن عيون المراقبين ، إن كان هناك من مستيقظ حتى هذه الساعة ..

((كما قلنا من قبل الشعب معناه الطريق بين جبلين)) ..


وتكتم صلى الله عليه وسلم على الموضوع ، ولم يخبر إلا ثلاثة وهم محل ثقتة :  أبا بكر الصديق ، وعلي بن أبى طالب ، وعمه العباس ، ولم يخبر أحدًا من المسلمين ؛ لأنه لدواعى السرٌِيٌَة ، يجب ألا يعرف أحد شيئا عن الموعد ، توقيته ومكانه ..   

___________

 يقول كعب بن مالك الأنصارى : فما نمنا تلك الليلة ، ونحن نتشوق لرؤية رسول الله لأول مرة .. حتى إذا مضى ثلث الليل ، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ، نتسلل تسلل القطا .. وكانوا يخرجون رجلًا رجلًا ، أو رجلين رجلين ، حتى اكتمل ثلاثة وسبعون رجلًا من الأنصار  وامرأتان ،  في الموعد المحدد ..

وجاء أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعده ، وكان معه عمه العباس بن عبد المطلب وأبو بكر وعلي .. 


فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم ، أبا بكر إلى فم الشعب من ناحية ، وعلي إلى فم الشعب من الناحية الأخرى ، ((فم الشعب معناه أول الطريق)) .. وذلك 

ليعطيا إشارة إلينا ، إذا شاهدوا حركة مريبة أو شروع فى مراقبة المكان .. 


{{ وهذا اللقاء ، كان أعظم لقاء على وجه الأرض منذ أن خلقها الله ، لقاء تغيرت به خريطة العالم كله ، وقامت دولة الإسلام عليه .. سقطت عروش الجبابرة وانتشر الإسلام في كل بقاع الأرض }} ..

___________

اجتمع القوم .. وقالوا : 

لما مضى نصف الليل ، {{وإذا بطلعة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، تطل علينا }} ..

ومعه رجل بعضنا يعرفه ، وبعضنا لا يعرفه .. وهو {{ العباس بن عبد المطلب عم النبي ، وكان مازال على دين قريش ولم يعلن إسلامه بعد }} ..

حضر مع النبي ليطمئن على ابن أخيه ، فلما أقبل علينا ورأينا النبي ، قمنا لاستقباله والسلام عليه .. فطلب النبى من الجميع الجلوس ، ثم جلس صلى الله عليه وسلم ..


ثم أكمل كعب بن مالك الأنصارى حديثه قائلا :

كان العباس عم النبى أول من تكلم ، فقال : يا معشر الخزرج (( وكانت العرب تسمى يثرب أوسها وخزرجها بالخزرج ، وهى القبيلة الأكبر فى يثرب )) ، 

قال العباس : إن محمدًا منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، فهو في عِز من قومه ومنعة في بلده ، وإنه قد أبَى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفوه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم ، فمِن الآن فدعوه ، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده ..

___________

قال كعب : فقلنا له ، قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت .. 

فتكلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتلا القرآن ، ودعا إلى الله ورَغٌَبْ في الإسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تؤمنوا بالله ، ولا تشركوا به شيئا ، وعلى السمع والطاعة فى النشاط والكسل ، والنفقة فى العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وأن تقولوا فى الله لا تخافوا فى الله لومة لائم ، وأن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم .. قال : فأخذ البراء بن معرور  بيده ، ثم قال : نعم ، والذي بعثك بالحق نبيا ، لنمنعك مما نمنع منه أزُرَنا (أى نساءنا وأهلنا) ، فبايِعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحروب ، ورثناها كابراً عن كابر ، (( أى عن آبائنا وأجدادنا كبيرا عن كبير ،  فى العز والشرف )) .. 

قال : فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله ، أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالا ( يقصد اليهود بيننا وبينهم حبال وصل ومعاملة ) ، وإنا لقاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ( أى إن قطعنا علاقتنا باليهود وانضممنا إليك ) ، ثم أظهرك الله ، أن ترجع لقومك وتدعنا؟.. 

قال : فتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال : 

بل الدم الدم ، والهدم الهدم (( أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم )) ، أنا منكم وأنتم منى ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم .. فقال الهيثم : إن بايعناك على ما طلبت ، فماذا لنا؟.. قال النبى : لكم الجنة .. ( وكأنه يبشرهم جميعا بالجنة ) .. فقالوا : لما التردد يا قوم؟.. 

فقال أسعد بن زرارة : مهلا .. تعلمون أنكم تبايعون على حرب العرب قاطبة ، فإن أنتم قوم تعلمون أنكم صابرون على هذا فبايعوه ، وإلا فمن الآن دعوه ، كما قال عمه .. فهو خير لكم فى الدنيا والآخرة ، وأعز لرسول الله .. فقالوا جميعا : 

والله ما جئنا إلا لنبايعه على ذلك ..

___________

فبايعوه رجلًا رجلًا بدءًا من أسعد بن زرارة وهو أصغرهم سنًا ، وكان الرِّجال تصفق على يدي النبي بالبيعة ، أما الامرأتان اللتان حضرتا البيعة مع أزواجهما ، فقال لهما النبي : «قَدْ بَايَعْتَكُمَا ، إنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ»، وكان ذلك في شهر ذي الحجة ، من العام الثالث عشر من البعثة ، قبل الهجرة إلى المدينة بثلاثة أشهر ، الموافق : (يونيو سنة 622م) .. فكانت هذه بيعة العقبة الثانية ، وهى ما سميت فى التاريخ ببيعة العقبة الكبرى .. وقد سميت أيضا ببيعة الحرب ، لأنها كانت تشمل البيعة على القتال ، والذى لم يكن شرطا فى البيعة الأولى ..


ثم قال لهم : «أَخْرِجُوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم» ، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا ، تسعة من الخزرج وهم : أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك ، والبراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو .. وثلاثة من الأوس وهم : أسيد بن حضير ، وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر ..


الحبيب المصطفى  «  ٩٩  »

 السيرة النبوية العطرة ..                                        ( النقباء )

___________

كما ذكرنا من قبل .. بعد أن تمت البيعة ، طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، أن يختاروا ١٢رجلا ؛ليكونوا نقباء على قومهم .. 

[[ يتكفلون بالمسئولية عنهم في تنفيذ بنود هذه البيعة ]] ..


ولم يتدخَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بتاتًا ..  ولكن تُرِكَت الحرية كاملة للأنصار في اختيار ممثليهم ، وجلس الأنصار معًا يُجرون عملية الانتخاب ، وقد اجتمع الأوس والخزرج لأول مرَّة في تاريخهم ، يختارون قيادة ائتلافية .. لقد كانوا من قبلُ يتصارعون ويتقاتلون ويذبح بعضهم بعضًا ، ثُمَّ آمنوا ، فانظر إلى حالهم وقد وضعوا أيديهم على أكتاف بعضهم البعض يختارون ممثلين شرعيين لمجتمعهم الجديد ..

فعمَّا قليل سيُصبح للإسلام دولة ، وإنَّ الذي جمع الأوس والخزرج هو توحيد الغاية والهدف ، فعندما كان الكرسي هدفًا والقيادة مطلبًا ، كان الخلاف والنزاع الذي لا نهاية له .. وعندما أصبحت الجنَّة هي الهدف والغاية والثمن ، عَلِمَ الجميع أن جنَّة الأوس هي جنَّة الخزرج هي جنَّة المهاجرين هي جنَّة كل المسلمين ، وانقلب التنافس على الكرسي إلى التنافس على الجنَّة ، قال تعالى : {﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ﴾} ..


قد علم الجميع أن الوحدة والألفة طريق إلى الجنَّة ، وأن الفرقة والتشرذم طريق إلى النار ، فجلس الجميع معًا منذ علموا هذه الحقيقة ، قال تعالى : {﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾} .. 

وفي دقائق معدودة انتخب الأنصار نوَّابهم ، وتمَّ الانتخاب بنسبة التمثيل في البيعة ، فكان الخزرج يُمَثِّلون 75٪ من المبايعين ، وكذلك كان نُوَّابهم يُمَثِّلُون 75٪ من النواب .. والباقى كان من نصيب الأوس ، وقد ذكرنا أسماء هؤلاء النقباء ، فى الحلقة السابقة ..

وبالنظر إلى أسماء النقباء ، نلاحظ عدم وجود البطل الإسلامي العظيم ، سعد بن معاذ رضي الله عنه بينهم ، الذي لم يستطع أن يحضر هذه المباحثات في مكة لسبب غير معروف ..

___________

بعد أن تمت عملية الانتخاب ، قال صلى الله عليه وسلم للنقباء : .. {{ أنتم على قومكم كفلاء ، كفالة الحوارين لعيسى بن مريم .. وأنا كفيل على قومي }} ..


بهذا يستطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يُدير الأمور بكفاءة كاملة ، فقد جعل كل نقيب من هؤلاء النقباء مسئولًا عن الأنصار الذين تحت إمرته ، فيحمل لهم أوامر القيادة النبوية ، ويتعهَّد بمتابعة تنفيذ هذه الأوامر بدقَّة ، ولم يكتفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك .. بل طلب من نقباء يثرب أن يختاروا واحدًا منهم يكون بمثابة نقيب النقباء ، فاختاروا أصغرهم، وهو أسعد بن زرارة رضي الله عنه .. وكان من الواضح أنه شاب موهوب صاحب ملكات فذَّة أهَّلته لهذا المنصب الرفيع ، كما لم يعفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من المسئولية ، فجعل نفسه كفيلًا على المسلمين من أهل مكة ، بمعنى أنه يتحمَّل مسئولية أهل مكة بعد الهجرة ، ويتكفَّل بأمورهم أمام الأنصار ..


ثم قال : انفضوا إلى رحالكم [[ أي تفرقوا ]] تسلل القطا كما جئتم لا يشعرن بكم أحد ، 

[[ أخذا بالحيطة والأسباب ]] ..

___________

ولكن لأمر يريده الله ، اكتشف مشركو قريش ، أمر هذا اللقاء ..  

فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم خطورة الموقف ، وعَلِمَ أن قريش ستأتي بعد قليل إلى هذا المكان ، فقال للأنصار بسرعة : «ارْفَعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ» .. إنه يُريد لهم العودة إلى خيامهم مسرعين حتى لا يُكْشَف أمرهم ، لكنه فُوجئ بالعباس بن عبادة رضي الله عنه ((أحد المجتمعين من أهل يثرب)) يقول له : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا .. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : 

  «لَمْ أُؤمَرْ بِذَلِكَ» ..

___________

 ما إن أشرقت الشمس حتى جاءت قريش تسأل الخزرج ما الأمر الذي اتفقتوا عليه ليلاً مع محمد ؟؟ 

هل تحالفونه على حربنا؟؟..

يقول كعب بن مالك : فأخذ بعضنا ينظر إلى بعض ..

من الذي سرٌَب الخبر؟؟..

قال كعب : وقام المشركون الذين أتوا معنا من يثرب ((وكانوا لا يعلمون بأمر اللقاء والبيعة)) .. قاموا يقسمون لقريش باللات والعزى ، أنه لم يكن مما تقولون شيء [[ وهم صادقون لأنهم لم يعلموا ]] .. ثم توجهت قريش بالكلام إلى سيد الخزرج  ، وهو أيضاً لا يعلم بالموضوع وهو {{ عبد الله بن سلول }} ..

عبدالله بن سلول هذا ، سيأتي ذكره معنا فى السيرة ..  [[ لما هاجر النبي للمدينة ، وانتشر الإسلام أصبح رئيس المنافقين فى المدينة ]] 

وسبحان من ساقه ليكون في هذا الموقع ؛ لأن قريش تثق به .. 

فقال عبد الله بن سلول : ما هذا يا قريش إني زعيم قومي كما تعلمون ، ولا يخفى عليّ أمر مثل هذا .   .

 فو اللات والعزى ، ما حدث ما تذكرون أبداً ..

قالوا : صدقت يا ابن سلول فمثلك لا يكذب ، [[ المشركون يصدقون بعضهم البعض ]] ..

___________

فلما انطلقت قريش ، أسرع القوم بالخروج من مكة ، ولكن انتشر الخبر أكثر ، فلقد بحثت قريش ودققت بالخبر ، حتى تأكدوا أنه كانت هناك بيعة مع محمد في تلك الليلة صلى الله عليه وسلم .. 

وكان الأنصار أهل يثرب قد رحلوا ، وأصبحوا على أطراف مكة ..

فطاردوا المسلمين المبايعين ، ولحقت قريش بآخر القافلة .. فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو ، فأما المنذر فاستطاع الهروب ، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه ، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ،

 [[ سعد بن عبادة هو سيد الخزرج ]] .. أوثقوه بالحبال ،

وأعادوه إلى مكة ضرباً وتوبيخاً .. 


يقول سعد بن عبادة راوي هذا الحديث : 

فبينما هم يضربوني ، اقترب مني رجل لا أشك أنه يكتم إيمانه .. [[يعني مسلم من مسلمى مكة ، من بين المستضعفين]] ..

كان يقف مع قريش ، فهمس في أذني وقال : ويحك أليس بينك وبين أحد من رجال قريش عهد؟؟ .. فقلت له  : 

بلى والله إني كنت مجير ، {{المُطعم بن عدي }} في تجارته 

[[ يعني لما كانت تمر تجارة {{ المُطعم }} من يثرب ، كان سعد يحمي تجارته ]] ..

قال له : فناديه باسمه ، وأنا أذهب وأبلغه .. 

قال : فهتفت باسم المُطعم ..

___________

ثم انطلق الرجل إلى المُطعم ،

وقال : يا مُطعم بن عدي ، هناك رجل من أهل يثرب يصرخ باسمك ، ويقول بينك وبينه عهد ، و إنه الآن يُضرب من قريش .. 

قال : ما اسمه ؟؟!!

قال له : سعد بن عبادة .. 

فقام المُطعم مسرعا [[ تتذكرون المطعم بن عدي؟؟.. هو الذي أجار النبي صلى الله عليه وسلم عندما رجع من الطائف ]] .. قام المُطعم مسرعاً يجر ردائه ، ومعه جبير بن المطعم ، والحارث بن حرب بن أمية .. فأبعدهم عن سعد بن عبادة وقال : 

ويلكم .. أنسيتم أن الرجل من سادة يثرب ، وأن تجارتكم لا تأتي إلا عليهم ، ابتعدوا عن الرجل .. قال سعد : ففك وثاقي وأطلقني ، ثم انطلقت إلى يثرب سالماً .. 

انطلق الناس إلى يثرب وعلم أهل مكة ، أنه تمت بيعة بين أهل يثرب وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، فزاد الأذى على النبي وأصحابه ..


وهكذا ، انتهت مراسم البيعة الفريدة المباركة بنجاح ، بل نجحت نجاحًا ما كان أحد يتخيَّله .. وقد تَمَّ كل هذا النجاح في عقر دار المشركين ، ووسط الأعداد الهائلة من أعداء الله عز وجل ، وصدق الله عز وجل إذ يقول : {{ إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ }} صدق الله العظيم ،،

___________

نقف هنا ، ونترك أهل يثرب ينشرون الإسلام في المدينة ، ونرجع إلى بيت النبوة ..


ماذا حدث به بعد وفاة أم المؤمنين خديجة؟؟..

لأنه لا بد من ترتيب هذه الأمور ، قبل هجرته صلى الله عليه وسلم ، كي ننهي العهد المكي ، بما فيه من ألم ، ونتجه إلى بداية أعظم دولة ظهرت على وجه الأرض ، الدولة الإسلامية 

بقيادة .. {{  النبى محمد صلى الله عليه وسلم }} ..



الحبيب المصطفى 《 ١٠٠》

  السيرة المحمدية العطرة ..

(زواجه صلى الله علي وسلم من سودة بنت زمعة) ..

__________

كانت خديجة رضي الله عنها من أحب خلق الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكان رحيلها مصاحبا لرحيل عمه أبي طالب ، الذي كان رغم كفره ، يمنع عنه أذى قريش ، حتى سمّي العام الذي توفيت فيه بعام الحزن .. الذى وافق العام العاشر من البعثة (الثالث قبل الهجرة) .. 


فأشفق الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بقائه وحيدا ، بعد أن فقد أم العيال ، وقد داخلته وحشة ، وأصبح بحاجة إلى سكن .. 

فأرسلوا إليه الصحابية الجليلة خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون ، تقترح عليه الزواج مجددًا .. فدار بينهما الحوار التالي كما نقله ابن كثير في "البداية والنهاية" ..

___________

فقالت : بأبى وأمى يا رسول الله ، أرى قد دخلتك وحشة بعد خديجة .. ألا تتزوَّج؟؟..

فأطرق برأسه صلى الله عليه وسلم ، وبكى حتى ابتلت لحيته ..

وقال : "ومَنْ بعد خديجة؟"

قالت: إنْ شئتَ بكرًا ، وإنْ شئتَ ثيِّبًا ..

فقال: "ومَنِ الْبِكْرُ وَمَنِ الثَّيِّبُ؟"

قالت: أمَّا البكر فابنة أحبِّ خلق الله إليك ، عائشة بنت أبى بكر الصديق ..

فقال النبى : ولكنها لم تنضج بعد يا خولة .. [[ وكانت عائشة على أرجح الروايات ، قد تجاوزت التاسعة من عمرها ]] ..

قالت : أخطبها من أبيها ، وتبنى بها بعد ذلك ، [[ تبنى بها ، ما نسميه نحن الزفاف والدخلة ]] ..

فقال النبى : ومن للبيت والعيال يا خولة؟..

قالت : هناك أخرى يا رسول الله ، أحببت أن أقدم لك البكر أولا ،  فإن شئت فامرأة ثيب ..

قال : ومن؟..

قالت : أما الثيِّب .. فسودة بنت زمعة ، قد آمنت بك واتبعتك ..

فدمعت عينا النبى عند سماع اسم سودة ، لأن مهام الدعوة شغلته عنها ..  فقد كانت مؤمنة من أهل مكة ، وكانت ممن هاجر إلى الحبشة بصحبة زوجها ، ثم عادت إلى مكة .. وكانت قد ترملت بوفاة زوجها ، وعندها خمسة وقيل ستة من الأولاد الذكور ، وأمست السيدة سودة - رضي الله عنها - بين أهل زوجها المشركين ، وحيدة لا عائل لها ولا معين .. حيث أبوها ما زال على كفره وضلاله ، ولم يزل أخوها عبد الله بن زمعة أيضا ، على دين آبائه ، وهذا هو حالها قبل زواج الرسول صلى الله عليه وسلم منها ..


قال صلى الله عليه وسلم : "فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ" .. ((أى اذهبى إليهما ، واستطلعى رأيهما فى الزواج منى )) ..

___________

فذهبت بالفعل السيدة خولة - رضي الله عنها - إلى السيدة سودة ، فقالت : 

ما أدخل الله عليكِ من الخير والبركة ..

قالت : وما ذاك؟

قالت : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك إليه ..

قالت : وَدِدْتُ .. أدخلي إلى أبي فاذكري ذلك له ، وكان أبوها شيخًا كبيرًا ، قد أدركه السنُّ وقد تخلَّف عن الحجِّ ، فدخلت عليه  فحيَّته بتحية الجاهليَّة .. 

فقال : مَنْ هذه؟

قالت : خولة بنت حكيم ..

قال : فما شأنك؟

قالت : أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة ..

فقال : كفء كريم ، ما تقول صاحبتك؟.. ( أى ما رأى سودة؟.. ) ..

قالت : تحبُّ ذلك ..

قال : إدعيها إليَّ ،  فدعتها ..

قال : أيْ بُنَيَّة ، إنَّ هذه تزعم أنَّ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبكِ ، وهو كفء كريم ، أتحبِّين أنْ أزوِّجَكِ به؟؟..

قالت : نعم ..

قال : إدعيه لي ..

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها ، فزوجها إياه ..

وكان الزواج عند العرب ، وإن لم يكونوا على الإسلام له أصوله .. فكان زواج نكاح لا سفاح ، ولا بد أن يزوج المرأة ولى أمرها ، وأن يسمى المهر ويتواجد شهود .. 

___________

وتعدُّ السيدة سودة أوَّل امرأة تزوَّجها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد خديجة ، وكانت قد بلغت من العمر حينئذٍ الخامسة والخمسين ، بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره ، وكان زواجهما فى رمضان من السنة العاشرة من البعثة النبوية .. ولما سمع الناس في مكة بأمر هذا الزواج عجبوا ، لأن السيدة سودة لم تكن بذات جمال ولا حسب ، ولا مطمع فيها للرجال ، وقد أيقنوا أنه إنما ضمَّها رفقًا بحالها ، وشفقة عليها ، وحفظًا لإسلامها ، وجبرًا لخاطرها بعد وفاة زوجها إثر عودتهما من الحبشة ، وكأنهم علموا أنه زواج تمَّ لأسباب إنسانيَّة ..

 إنتقلت السيدة سودة لبيت النبى ، صلى الله عليه وسلم ، وهى تعلم أنها لن تملأ فراغ السيدة خديجة بنت خويلد .. وفرح بقدومها أهل بيت النبى ، الذى كان يضم : أم كلثوم وفاطمة ابنتا النبى .. (( كانت الابنة الكبرى زينب قد تزوجت من ابن خالتها أبي العاص بن الربيع ، وأيضا رقية كانت متزوجة من عثمان بن عفان )) ، وأم أيمن بركة (( حاضنته وجاء ذكرها فى السيرة )) ، وزيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد ((ابنه من زوجته أم أيمن حاضنة الرسول)) .. وجاءت سودة لتقوم على خدمة النبى ، وترعى شئونه الخاصة ، وكان من مكارم أخلاقه أنه دخل عليها ، واتخذها زوجة بالمعنى الصحيح للزواج .. فكان زواجه منها صلى الله عليه وسلم ، كفالة لها ولأبنائها ، وإنقاذا لهم من الضياع .. 

وقد قابل قوم السيدة سودة ، وهم بنو عبد شمس ، هذه الالتفاتة من الرسول صلى الله عليه وسلم ، بالإعجاب والثناء ، لدرجة أنهم خففوا من عداوتهم للنبى ..

___________

لكن على الرغم من أن الشائع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، تزوج من سودة بنت زمعة أولًا .. إلا أن ابن كثير رجح في "البداية والنهاية" ، أنه تزوج عائشة أولًا ، ولكن كما يقول ابن كثير ، أن دخول النبي على سودة كان بمكة .. أما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية من الهجرة ، لكنه يقول إن عقده على عائشة ، كان متقدمًا على زواجه بسودة بنت زمعة رضي الله عنها ..

 

وكانت سودة بنت زمعة ، قد تزوجت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من إبن عمها ، ((السكران بن عمرو بن عبد شمس)) ، وكان السكران بعد دخوله فى الإسلام ، من ضمن من هاجروا إلى الحبشة في الهجرة الثانية وبرفقته زوجته السيدة سودة ، ومات بعد عودته بأهله إلى مكة ..


وحين حانت الهجرة إلى المدينةالمنورة .. 

أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، زيد بن حارثة وأبا رافع الأنصاري (مولى الرسول) ، أن يأخذا أهل بيته ليهاجروا إلى المدينة ، بعد أن كان قد هاجر هو أولا ، وهاجر على بن أبى طالب من بعده بثلاثة أيام ... فأخذا سودة ومعها فاطمة الزهراء وأم كلثوم ابنتا النبى ، وأم أيمن وأسامة بن زيد وكان طفلا صغيرا .. 


وكانت سودة كبيرة فى السن ، فخافت أن يفارقها النبي صلى الله عليه وسلم .. فقالت : « يا رسول الله ، يومي الذي يصيبني لعائشة وأنت منه في حلّ » .. (( أى تنازلت عن يومها المقرر لها لعائشة ، وذلك بعد أن أقاما بالمدينة المنورة ، وبعد دخول النبى بعائشة )) .. فقبله النبيّ ، وفي ذلك نزل قوله تعالى : {{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا }} صدق الله العظيم ،، 

___________

أما عن علاقة عائشة بها ، فروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا - أي جِلدِها - مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ ، مِنِ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ" .. وتفسر لنا ذلك دار الإفتاء في موقعها الرسمي ، بأن السيدة عائشة رضي الله عنها ، تمنت أن تكون في مثل هديها وقوتها وطريقتها ، فلم تكن تريد أن تعيبها بذلك ، بل كانت تصفها بقوة النفس وهي الحدة ..


أما عن موقف أخيها من زواجها ، برسول الله صلى الله عليه وسلم 

((وقد كان أخوها ما زال مشركا)) ، فعن عائشة قالت : تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة ، فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج ، فجعل يحثو التراب على رأسه .. فقال بعد أن أسلم : إني لسفيهٌ يوم أحثو في رأسي التراب أن تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بسودة بنت زمعة ..


وكانت سودة ممن نزل فيها آيات الحجاب ، فخرجت ذات مرة ليلًا لقضاء حوائجها ، وكانت امرأة طويلة جسيمة تفرُعُ النساء جسمًا ، لا تخفى على من يعرفها .. فرآها عمر بن الخطاب ، فعرفها .. فقال : عرَفناكِ يا سَودَةُ ، حِرصًا منه على أن يَنزِلَ الحجابُ ، فنزل قوله تعالى : 《يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا》صدق الله العظيم ،،،

___________

وحينما نطالع سيرة السيدة سودة العطرة ، نراها سيدةً جمعت من الشمائل أكرمها ، ومن الخصال أنبلها ، وقد ضمّت إلى ذلك لطافةً في المعشر ، ودعابةً في الروح ، مما جعلها تنجح في إذكاء السعادة والبهجة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم .. ومن قبيل ذلك ما أورده ابن سعد ، أنها صلّت خلف النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرّة في تهجّده ، فثقلت عليها الصلاة (( لأن النبى صلى الله عليه وسلم ، كان يطيل الركوع والسجود .. وكانت السيدة سودة بدينة الجسم ، فكان يشق عليها ذلك )) ، فلما أصبحت قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " صليت خلفك البارحة ، فركعتَ بي حتى أمسكت بأنفي ، مخافة أن يقطر الدم ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تضحكه فى الكثير من الأحيان ..

ومن مزايا السيدة سودة رضى الله عنها أيضا ، أنها كانت معطاءة تكثر من الصدقة .. حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فى زمن خلافته ، بعث إليها بغِرارة (( الغرارة ، وعاء تُوضع فيه الأطعمة )) من دراهم .. فقالت : ما هذه؟؟.. قالوا : دراهم .. 

قالت : في غرارة مثل التمر؟؟.. فما كان منها ، إلا أن فرقتها بين المساكين ..


وقد شهدت السيدة سودة مع النبى ، غزوة خيبر وحجة الوداع .. وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، رفضت السيدة سودة أن تخرج لتحج وتعتمر ، مع نساء النبي  صلى الله عليه وسلم .. 

وقالت : "قد حججت واعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنا أقعد في بيتي كما أمرني الله" .. 

وظلت بالفعل في بيتها حتى توفيت في شوال سنة أربع وخمسين هجريًا بالمدينة ، وكان ذلك فى خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، بعد أن أوصت ببيتها لعائشة ..



ليست هناك تعليقات:

المتابعون

أرشيف المدونة الإلكترونية