الاثنين، 2 أكتوبر 2023

السيرة المحمدية العطرة ..121- 125

 الحبيب المصطفى  « ١٢١ »


(( وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى أطراف المدينة "بئر عذق" ))

____________________

وصل صلى الله عليه وسلم ، عند قدومه للمدينة إلى بئر يسمى : 

{{ بئر عذق }} .. هذا البئر على أطراف المدينة يقع في مزرعة المستظل ، تبعد عن المدينة مسافة حوالي {{ ١٠كم }} ..

استراح صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ، وشرب من ماء البئر فكان أول ماء يشربه في المدينة من ذلك البئر ، صلى الله عليه وسلم .. 

____________________

فلما جلس النبى يستريح ، قدٌَرَ الله عز وجل مع وصول نبيه إلى ذلك الماء ، أن يمر فى نفس التوقيت رجال من تجار قريش ، كانوا قادمين من الشام عائدين إلى مكة .. والقادم من الشام يمر أولاً بالمدينة ، ثم يكمل مسيره إلى مكة ..  

التجار من قريش مرّوا بالمدينة ، 

فاستراحوا على أول ماء بعد المدينة ، وتوافق ذلك مع وصول النبي صلى الله عليه وسلم {{ لبئر عذق }} ، فالتقوا هناك .. 

وكان مع هؤلاء الرجال الصحابي الجليل ، {{ الزبير بن العوام رضي الله عنه }} .. وكان مسلما وخرج في تجارة لقريش ، فلما التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وعلم أنه مهاجر ، نشر بضاعته ، وأخرج ما فيها من ثياب ، وكسا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق ثياب بيض جديدة ، 

حتى يدخلا بها المدينة .. 

واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يتم تجارته إلى مكة ، ثم يعود مهاجرا إلى المدينة .. 

فأراد الله ذلك كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى يستقبله أصحابه وهو بثياب حسنة .. فاغتسل صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء ، ولبس الثياب الجدد البيض .. 

____________________

أهل المدينة كانوا قد بلغهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه في طريقه إليهم .. 

وقدروا مسافة الطريق ، قالوا : سبعة أيام إلى ثمانية ، وبلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من مكة لهلال ربيع الأول ، 

وما كان في حسابهم ذهابه إلى الغار ، وإقامته به ثلاث أيام بلياليها ، وأيضا لم يكن في حسبانهم أنه سلك طريق لا تسلكه القوافل ، لذلك توقعوا وصوله خلال سبعة أو ثمانية أيام من بداية الرحلة .. 


يقول أصحابه والحديث مشهور ، 

عندما توقعنا وصوله صلى الله عليه وسلم ، كنا نخرج كل يوم بعد صلاة الفجر إلى طرق المدينة ، ونظل نرقب وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى تغلبنا الشمس على الظلال ، [[ أي تصبح حرارة الشمس عالية ولا يوجد شيء يستظلوا به ، فيضربهم حر الشمس ]] ..

فندخل بيوتنا ، [[ لأن موعد وصوله تأخر ، ولا يعرفون سببا للتأخير ]] ..

وهكذا كل يوم نكرر ما فعلناه ، حتى مضت أربعة أو خمسة أيام ، وهم على هذه الحال .. 

____________________

وذات يوم ، [[ يوم وصول النبي صلى الله عليه وسلم ]] .. خرجنا كعادتنا حتى غلبتنا الشمس ، فدخلنا بيوتنا ، فما أن دخلنا بيوتنا حتى سمعنا صارخاً يصرخ ، (( يهودي كان على سطح حصن لهم )) .. واليهود عندهم علم كما يعلم أهل المدينة ، أنهم يترقبون وصول النبي صلى الله عليه وسلم .. 

صرخ اليهودى قائلا : يا بني قيلة [[ نسب أهل المدينة كما ذكرنا من قبل ، إلى أمهم الكبرى جدتهم "قيلة" وهو ما يخص الأنصار أوس وخزرج ، أخوة أمهم واحدة ، ثم كان منهم العشيرتين الأوس والخزرج ، وصار بينهم قتال وحروب فأصبحوا أعداء ، فألف الله بين قلوبهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ]] ..

صاح اليهودى : يا بني قيلة ، هذا جدكم الذي تنظرون قد أقبل ، [[ الجد يعني الحظ ]] .. أى هذا حظكم قد أقبل .. 

يقول الصحابة : فأخذنا سلاحنا وخرجنا نستقبل النبي صلى الله عليه وسلم ، [[ من باب الاعتزاز وشدة الترحيب بالنبي ]] ..

خرج بعض الرجال من الأوس والخزرج ، لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو ما زال لم يدخل المدينة بعد ..

قالوا : أخذنا سلاحنا وظللنا ننظر ونراقب الطريق ، وإذا به صلى الله عليه وسلم مع صحبه الثلاث ، يخفيهم السراب مرة ويظهرهم مرة أخرى ، مبيضين مقبلين ، [[ معنى مبيضين : هو أن المسافر فى العادة ، عندما يصل من السفر ، لا تكون ثيابه نظيفة .. فهى إما أن تكون قد اتسخت بحكم السفر ، أو على الأقل عليها غبار الطريق .. قالوا : وإذا بهم مبيضين ، أي يظهرون عن بعد ، بثياب بيضاء نقية ]] .. 

____________________

يقول أصحابه رضي الله عنهم :

كان معظمنا لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يعرفه منا إلا من بايعه في مكة ، وقد دخلت يثرب تقريبا كلها فى الإسلام ، ونحن لا نعرف النبي ولم يسبق لنا أن رأيناه ، وكان هو وأبو بكر في سن واحدة متقاربة ، [[ النبي صلى الله عليه وسلم يتقدم أبو بكر فى العمر بسنتين وأربعة أشهر ]] ، فعندما سيأتى صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضى الله عنه ، لن يستطيع معظمنا التمييز أيهما يكون النبى عليه الصلاة والسلام ..

فى هذه الأثناء ، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقفا ليستريحا في بستان يعرف ببستان المستظل ، وذلك بجانب بئر "عذق" الموجود داخل البستان ، حيث رفع سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه رداءه ، ليظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أشعة الشمس الشديدة ، ولكي يعرفه الأنصار .. فأقبلوا عليه ليسلموا عليه ويصافحوه ، وجاءوه بالرطب والماء من أم جرذان ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما هذا؟.. قالوا : عذق أم جرذان (( قطع سعف النخلة يسمى عذق )) ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : اللهم بارك في أم جرذان ، فدعا هناك بالبركة ..

________________________

ثم  مضى بهم صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ، حتى وصلوا إلى بساتين قباء .. [[ أراد صلى الله عليه وسلم ، ألا يدخل المدينة المنورة مباشرة ]] ..

وكانت قباء في ذلك الوقت قرية منفصلة عن المدينة المنورة ، تبعد عن المدينة حوالي {{ ٥كم }} ..

لماذا لم يدخل النبى المدينة المنورة مباشرة ، واتجه نحو قباء؟؟.. 

الجواب : كأن النبي صلى الله عليه وسلم ، يستأذن أهل المدينة في الدخول إلى مدينتهم ، خاصة أن أهل المدينة لم يكن كلهم مسلمون ، بل كان منهم مشركون لم يدخلوا فى الإسلام بعد ، وكان هناك أيضا يهود ..

ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم  بدخوله المدينة ، ستكون هناك بداية لمرحلة جديدة من تاريخهم ، وستتغير حياتهم تغييرا شاملا .. فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، يترك لهم فرصة لمراجعة أنفسهم ، وحتى يتأكدوا أنهم قادرون على تحمل تبعات هذه المرحلة الجديدة ،

وهي مرحلة في غاية الصعوبة ؛ لأنهم سيقفون ليس فقط أمام قريش ، وهي من أقوي القبائل العربية ، بل سيقفون كذلك ، ويعلنون التحدى في مواجهة كل العرب ..

الحبيب المصطفى « ١٢٢ »

السيرة المحمدية العطرة .. 

(( الوصول الى قباء ))

___________________

وصل صلى الله عليه وسلم إلى بساتين قباء ، فنزل على بني {{ عمرو بن عوف }} ، وهم سكان قباء ..

وكان شيخهم وزعيمهم ، {{ كلثوم بن الهدم  }} .. وقيل أنه كان مازال مشركا وأسلم فيما بعد ، ولكنه استقبل النبي معهم ، فقيل أن النبى صلى الله عليه وسلم في قباء ، اختار أن يكون ضيفا على شيخهم كلثوم بن الهدم ، مع أنه مشرك ، وعرضوا عليه أن ينزل على غيره فرفض ، إلا أن ينزل على شيخ القوم ، فنزل عنده ضيفاً .

ومما قيل أيضا ، أن كلثوم بن الهدم ، كان قد أسلم قبل قدوم النبى إلى المدينة ..

وكان النبى أثناء النهار ، يجلس صلى الله عليه وسلم في مكان يجتمع فيه بأصحابه .. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يبنى مسجد وعمل فيه بيده ، وهو ما يسمى الآن بمسجد قباء ، المعروف بالقرآن الكريم ، قال تعالى : 

{{ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }} ..

 

وانقسم رأى المفسرين والعلماء فى المقصود بما جاء : {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} ، إلى ثلاثة أقوال :

الأول : أنه مسجد قباء ..

الثاني : أنه مسجد المدينة – أي مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم ..

الثالث : أن المراد به كل مسجد بني في المدينة .. والله أعلم ،،

____________________

وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء ، ومدة إقامته بها ، اختلف فيهما العلماء ورواة السيرة اختلافا كبيرا .. وبعد مطالعتى لكل هذه الروايات ، أستطيع أن أرجح أن وصوله صلى الله عليه وسلم إلى قباء وافق يوم الإثنين {{ ٨ ربيع الأول }} ، أى فى اليوم الثامن من خروجه من غار ثور ، ((خروجه صلى الله عليه وسلم من غار ثور ، وافق يوم الإثنين غرة ربيع الأول)) .. وكان ذلك فى العام الرابع عشر من البعثة ، (( سيتم حساب التقويم الهجرى فيما بعد ، على اعتبار هذا العام هو العام الأول الهجرى ، وسأوضح ذلك فى نهاية الحلقة )) .. فأقام في قباء بقيّة يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس ،  وخرج منها متوجها للمدينة يوم الجمعة .. 

مدة إقامته فى قباء ، تعد أكثر ما اختلف فيه العلماء منذ بداية السيرة ، فمنهم من قال أقام بها أربعة أيام ، ومنهم من قال أربعة عشر يوما ، ومنهم من قال عشرة أيام ، وقيل مدة لم تتجاوز أسبوعا ، وقيل غير ذلك .. لكن لم أجد اختلافا فى يوم خروجه متوجها إلى المدينة ، أنه وافق يوم الجمعة ..     

____________________

مدة إقامة النبى بقباء ، لم يشغلها صلى الله عليه وسلم [[ بالعزائم والاستراحة من السفر والترحيب والسلام ]] .. بل قام يعمل فيها ببناء المسجد حتى أسس مسجد قباء .. وقيل أنه أتم العمل بإنشاء هذا المسجد ، في اليوم الرابع صباح يوم {{ الجمعة }} .. فخرج ليكمل سفره إلى المدينة المنورة ، 

{{تبعد قباء عن المسجد النبوي كما ذكرنا خمسة كيلو مترات  تقريبا }} .. وقيل أن المسافة بين مسجد قباء والمسجد النبوى فى المدينة ، ثلاثة كيلومترات تقريبا ..


 خرج صلى الله عليه وسلم صباح يوم الجمعة ، ليصل المدينة المنورة ، وأرسل إلى أهل المدينة من يخبرهم بقدومه ، فخرج إليه في الطريق رجال من بني النجار ، ومعهم بعض الأنصار من أهل المدينة (( فكان عددهم ٥٠٠ رجل )) ، حاملين أسلحتهم .. [[ بنو النجار  هم أخوال جده عبد المطلب ، تذكرون فى البداية ، حيث ذكرت لكم قصة عبد المطلب جد النبي ، {{ شيبة الحمد }} ..  عندما ترك أباه هاشم ، زوجته كى تلد عند أهلها بني النجار فى يثرب ، ومضى هاشم إلى الشام فى تجارة ، فأدركته الوفاة في غزة ، ثم كان ميلاد شيبة الحمد جد النبى ]] ..  

_________________________

خرج الرجال من بني النجار أخوال جده عبد المطلب ومعهم الأنصار ، فأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم ، وقالوا : 

يا رسول الله ، نحن أهل العدد والحلقة ، [[ أي نحن أصحاب العدد الكثير وأصحاب السلاح ]] .. أدخل مدينتك آمناً مطمئناً مطاعاً ، فمشى القوم من حوله ، يحفونه بين ماشي وراكب ، لا يحصي عددهم أحد ..

فلما كان بين قباء والمدينة ،

حان وقت الظهر وكان يوم جمعة .. ولم يكن النبى ، صلى صلاة جمعة بأصحابه من قبل ، ولم تفرض صلاة الجمعة بعد ، فلما جاء وقت صلاة الظهر ، نزل صلى الله عليه وسلم ، وعلمهم صلاة الجمعة ، وصلى بهم الجمعة فى الطريق ، [[ الآن يوجد مسجد بين قباء والمسجد النبوي ، اسمه مسجد الجمعة ، فيه صلى رسول الله ، أول صلاة جمعة بأصحابه ]] .. نزل صلى الله عليه وسلم ، وقام يخطب فيهم ، فاتكأ  على رحل ناقته القصواء ، وخطب هذه الخطبة ، (( أنظروا إلى خطبته ، كم كانت قصيرة لكن فيها بلاغة )) .. وقف صلى الله عليه وسلم وخطب بهم ،

فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : 


« أما بعد : أيها الناس فقدموا لأنفسكم ، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه - ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه - ألم يأتك رسولى فبلغك ، وآتيتك مالا ، وأفضلت عليك ، فما قدمت لنفسك؟.. فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ، ثم ينظر قدَّامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام على رسول الله ورحمة الله وبركاته » ..

ثم خطب مرة أخرى فقال : 

《إن الحمد لله أحمده وأستعينه ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ..

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إن أحسن الحديث كتاب الله ، قد أفلح من زينه الله فى قلبه وأدخله فى الإسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس ، إنه أحسن الحديث وأبلغه ، أحبوا من أحب الله ، أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم ، فإنه من يختار الله ويصطفى فقد سماه خيرته من الأعمال ، وخيرته من العباد والصالح من الحديث ومن كل ما أوتى الناس من الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ، إن الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته》..


وجاء فى رواية أخرى ، أنه صلى الله عليه وسلم حين خطب هذه الخطبة ، قال : 

《الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره ، وأعادي من يكفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة وقرب من الأجل ، من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا ، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم ، ثم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله ، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرا ، وإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة ، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله ، يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم ، وما كان من سوء ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا ، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد》..

________________________

هذه كانت خطبته صلى الله عليه وسلم ، التى وافقت أول جمعة يخطبها في أصحابه ، رضي الله عنهم أجمعين ..

ثم توجه إلى المدينة ، وكان كل أهل المدينة ، شباب ورجال ونساء وأطفال وشيوخ ، ينتظرون قدومه صلى الله عليه وسلم وهم باشيتاق تام لرؤيته ، عليه الصلاة والسلام .. 


والجدير بالذكر .. أن المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، اعتمدوا التقويم الهجري ليكون تقويم الدولة الإسلامية .. ونظرا لاعتماده الهجرة النبوية الشريفة بداية له فقد سمى بالتقويم الهجري ، وقد اعتمد بعد سنتين ونصف السنة من خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، في ربيع الأول من عام ١٦ للهجرة ، واستشار الخليفة عمر بن الخطاب اثنين من الصحابة ، هما « عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب » ، فأقراه .. وبذلك انطلقت السنة الهجرية من هجرة الرسول التي توافق سنة ٦٢٢ للميلاد ، لتصبح السنة الأولى في التاريخ الهجري ، وكان يوم ١ المحرم من عام ١٧ للهجرة بداية أول سنة هجرية ، أطلق عليها سنة ١٧ هجرية ، بعد اعتماد  التقويم الهجري ..



 الحبيب المصطفى « ١٢٣ »

    السيرة المحمدية العطرة .. (( استقبال أهل المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم  ))

________________________

كما ذكرنا فى الحلقة السابقة ، أنه عندما قرّر النبى عليه الصلاة والسلام دخول المدينة المنورة ، أرسل إلى زعماء بني النجار ، فقدموا إليه متقلّدين سيوفهم ، وعند دخول النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، دخل يحيط به خمسمائةٌ رجل من بنى النجار  والأنصار ، فدخل المدينة بموكبٍ عظيم ..


عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، لا أحد يستطيع أن يصف روعة ذلك الاستقبال الكبير ، والحب الذي لقي به أهل المدينة من الأنصار هذا الضيف الكريم الذي وفد إليهم بأمر الله ، وأكرمهم الله سبحانه وتعالى به ، فكانوا أنصار الدعوة ولقبوا بالأنصار ..

[[ جميع الذين كتبوا السيرة ، تعجز أقلامهم عن وصف هذا الاستقبال ، كما لا يستطيع أي مخرج تلفزيوني أو سينمائي ، أن يصور مشهد ذلك اليوم ]] ..

_________________________

الكل كان فى اشتياق كبير ، لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم عند وصوله ، {{ المهاجرين والأنصار }} .. فاجتمعوا كى يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عند دخوله المدينة بعد عناء {١٣ عام في مكة }

ولعلكم تذكرون كم تحمل صلى الله عليه وسلم في مكة ، وما كان من المعاناة أثناء الحصار ، وما لاقاه فى الطائف ، وأذى قريش ، واستهزاء وتشويه إعلامي به وبالدعوة ، حتى أطلقوا عليه اسم ساحر مكة ، مما يوضح بجلاء ، كم الإيذاء الذى تعرض له في دعوته إلى الله صلى الله عليه وسلم ..


ولنا أن نتصور ، مدى السعادة التى أحس بها المهاجرون ، بعد عناء {{ ١٣ عام }} فى مكة ، وهم ينتظرون هذه اللحظة ، لحظة الخلاص من أذى قريش ..

وأيضا لنا أن نتصور ، شعور الأنصار من {{ أهل المدينة }} ..

خاصة وأن الغالبية العظمى منهم ، سمعوا فقط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنهم لم يتشرفوا برؤيته من قبل .. 

_________________________

وكانت المدينة فى هذا الوقت {{ ١٣ محلة }} ، أي ما نسميه في أيامنا هذه بالحي ، [[ أى ١٣ حي ]] .. وكان يسكن كل حي منهم عشيرة من الأنصار ، كلهم خرجوا عن بكرة أبيهم ، فضجت كل طرقات المدينة بالناس ، كلهم خرجوا من بيوتهم مشتاقين لرؤية وجهه صلى الله عليه وسلم .. فكانت المدينة قد تهيأت لهذا اللقاء قبل قدومه صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق بيت من بيوت أهل المدينة رجال ونساء ، إلا وقد أسلم معظم من فيه ، وكان هؤلاء الذين أسلموا ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم فى أشد الشوق إلى رؤيته ، كما كان أيضا الذين رأوه وبايعوه ، اشد شوقا لرؤيته ، فلما سمعوا أنه خرج من قباء متجها إليهم ، عاشت المدينة  أفراحها التى لا توصف .. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبوابها يوشك أن يدخلها .. فخرجت المدينة برجالها ، ونسائها ، وشيوخها ، وولدانها ، وجواريها لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم يتلهفون للنظر إليه ، وأحاط أخواله من بني النجار ، ورجال آخرون من المهاجرين والأنصار بناقته القصواء ، وبأيديهم سيوفهم تحميه من كل من تسول له نفسه أن يصيبه بأذى ، وكان أبو بكر جالسا على الناقة خلف النبى عليه الصلاة والسلام ..

_________________________

فلما أطل عليهم صلى الله عليه وسلم ، ورأوا من بعيد {{ النور المحمدي }} .. صاح الغلمان والأطفال والخدم بأعلى صوتهم :

 الله أكبر .. الله أكبر .. جاء رسول الله .. الله اكبر ، هذا محمد رسول الله قد أطل علينا ، 

الله اكبر هذا محمد رسول الله .. 

حتى أن المعوٌِقين من أهل المدينة ، جلسوا فوق أسطح البيوت يتساءلوا أين هو؟ .. فلما أقبل صلى الله عليه وسلم وأطلّ عليهم ، يقول أنس رضي الله عنه عن المدينة : 

{{ أضاء منها كل شيء }} ، من نور وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم .. 

ويقول الصحابى البراء بن عازب : 

{{ ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء ، كفرحهم برسول الله }} .. وأخذ النساء والصبيان يضربون على الدفوف ، وينشدون أبيات الشعر :

طلع البدر علينا .. من ثنيات الوداع ،

وجب الشكر علينا .. ما دعا لله داع ،

أيها المبعوث فينا .. جئت بالأمر المطاع ،

جئت شرفت المدينة .. مرحبا يا خير داع ،،

____________________

والرسول صلى الله عليه وسلم على ناقته ، فى موكب مهيب بين تلك الحشود ، ومن حوله {{ ٥٠٠ رجل }} من الصحابة ، يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم ، حاملين سلاحهم تعظيما وإجلالا ،  لحبيب الله {محمد صلى الله عليه وسلم} .. والناس من حوله ، وقد قدٌَم أهل المدينة صبيانهم وبناتهم ، وجعلوهم في مقدمة المستقبلين ..

فلفت نظر النبي صلى الله عليه وسلم ، عندما رأى بنات صغيرات فرحات بقدومه ، وهن يردّدن هذه الأهازيج .. 

وبدا السرور على وجهه ، وهو يرى هذه القلوب الصغيرة المؤمنة المشرقة المستبشرة ، تستقبله حتى صار صلى الله عليه وسلم ، كأن وجهه القمر .. 

وسأل النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء البنات الصغيرات فقال : أتحببنني؟؟.. 

فقلن : نعم يارسول الله .. 

فقال : الله يعلم أن قلبي يحبكن كثيرا ..

____________________

فكان هذا اليوم التاريخي العظيم ، من أعظم الأيام التى مرت على الإسلام والمسلمين ..

الحبيب المصطفى « ١٢٤ »

  السيرة المحمدية العطرة ..

(نزوله صلى الله عليه وسلم 

بالمدينة المنورة)

___________

أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ، يسير على الناقة بين الجموع ، وكانت  عشائر {{ الأوس والخزرج }} .. تقف على أبواب البيوت على جانبي الطريق ، تنتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستقبله فرحة مستبشرة 

وكان رئيس كل عشيرة ورب كل بيت ، يطمع أن يقبل النبى فينزل عليه ضيفا فى بيته .. فجاء رجال العشائر  إليه يأخذون زمام الناقة ويقولون :  

يا رسول الله ، انزل فينا نحن أهل الحلقة ، نحن أهل العز ، ((أهل الحلقة أى أهل القوة والمنعة والسلاح)) .. وكلهم يريدون أن يكون النبي ضيفهم ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم : دعوها فإنها مرسلة ، خلّو سبيلها فإنها مأمورة ، ويرخي زمام الناقة لا يمسكه .. دعوها إنها مأمورة ، [[ أي أن الله هو الذى يأمرها أين تبرك ، حيث يريد سبحانه أن يكون مكان منزلي ، لست أنا الذي أختار ]] ..

____________________

والسؤال الآن : لماذا ترك النبى صلى الله عليه وسلم ، تحديد مكان نزوله ، للناقة تبرك حيث تشاء؟؟..  

الجواب : لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، يتعامل مع الموقف 

بطريقة دبلوماسية ، فهو يعلم الحساسية المفرطة الموجودة بين {{ الأوس والخزرج }} ، وما كان بينهم من خلافات وحروب طاحنة فى الماضى .. فمن مكارم  أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، ومن أجل أن يؤلف بين قلوبهم ، تصرف هكذا ، [[ لأنه لو اختار عائلة أو قبيلة منهم بنزوله ضيفا عليهم ، وفضلها على الأخرى ، لترك فى نفوس القبيلة الأخرى أثرا وشيئا من الغيرة ، لتفضيله القبيلة التى نزل عندها عليهم ، وهو لا يريد أن يبدأ تعامله معهم بأى نوع من التمييز ]] .. لذلك ترك مكان نزوله لاختيار الله سبحانه وتعالى ، فلا يمكن لأحد منهم ، أن يعترض على ذلك .. 

فترك زمام الناقة تسير حيث تشاء ، ولم يأخذ به أبداً .. فما زال على ظهرها صلى الله عليه وسلم ، وقد أردف معه على الناقة أبا بكر من قباء إلى المدينة ، (( أردف معه أى أركبه خلفه على الناقة )) .. حتى يعلم الجميع ، مكانة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. 

____________________

وما زال على ظهرها حتى تجاوزت كل هذه الطرق ، فما زالت تمشي ، حتى أتت إلى موقع مسجده المعروف الآن .. 

كيف كان موضع الأرض قبل بناء المسجد؟؟..

كان بالأرض مربد تمر لغلامين يتيمين من بني النجار ، [[ مربد التمر ، هو الأرض السهلة التى عندما يقطف التمر من النخيل ، يوضع بهذه الأرض لغرض التجفيف ]] ، وكان إلى جانب مربد التمر هذا ، أرض فيها مقبرة قديمة ، وحول الأرض قليل من البيوت ، [[ لأن هذا المكان مربد للتمر وبجانبه مقبرة ، والناس لا تفضل السكن بجوار مقبرة ]] ..

وإذا بالناقة تمشي إلى أن بلغت هذا الموقع ، ثم وقفت والتفتت برأسها يمينا ويسارا ، ثم بركت في موقع منبره الموجود في مسجده الآن ، صلى الله عليه وسلم .. 

يقول الصحابة رضي الله عنهم : 

اتخذ صلى الله عليه وسلم منبره على {{ مبرك الناقة }} ، أى جعل المكان الذى بركت فيه الناقة ، هو موضع منبره بعد بناء المسجد النبوى ، الموجود حتى الآن فى المدينة المنورة ..

وبقي النبي جالسا على ظهرها ، وكأنه (أو كما يبدو عليه) ، كأنه يوحى إليه .. 

فبقي جالسا ينتظر ، ثم قامت الناقة فطافت فى جولة ، وهي حدود المسجد الذي بناه الرسول والصحابة ، [[ وكأنها ترسم لهم مخطط المسجد ]] .. ثم رجعت إلى موقعها الأول فبركت فيه ، 

فلما بركت هذه المرة ، يقول الصحابة : فتحلحلت [[ أي هزت جسدها وتمكنت من الجلسة ]] ..

 فتحلحلت ثم أرزمت [[ أرزمت أي أخرجت صوتها ]] ، ثم مدت عنقها إلى الأرض وأرزمت ، واستراحت ولم تعد تتحرك .. 

فعلم النبي أن المنزل ها هنا ، فقال : ها هنا المنزل إن شاء الله .. فتعجب الصحابة ، كيف ها هنا المنزل ، الأرض صحراء وبجانبها مقبرة .. أين سينزل الرسول؟؟..

 ثم وقف صلى الله عليه وسلم وقال : أي دور أهلنا أقرب إلى هذا المكان؟؟..

____________________

قال {{ أبو أيوب الأنصاري }} وهو من الخزرج (( من بنى النجار )) : أنا يا رسول الله ، فهذا الباب الذي أمامك هو باب داري .. فقال له صلى الله عليه وسلم : احمل متاعنا إليه .. 

فنزل صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب ، فقال له البعض من الناس : تنزل عندنا يا رسول الله ، فإن بيوتنا أكثر اتساعا .. 

فقال لهم : المرء مع رحله ، ( أى المرء  مع متاعه ، الذى كان قد حمله أبو أيوب الأنصارى ، وأدخله إلى بيته )

فجاء أسعد بن زرارة أحد النقباء الاثنى عشر ، (( الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد عينهم يوم بيعة العقبة الثانية ، وكان أصغر النقباء سنا )) ..   وكان سيد الأنصار في ذلك الوقت ، وقال : 

يا رسول الله .. فاز بها أبو أيوب ، فهل تأذن لي أن تكون ناقتك في ضيافتي؟؟.. 

[[سبحان الله ، ما أجمل أخلاقهم ومعرفتهم بقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أنت أيها النبى ستنزل ضيفا في دار أبي أيوب الأنصارى ، فأنا أستأذنك كى أستضيف الناقة عندي ، لأقوم برعايتها وخدمتها ]] .. 

فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له : 

لك ذلك .. فأخذ ناقته القصواء ، واستضافها في داره ، يقوم على خدمتها ، حتى إذا احتاج النبي إليها ، يحضرها له .. 

[[ تأملوا معى : أسعد بن زرارة سيد قومه ، يعتبر ذلك من دواعى الشرف له بين قومه ، أن يستضيف ناقة النبي في داره ]] !

____________________

نزل النبى فى دار أبي  أيوب الأنصارى ، وتصوروا معي هذا المشهد .. دار أبي أيوب تتكون من غرفتين ، عبارة عن طابقين .. 

والسؤال هنا : هل كانت توجد  طوابق بديارهم في هذه الأيام؟؟..

 نعم كان هناك طوابق ، كما جاء من أحاديث الصحابة ، والحديث رواه البخاري .. 

وكانوا يطلقون على الطابق الثاني : {{ العلّيّة }} ..

فأراد أبو أيوب أن ينزل النبي صلى الله عليه وسلم ، في الطابق العلوى ، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزل في الطابق الأرضى ، وقال له : 

لك بيتك ، فهذا أسهل وأرفق علينا ، وعلى من يأتينا ضيفا من الناس .. 

فنزل النبي في الطابق الأرضى ، وكان أبو أيوب كل يوم يلح على الرسول ، فيقول : 

يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي نخاف من مشينا ، أن يتساقط عليك شيء من تراب ، أو في الليل أن نتحرك فنزعجك ، اصعد للطابق الثاني .. فيقول له النبي : لا ، لك بيتك يا أبا أيوب .. 

____________________

حتى كانت ليلة باردة ، فوقع الحَب من يد زوجته وانكسر ، [[ الحَب ، أي جرة الماء الفخار ]] .. فأسرع أبو أيوب وزوجته يجففوا الماء بالبطانية التي يتغطوا بها لتقيهم من البرد عند نومهم ، [[ لأن السقف ليس من أسمنت مسلح ]] ، فهو مبنى مثل بيوت الفلاحين فى القرى ، ولو شرب السقف الماء ، لنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم .. فجففوا الماء بسرعة بالغطاء ، وناموا تلك الليلة بلا غطاء ، يرجفان من البرد .. 

وسبحان من أخبر نبيه عن حال أبي أيوب تلك الليلة ، فلما كان الصباح ، قال له النبى : 

كيف كانت ليلتكم يا أبا أيوب؟؟.. 

فقال له : وقع من أمرنا كذا وكذا ، فقال له صلى الله عليه وسلم ، نصعد نحن إلى الأعلى ، وتنزلوا أنتم إلى الأسفل .. لأنه وجد بها مشقة عليهم ، وهو صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله ، {{بالمؤمنين رؤوف رحيم }} ..


يقول أبو أيوب : كنا نرسل للنبي صلى الله عليه وسلم كل ليلة عشائه ، فإذا رد علينا القصعة ، تلمسنا مواضع أصابعه فنأكل من مكانها تبركاً .. 

قال أبو أيوب : وفي يوم من الأيام ، رد علينا القصعة وإذا ليس لأصابعه فيها أثر ، [[ أي لم يأكل منها شيئا ]] .. 

يقول أبو أيوب : ففزعت وقلت للنبي ، بأبي وأمي يا رسول الله ، رددت إلينا قصعتك وليس ليدك فيها أثر ، {{ فإنا كنا نلتمس أثر أصابعك أنا وزوجتي ، فنأكل منه تبركاً }} ..

____________________

اسمحوا لى أن أتوقف هنا عند هذه النقطة .. 

لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم ، ما هذه البدعة يا أبا أيوب الذى أقدمت عليها أنت وزوجتك؟؟.. ولم يقل له :

يا أبو أيوب ، هذه بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ..

أبو أيوب هكذا يوقر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتبرك بمواضع أصابعه فى الطعام ، هل هذا الفعل جائز أم أنه بدعة وحرام؟؟..

والسؤال أيضا لنا الآن : هل يجوز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ، كيفما كانت؟؟.. 

الجواب : نعم يجوز ، لأن سكوته صلى الله عليه وسلم بعد سماعه لأبى أيوب ، يعد بمثابة إقرار وعدم ممانعة لهذا الفعل .. وهو رسول الله ، فلا يجوز له ، كما أنه لن يحدث منه أن يسكت عن شيء يغضب الله .. [[ والتبرك هو طلب حصول الخير بمقاربته وملامسته .. فسكت النبي ، ولم يعلق على فعل أبي أيوب ، أنه يتلمس مواضع أصابعه تبركاً ]] ..


نحن جميعا ، نعلم أن رسول الله عبد من عباد الله ، وهو من آدم وآدم من تراب .. ونحن أيضا لا نعبد إلا الله ، ولا نسأل إلا الله ، ولا نتوكل إلا على الله .. 

ولكننا أيضا نحب رسول الله ونوقره ، فلا يجوز مثلا أن نعتبر  زيارة غار حراء بدعة .. 

المعنى هنا : أننى لا أعبد الغار ولا حجارته ولا الرسول عليه الصلاة والسلام الذى نزل به ، أنا أعبد الله جل في علاه وحده لا شريك له .. ولكن من حبي لرسول الله ، أتلمس 

مواضع قدميه تبركا .. وهنا يهمنى أن أوضح نقطة فى منتهى الأهمية : وهى أن الأفعال التى يرتكبها بعض الجهلاء ، من زيارة أضرحة أولياء الله ، والتمسح بها وطلب الشفاء أو أى طلبات دنيوية أخرى منهم .. هذا الفعل قمة فى الجهل وحرام بيٌِن ، فلا يجوز اللجوء إلا لله ولا الدعاء أو طلب أى شيء إلا من الله ، ولكن لا بأس من زيارة أضرحة أولياء الله وقراءة الفاتحة للتبرك بهم فقط ..

____________________

فتوجه أبو أيوب الأنصارى بالسؤال للرسول عليه الصلاة والسلام : 

لما لم تأكل عشاءك يا رسول الله؟.

فقال له صلى الله عليه وسلم ، أحسب أن فيها من هذه الشجرة ، [[ كانوا قد وضعوا له الثوم في الطعام ]] .. وأنا رجل أناجي ، [[ أي أناجي الله عز وجل ]] ،

أما أنتم فكلوا منها .. 

يقول أبو أيوب : فلم نعد نضع له الثوم في طعامه مرة أخرى ، صلى الله عليه وسلم .. 

كم من الزمن أمضى النبي في دار أبي أيوب؟؟.. 

في حديث البخاري ، {{ أمضى فى دار أبى أيوب سبعة أشهر ، حتى تم بناء المسجد وحجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم }} ..

____________________

قبل أن ننهى حديثنا عن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم ، في دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، نقول أن النبى فيما بعد ، آخى بينه وبين الصحابى مصعب بن عمير من المهاجرين (( مصعب بن عمير ذكرناه من قبل ، فهو الذى كان  مبعوثا للنبى للدعوة إلى الإسلام فى يثرب ، بعد بيعة العقبة الأولى )) .. وأن هذا الصحابي الجليل أبا أيوب الأنصارى ، كان يحب الجهاد ، وشهد بيعة العقبة وجميع المشاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم .. ولما حدث فيما بعد ، القتال بين {{ علي بن أبى طالب  ومعاوية بن أبى سفيان }} رضي الله عنهما ،  كان أبو أيوب يقف في صف علي رضي الله عنه ، ضد معاوية رضي الله عنه ..

ومع ذلك ، فبعد مقتل علي رضي الله عنه ، واستقر الأمر لمعاوية رضي الله عنه .. كان أبو أيوب في جيش معاوية ، ثم كان فى جيش يزيد بن معاوية بن أبى سفيان ، الذي توجه لفتح القسطنطينية [[ أي اسطنبول حاليا فى تركيا ]] ..

وهذا موقف عظيم جدا ويحسب له ، لأنه يحارب من أجل الله تعالى ، فلا يحارب من أجل {{ علي أو معاوية أو يزيد }} .. وكان عمره قد تجاوز {{ ٩٠ عاما }} رضي الله عنه ، وحدث أن مرض {{ أبو أيوب الأنصاري }} ، وهو في حصار {{القسطنطينية }} .. فطلب أن يدفن عند وفاته في أقرب مكان للعدو ، فمشوا بجنازته حتى دفنوه عند أسوار القسطنطينية ، وظل قبره مطمورا ، حتى تم فتح القسطنطينية بعد ذلك بمئات السنين ، فبنوا على قبره مسجدا ، وهو موجود إلى الآن فى اسطنبول ، واسمه مسجد {{ أيوب سلطان }} ..

____________________

معلومة تاريخية خارج السيرة ، (لمن أراد أن يستزيد من المعرفة) :

- إسطنبول كانت مدينة يونانية قديمة ، تقع على مضيق البوسفور بتركيا ، (( مضيق البوسفور هو المضيق الذى يصل بين بحر مرمرة والبحر الأسود )) ..

- فى عام ٣٣٥ من الميلاد ، جعلها الإمبراطور قسطنطين الأول عاصمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية (( الإمبراطورية البيزنطية )) ، وأصبح يُطلق عليها القسطنطينية  نسبة للإمبراطور قسطنطين مؤسس الإمبراطورية ، (( العاصمة الغربية للإمبراطورية الرومانية كان مقرها روما )) ..

- تغيرت إلى بيزنطا وتم فصلها تماما عن الإمبراطورية الرومانية الغربية فى القرن السابع الميلادى فى عهد الإمبراطور هرقل .. 

- منذ تولي الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان الحُكم ، راحت الحملات العسكرية تتوالى على أسوار القسطنطينية.. نحو ١١ حملة كبيرة لمحاولة فتح المدينة العتيدة ، وأشهرها كانت تلك التي شنها كل من الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك ، والخليفة العباسي هارون الرشيد .. لكن كل تلك الحملات كانت تبوء بالإخفاق بسبب حصانة المدينة .. وإن كان توالي الضربات الإسلامية زعزع ثبات البيزنطيين في معقلهم الأخير ..

- خلال الحملة الصليبية الرابعة ( عام ١٢٠٤ من الميلاد ) ، احتلها الصليبيين وتغير إسمها إلى الإمبراطورية اللاتينية ، قبل أن يستردها البيزنطيين مرة أخرى عام ١٢٦١ من الميلاد ..

- استمرت الإمبراطورية البيزنطية حتى عام ١٤٥٣ من الميلاد ، إلى أن فتحها القائد الإسلامى محمد الفاتح العثمانى فى ٢٩ مايو سنة ١٤٥٣ ميلادية ، وأطلق عليها ( إسلام بول ) ، ثم أطلق عليها العثمانيون ( الأستانة ) ، واستمرت عاصمة للإمبراطورية العثمانية ..

- فى عام ١٩٣٠ من الميلاد تغير اسمها إلى ( اسطنبول ) ، ضمن إصلاحات مصطفى كمال أتاتورك القومية ، وظلت تعرف بهذا الاسم حتى الآن ..



الحبيب المصطفى « ١٢٥ »

  السيرة المحمدية العطرة .. 

    ((بناء المسجد النبوي ))

___________________

بعد أن ذكرنا كل ما يتعلق بإقامة  النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب الأنصاري ، وبعد أن استراح صلى الله عليه وسلم من عناء السفر ، فأصبح شغله الشاغل اعتبارا من اليوم الثاني ، هو دراسة الأوضاع داخل المدينة ..   

كان أهل المدينة من مؤمنين صادقين ، أو منافقين فى الخفاء ، أو من المشركين الذين لم يدخلوا فى الإسلام بعد ، أو القبائل الثلاثة من اليهود من سكان المدينة : بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير ، كلهم ينتظرون برنامج عمل النبي ، بعد أن اختار المدينة ورحل عن مكة؟؟.. فالبعض يتوقع أن يجهز جيشا لغزو مكة ، والبعض يتوقع أن يخرج ويعلن خطاب العرش ويذكر فيه سياسة الدولة ، والبعض الآخر يتوقع أن يعين مساعديه ونائبه الذى سيتولى الأمور فى غيابه ..

وكان صلى الله عليه وسلم قد خرج من مكة ، وترك بها زوجته السيدة سودة ، وكذلك زوجته عائشة التى لم يكن قد دخل بها بعد ، كما ترك أيضا هناك ، ابنتاه أم كلثوم وفاطمة .. 

وكان أبو بكر أيضا ، قد ترك ابنه وزوجته وابنتاه في مكة .. 

فماذا فعل صلى الله عليه وسلم اعتبارا من اليوم الثاني له فى المدينة؟

___________

تحدثنا في الحلقة {{ ١٢٠ }} عن مشاكل المدينة ، فكان أول عمل قام به صلى الله عليه وسلم ، هو الشروع فى حل مشاكل المدينة ،

وبرغم تراكم المشاكل المعقدة جدا بها ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع في فترة قياسية ، أن يجعل المجتمع الإسلامي مجتمع شديد التماسك ..

كيف استطاع صلى الله عليه وسلم تحقيق هذا؟.. ، وكيف تغلب على كل هذه المشاكل؟

الجواب .. قام بثلاثة أمور :

١ - بناء المسجد ..

٢ - تشريع الأخوة بين المهاجرين والأنصار ..

٣ - وضع وثيقة المدينة .. 


واليوم سنتناول بالحديث البند الأول ، وهو كيف بني صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي .. 

___________

السؤال الآن .. لماذا كان قراره أن يبدأ ببناء المسجد ، كخطوة أولى بعد دخوله المدينة مهاجرا؟؟.. 

عندما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، كان همّه الأول أن يوطّد دعائم الدولة الإسلامية الناشئة ، فكان عليه أن يعمل على تأمين مستقبل المدينة وحماية أرضها ،وتنظّيم العلاقات بين أفرادها .

فقرر النبى ، أن تكون أولى نسمات الخير التي أتت بها الهجرة المباركة ، بناء المسجد النبوي ، فبعد أعوام عديدة من حياة الخوف والقلق ، والمعاناة من الشدّة والتضييق ، والحرمان من المجاهرة بالشعائر التعبدية ، والاضطرار إلى الصلاة بعيداً عن أعين الناس في الشعاب والأودية ، أو خفيةً في البيوت .. إذا بهم سيجدون حريّتهم الكاملة في أداء صلاتهم وإقامة شعائرهم دون خوفٍ أو وجل ، وفي بيوت الله تعالى بعد إنشائها ..

لذلك جاء إنشاء المسجد النبوي ، فى المقام الأول بالنسبة للنبى صلى الله عليه وسلم ، فاختار المكان ، وكان كما ذكرنا سابقا ، عبارة عن مربد ، (وهو الموضع الذي يُجفّف فيه التمر ) .. كان ملكاً لغلامين يتيمين في المدينة يعيشان عند أسعد بن زرارة رضي الله عنه ، فوقع اختيار النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك المكان عندما بركت راحلته فيه عند دخوله المدينة ، وقال حينها:(هذا إن شاء الله المنزل)، 

رواه البخاري .. 

فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم رمح من أحد الصحابة ، وغرسه فى المكان وقال : {{ هنا نبنى المسجد إن شاء الله }} ..

ثم طلب النبي صلى الله عليه وسلم من سادات بني النجار ، الحضور ومعهم الغلامين ليعرض عليهم شراء تلك الأرض (( كان بالأرض مزرعة لبنى النجار ومربد التمر للغلامين ومنطقة قبور قديمة )) ، وقال لهم : يا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم هذا (( أي اطلبوا له ثمنا ، والحائط أى مزرعة كانت لبنى النجار )) ، فقالوا : " لا والله لا نطلب ثمنه " ، وقال الغلامان : " بل نهبه لك يا رسول الله " ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبى لعلمه بحاجة الغلامين ، وعوّضهما بالثمن المناسب ،  (رواه البخاري) .. ودفع صلى الله عليه وسلم للغلامين من مال أبى بكر ، وأمر ببناء المسجد ..

___________

وقبل الشروع في البناء كان على المسلمين تسوية الأرض ، وقطع النخيل ؛ حتى يتمكّنوا من صفّ الحجارة في قبلة المسجد التي كانت تتجه نحو بيت المقدس آنذاك ، ثم كان عليهم نبش القبور القديمة الموجودة بالموقع ، وإخراج ما بها من عظام ، ودفنها فى مكان آخر ..

وما أعظم سرور الصحابة وهم يعملون جنباً إلى جنب ، بهمّة عالية ، وإرادة صلبة ، وعزيمة لا تلين ، ويروّحون عن أنفسهم بأبيات من الشعر تزيد من نشاطهم ، وتخفّف عنهم مشقّة العمل .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، يشاركهم في نقل الحجارة وإنشاد الأشعار ، فثبت في صحيح البخاري أنه كان يردد هذه الأبيات :  

اللهم إن الأجر أجر الآخرة ..            

فارحم الأنصار والمهاجرة ،،

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صحابيّاً من اليمامة ، فأعجب بمهارته في خلط الطين وتجهيزه ، فقال : 

قدموا اليمامي من الطين ، فإنه من أحسنكم له مسّاً ، وفي رواية : قربوا اليمامي من الطين فإنه من أحسنكم له بناء . (رواه ابن حبان و البيهقي) ..

 وخلال فترةٍ وجيزة ، استطاع الصحابة رضوان الله عليهم أن ينتهوا من بناء المسجد ، وقد جعلوا سواريه من جذوع النخل ، وأعلاه مظلل بالجريد وسعف النخيل واستغرق بناؤه اثني عشر يوماً .. 

___________

وأثناء عملية بناء المسجد ، وقعت بعض الأحداث نأخذ منها ، {{ على سبيل المثال لا الحصر }} ما يلى : 

 

كان عمار بن ياسر الذي كان من الرقيق في مكة ، [[ عمار ذكرنا قصته من قبل ، هو الذي قُتِل أبواه على يد أبي جهل تحت التعذيب ، وقد مر علينا قصتهم في السيرة ، أبوه ياسر وأمه سمية ، وكان عمار أيضا تحت التعذيب ]] ..

 عمار الذي قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه : 

{{ مُلئَ عمار إيماناً إلى مشاشه }}

[[ أي امتلأ بالايمان وفاض حتى وصل لمشاشه أي لرؤوس عظامه ]] ..

كان عمار رضي الله عنه يعمل مع الصحابة فى بناء المسجد ، وكان هناك موقف ، أغضب النبي صلى الله عليه وسلم من أجل عمار .. 

فالنبي لم يكن يتعامل مع الناس على حسب ثرواتهم أو أنسابهم ، 

وإنما كان يعامل الصحابة على منهج الله عز وجل : {{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }} .. 

كان عمار يعمل بجد واجتهاد فى بناء المسجد .. يحفر ، يحمل الطوب ، يضرب الأرض بالمعول ،يعجن الطين .

وكان الصحابى الجليل ، {{ عثمان بن مظعون }} رضى الله عنه ، أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ((أرضعتهما ثوبة جارية أبى لهب)) .. وكان عثمان من الأوائل الذين أسلموا ، فكان ترتيبه {{١٣}} ممن أسلموا ، [[ وكان أول رجل يموت في المدينة من المسلمين ، ودفن بها ، وعندما مات دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقبَّله ، وقال : 

رحمك الله يا عثمان ، ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك ]] .. 

كان عثمان رجلا أنيقا ، يهتم بنظافة ثوبه ، فكان إذا مس ثوبه التراب أزاحه بيده ، وكان إذا حمل شيء يبعده عن ثوبه كي لا يتسخ .. وأثناء العمل ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه  شعرا [[ كان لا يقصد به عثمان بن مظعون ]] رضي الله عنهما ..

فقال في شعره :

لا يستوي من يعمر المساجدا ..    

يدأب فيها قائما وقاعدا .. 

ومن يرى عن التراب حائدا .. 

فسمع هذه الكلمات عمار بن ياسر ، فأعجبته أبيات الشعر ، وأخذ يردد هذه الأبيات .. 


فلما قال عمار هذه الأبيات ، سمعه عثمان بن مظعون ، وظن أن عمار يقصده .. وكان بيده جريد من نخل ، فقال لعمار : 

يا ابن سمية بمن تعرض؟؟.. [[ يعنى من تقصد ، يا ابن سمية؟!! ]] .. (( أى نسبه لأمه سمية ، وسمية أم عمار من أفضل نساء المسلمين ، فهى أول شهيدة في الإسلام )) ..

 فنسبه إلى أمه احتقاراً ؛لأنها كانت من الرقيق في مكة !!!..

والصحابة أحيانا يقعون بالخطأ ، وسيمر معنا في السيرة مواقف كثيرة ، النبي صلى الله عليه وسلم هو فقط المعصوم من الخطأ ، فقال له : 

يا ابن سمية بمن تعرض؟.. والله إن كررتها لأضربن وجهك بهذا الجريد !!.. 

فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ، كلام عثمان بن مظعون .. يقول الصحابة : فغضب النبي غضباً لم نره من قبل قط ،  ثم قال : [[ موجها الكلام لأخيه في الرضاعة عثمان بن مظعون ، وهو أقرب إلى النبي من عمار .. وعثمان بن مظعون ابن السادة من قريش وعمار من الرقيق ]] ..

قال له الرسول وقد غضب غضباً شديداً : {{ إن عمار جلدة ما بين عيني وأنفي ، وإذا بلغ الرجل منه هذا فقد أبلغ }} ..

يعني [[ إذا ضربت وجهه يا عثمان ، فكأنك تضرب ما بين عيني وأنفي ]] .


ثم مضى صلى الله عليه وسلم يعمل ، وهو غاضب .. 

فجاء عدد من الصحابة إلى عمار 

وقالوا : يا عمار لقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجلك ، ونخشى أن ينزل فينا قرآن ، فقال عمار : أنا أسترضيه لكم ، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله مالي ولأصحابك ، [[ يمازح النبي ]] ..

 فقال له : مالك ولهم؟.. 

قال : يريدون قتلي .. 

قال : كيف؟..

فقال عمار : يحمل كل رجل منهم لبنة لبنة ، [[ أي طوبة ]] ، وإذا جئت حملوا علي لبنتين .. 

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم لأنه علم أن هذا أسلوب ترضيه ، (( لأنه كان يعلم من قبل ، أنه في الوقت الذي كان الصحابة يحملون فيه الحجارة لبنة لبنة ، كان عمار بن ياسر رضي الله عنه يحمل لبنتين في كلّ مرّة برضاه متطوعا ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم  وهو على هذه الحال ، جعل ينفض التراب عن رأسه وقال له : ( يا عمار ، ألا تحمل لبنة لبنة كما يحمل أصحابك؟ ) ، فردّ عليه قائلاً :"إني أريد الأجر عند الله " )، رواه البخاري .. 

 فضحك صلى الله عليه وسلم ، وأخذ ينفض التراب من على شعر عمار وهو يضحك ، ثم أخذ بيده وطاف به بين الذين يعملون في صحن المسجد ، وهو يقول : 

إن أصحابي لا يقتلونك يا عمار ، إنما تقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الحق ويدعونك إلى النار ..


وسمع الصحابة من المهاجرين والأنصار العاملين في بناء المسجد هذا الكلام ، وأخذوا يترقبون .. من الذي سيبتليه الله في قتل عمار؟؟.. فهذه نبوءة النبي ، وبشهادة النبي أن من يقتل عمار باغي ، وعمار يدعوه إلى الحق ، وهو يدعوه إلى النار ، فمن هو؟؟..

_________________________

وتمضي الغزوات والسنين ، وعمار لم يُقتل .. ويرحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ويليه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، وعمار لم يُقتل ..  

حتى كانت خلافة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ووقعت فتنة معاوية بن أبى سفيان ، والتقى الجيشان في معركة {{ صفين }} فى شهر صفر سنة ٣٧ هجرية ، ونظر الناس فإذا عمار في جيش علي بن أبي طالب ، أخذ يناديهم :

يا أصحاب معاوية ، نحن أصحاب محمد رسول الله .. نحن ضربناكم على تنزيله * ((يقصد القرآن)) ، فاليوم نضربكم على تأويله ((أى تأولتم القرآن فى غير محله)) ، ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله ، أو يرجع الحق إلى سبيله .. أنا عمار بن ياسر [[ وقيل كان عمره ٩٣ عاما ]] ..

يقول أصحابه كان يقفز من تل إلى تل ، ويقفز من جواد إلى جواد ، ويضرب بالسيف ويرمي بالنبال ويرمي بالرمح ، وهو شيخ طاعن فى السن ، وظل ينادي بهذا النداء .. فقال معاوية لعمرو بن العاص قائد جيشه ومستشاره :

هل عندك دواء لهذه المصيبة؟؟..

 عمار يلهب الجيش كلما بردت المعركة ألهبها ، ولكلماته تأثير فى نفوس جندنا .. 

قال عمرو بن العاص : لا عليك ، فأرسل عمرو رجلين تسللوا من خلال الجند ، حتى إذا أدركوا عمار ، قتلوه غدراً .. 

 فسقط عمار شهيدا ، فلما سقط ، التفت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عدد كبير منهم في جيش علي ، وقالوا : 

هذا عمار قد قتل ، وكان فيهم ممن شهد بناء المسجد ، وسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم {{ إن أصحابي لا يقتلونك يا عمار ، إنما تقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الحق ويدعونك إلى النار }} ..

فقال الصحابة : الله أكبر ، الله اكبر ، الله اكبر .. هذه نبوءة رسول الله ، تبين لنا اليوم أننا على الحق ، وأنهم على الباطل .. فصاح الناس كلهم : [[ علي هو الذى على الحق ، ومعاوية هو الباغي ]] ..

 فانسحب ثلث جيش معاوية رضي الله عنه ، وانضم إلى جيش علي رضي الله عنه .. 

فقال معاوية : ويحك يا عمرو ، كنا بمصيبة وأصبحنا بمصيبتين ، رضي الله عن صحابة رسول الله أجمعين .. 

إنها نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

________________________

والآن نعود إلى بناء المسجد : 

فكانت الخطوة الأولى للنبى هي بناء المسجد ، وببناء المسجد استطاع إذابة الخلافات بين الأوس والخزرج ، واستطاع أيضا إذابة الخلافات بين طبقات المجتمع .. 


ذلك لأن المسجد لم يكن فقط لأداء للصلوات الخمسة ، بل كان له دور أعمق من ذلك بكثير .. 

المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان مقرا للحكم والشورى والمعاهدات والقضاء ، ولاستقبال الوفود وإعلان الأفراح ، ومكان للترفيه ، ومكان لتربية الاطفال ، ومداواة المرضى ، ومأوى للفقراء وعابري السبيل ..

وكان صلى الله عليه وسلم ، بعد أن قال : ((هنا المسجد  إن شاء الله)) .. قال :

إليّ يا معشر المهاجرين ، إليّ يا معشر الأنصار .. حتى اقترب منه كل الصحابة واجتمعوا إليه ، فقال : فلتتآخوا في دين الله ، أخوين أخوين .. 

((سنؤجل الحديث عن المؤاخاة إلى الحلقة القادمة)) .. 

________________________

وكانت أبعاد المسجد النبوي وقت بنائه كالآتى : 

جعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، طول المسجدِ خمسةً وثلاثين متراً ، أمّا عرضُه فقد قارب الثّلاثين متراً ، في حين بلغ ارتفاعُه مترين تقريباً ، فكانت المساحةُ الإجماليّةُ للمسجد قد ناهزت ألفاً وخمسين متراً مربعاً تقريباً ، هذا وقد احتوى المسجد النّبويُّ الشّريف في بادئ الأمر على أبوابٍ ثلاثة هي : الباب الجنوبيّ ، والبابُ الشّرقيّ المعروف بباب جبريل أو باب النّبي ، والبابُ الغربيُّ أو ما يُعرف بباب الرّحمة ، وقد أُغلِق الباب الجنوبي لاحقاً بعد تغيُّر القِبلة ، ليُفتَح بدلا منه بابٌ آخر من الجهة الشّماليّة للمسجد .. 

_________________________

وكان بناء المسجد يتسم بالبساطة والتواضع ، ولكن في هذا المسجد تعلم الصحابة دينهم ، فكان أشرف وأرقى جامعة عرفها الإنسان على هذه الأرض ، وخرج منه رجال أميين ، أصبحوا أساتذة تفوقوا على العالم بأسره فى الأخلاق والسلوك .. ومن هذا المسجد تخرجت السرايا والكتائب ، وفيه تعلم الصحابة الجهاد .. 

 مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، تخرج منه خير أمة أخرجت للناس ، فكانت شهادتهم عند التخرج من الله عزوجل ، وهذا نص الشهادة من القرآن :

{{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }} صدق الله العظيم ،،،

أرأيتم ، ما أجملها من شهادة من الله عز وجل .. 

________________________

والجدير بالذكر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، صلى ومعه المسلمون في مسجده بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا إلى جهة بيت المقدس ، ثم نزل الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة ، فحوَّل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة من الشمال إلى الجنوب ، وأمر بإغلاق الباب الجنوبي الذي أصبح في جهة القبلة ..


ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر في السنة السابعة من الهجرة ، وكان عدد  المسلمين قد زاد كثيرًا ، فقال الصحابة : يا رسول الله ، لو نزيد في بناء هذا المسجد .. فلبّى النبى طلبهم ، وأمر بتوسعة مسجده ، فزاد في طوله ١٥ مترًا وفي عرضه ٢٠ مترًا ، حتى أصبح مربعًا بطول وعرض ٥٠ مترًا ، وبمساحة ٢٥٠٠ متر مربع ..


يتبع بإذن الله ..

الأنوار المحمدية 

 صلى الله عليه وسلم

الحبيب المصطفى « ١١٦ »الى 120

 الحبيب المصطفى  « ١١٦ »

السيرة المحمدية العطرة

 (( الهجرة .. خيمة أم معبد ))

___________

مضى صلى الله عليه وسلم في هجرته ، حتى إذا كان في القديد (( القديد وادى فى السعودية ، به مساكن قبيلة خزاعة )) .. كان هنالك خيمة لامرأة خزاعية  ، مشهورة بكنيتها {{ أم معبد }} .. اسمها عاتكة ، يقول أصحاب الحديث في وصفها : 

كانت أم معبد امرأة برزة جلدة ، [[ معنى برزة أي تبرز للناس في الطريق ، وتستقبل الرجال لأنها إمرأة عفيفة شريفة مسنة ، جلدة أي قوية لا يستطيع أحد أن يدوس طرفها ]] .. تختبئ بفناء خيمتها ، [[ أي تجلس في ساحة خيمتها والاختباء ، هو أن تضع قطعة قماش على ظهرها وكتفها وتجمع عليه رجليها ]] .. وكانت هذه المرأة ، تطعم وتسقي وتستضيف المسافرين ، بدون سابق معرفة بهم ، فهى امرأة معروفة لكل من اعتاد المرور فى هذا الطريق .. 

___________

وكان أبو بكر صاحب القوافل والتجارة يعرفها ، فلما مروا بها ، وكانوا مرملين مسنتين ، (( أى نفذ زادهم وأصابهم القحط )) .. قال أبو بكر : 

بأبي وأمي يا رسول الله .. هناك خيمة أم معبد ، لعلنا نجد عندها شيء نشتريه ..

اتجهوا إلى خيمتها ، فسلم عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا أم معبد ، هل عندك من طعام أو تمر نشتريه؟؟.. فقالت : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزناكم [[ أي لا يوجد عندنا شيء للشراء ]] .. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أم معبد ، هل عندك من لبن؟؟.. 

قالت : لا والله .. 

فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسر الخيمة ، (( أى جانبها )) .. فوجد شاة ، فقال : ما هذه الشاة يا أم معبد؟؟.. 

قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم [[ يعني ضعيفة هزيلة لا تقدر على المشى مع الأغنام كى ترعى معهم ، فذهب الغنم وبقيت هى ]] ..

قال عليه الصلاة والسلام : هل بها من لبن؟؟.. 

قالت: هي أجهد من ذلك (تعنى أنها لضعفها، لا يمكن أن يكون بها من لبن)

قال عليه الصلاة والسلام : أتأذنين لي في حلبها؟؟.. 

(( تأملوا هذا الأدب النبوى ، يستأذن المرأة أولا قبل أن يقترب من شاتها ، فلا يهجم عليها ، ولا يتصرف تصرف الفضولى )) .. 

قالت : والله ما ضربها من فحل قط ، [[ أي لم تحمل ولم تلد حتى تحلب يوم من الأيام ]] ..

قال : أتأذنين لي أن أحلبها يا أم معبد؟؟.. 

قالت : بأبى أنت وأمى ، إن رأيت بها حلبا فاحلبها !

___________

تأملوا هذا النبي الكريم حينما يتعامل مع هذه المرأة أم معبد ، بأسلوب يفيض احترامًا وإجلالًا وتقديرًا ، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن لطيفًا مقدرًا لكل مَن يلتقي بهم ، لا من رجل ولا امرأة ، لا من مسلم ولا غير مسلم ، فهذا حق ينبغي أن يصدر من الإنسان الذي يمثل أخلاق الإسلام ، أن يُقدِّر من يلتقي به ، وأن يتحدث معه بما يليق ..

 لذلك ، فلما استأذن عليه الصلاة والسلام : أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت : بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا ، فاحلبها ..

وتأملوا هذه المرأة حينما تفدي رسول الله بأبيها وأمها ، مع أنه أول لقاء بينهما ، وما ذلك إلا لأنه أسَر قلبها ، وحلَّ به حبًّا وتقديرًا لأمرين : لَما رأت عليه من أخلاق النبوة ومهابة الفضل والشرف ، ولما كان يتعامل معها من أدب واحترام ..

___________

فدعا النبي بالشاة ، [[ أي قال قربوها ، فقربها أبو بكر ]] ..

يقول أبو بكر : فمسح صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة ظهرها وساقيها ، وسمى الله جل ثناؤه .. ودعا لشاتها قائلا :  اللهم بارك لنا في شاتنا .. فاجترت ، [[ أي أصبحت تحرك فمها كأنها تأكل العشب ]] ..ثم تفاجت ، [[ تفاجت أى الضرع لمتلأ حليبا ، فتفاجت أى فتحت رجليها ]] ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم .. فمسح ضرعها صلى الله عليه وسلم ، وغسله بشيء من ماء ، ثم قال : إليّ يا أم معبد بوعاء ، قال : فأحضرت له وعاء يربض الرهط ، 

[[ أي وعاء كبير ، يكفى لإشباع رهط من الناس ، والرهط هو عدد من الناس حتى عشرة أفراد ]] .. 

فأحضرت له وعاء يربض الرهط ، فرفع ساقها صلى الله عليه وسلم كي يحلبها ، فحلب بها ثجاً حتى علتهُ الثّمالة ..

 سبحان الله ، أنظروا إلى فصاحة اللغة العربية التي ابتعدنا عنها .. 

[[ الثج أي ينزل الحليب بقوة ، ويضرب الوعاء بصوت ، فكان الحليب ينزل بقوة ، وله رغوة بيضاء علته الثمالة أي تعلوه الرغوة البيضاء التي تدل على دسم الحليب ]] ، حتى امتلأ الوعاء .. فسقى أم معبد ، فقالت : اشربوا أنتم أولا .. 

قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : لا اشربي أنتِ أولاً ،

فشربت حتى رويت .. 

ثم سقى أبا بكر الصديق والدليل وابن فهيرة ، حتى شربوا جميعاً .. ثم أخذ  الوعاء وشرب صلى الله عليه وسلم ، وقال : 

{{ ساقي القوم آخرهم شرباً }} .. 

ثم عاد إلى العنزة وحلبها مرة ثانية ، عللاً بعد نهل ، [[ أي زيادة فربما احتاج أحد أن يشرب مرة أخرى ]] ، صلى الله عليه وسلم ..

___________

وقد جاء في بعض الروايات عن {{ هند بنت الجون }} ، التى تكون أم معبد خالتها ، وقد أسلمت فيما بعد .. أنه لما كان بخيمة خالتها أم معبد ، قام ليتوضأ صلى الله عليه وسلم ، فدعا بماء فغسل يديه ، ثم تمضمض ومجّ ذلك في عوسجة ، [[ أي بصق ماء المضمضة في حوض من أحواض الزرع ]] ، بجوار باب الخيمة ..

فأصبحت هي أعظم دوحة ، [[ يعني بعد فترة نبت في هذا الحوض شجرة ذات فروع كثيرة ]] ، وكان لها ثمر كبير في لون الورس ، [[ اي تشبه لون شجرة الكركم ]] .. وكانت رائحتها العنبر ، وطعمها الشهد ،

ما أكل منها جائع إلا شبع ، ولا ظمآن إلا روي ، ولا سقيم إلا برىء ، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا درّ [[ أي در الحليب ]] ..

فكنّا نسميها المباركة ، فأصبحنا في يوم من الأيام وقد سقط ثمرها ، واصفر ورقها ، ففزعنا لذلك ، فما راعنا إلا وقد وصلنا خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ..

___________

ثم ترك الوعاء عندها ممتلِئاً ، وارتحل صلى الله عليه وسلم ..

فجلست أم معبد تقلب يديها ، وتكلم نفسها وتقول : 

أتحلب الحائل؟!!.. والله إنه لأمر عجيب ، أتحلب الحائل؟!!..

[[ يعني شاة حائل ، لا حملت ولا ولدت ، ولم يقربها فحل .. كيف تحلب؟ ]] .. أي رجل هذا؟؟!!..


تقول أم معبد : فجاء أبو معبد زوجها ، يسوق أعنُزاً عِجافاً ، بدت عظامها لهزالها وضعفها ، يتساوكنّ هِزالاً ، [[ يعني تتمايل هذه الأعنز من شدة الضعف ]] .. 


الحبيب المصطفى « ١١٧ »

( الجزءالاخير

من السيرة ، العهد المكى ).

(( وصف أم معبد ، لرسول الله صلى الله عليه وسلم )) ..

_________________________

رجع أبو معبد إلى البيت ، فلما رأى اللبن ، قال :

من أين هذا اللبن يا أم معبد ، وليس لكم في البيت حالب ولا حلوب؟؟!!!

قالت : أما والله لقد مر بنا رجل مبارك ، ها هو قد حلب الحائل ،

أنظر إلى الشاة .. فنظر إلى الشاة فوجد ضرعها ما زال ممتلئاً ، بعد كل هذا الحليب الموجود أمامه !! 

فوقف أبو معبد مصدوما ، قال : يا أم معبد ، كيف حلب الحائل؟! 

صِفيه لي يا أم معبد ..


فالآتى بعد ،

 وصف الامرأة للرسول صلى الله عليه وسلم ، مر بها عليه الصلاة والسلام عابرا يستقي منها الماء واللبن ، لمحته عينيها فجاشت لزوجها بأوصافه عند رجوعه آخر النهار ، بهذه الكلمات التي يعجز كثير من بني الإنسان عن فهمها ، فضلا عن قول مثلها لو رأي الرسول صلى الله عليه وسلم .. وقد تكلمت باللغة العربية الفصحى ، وهى لغة القرآن ولغة أهل الجنة ، وللأسف الشديد نسيناها أو تناسيناها ، ونفتخر بلغة الغرب !!!.. 

_________________________

قالت فى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم : 

رأيت رجلا ... ظاهر الوضاءة ، أبلج الوجه ، حسن الخلق ، لم تعبه ثُجْلة أو نحلة ، ولم تزر به صلعة ، وسيم قسيم ، في عينيه دعج ، وفي أشفاره وَطَف ، وفي صوته صحل ، وفي عنقه سطع كأن عنقه أبريق فضة ، وفى لحيته كثاثة .. أحور ، أكحل ، أزج ، أقرن ، شديد سواد الشعر ، إذا صمت علاه الوقار ، وإن تكلم سما وعلاه البهاء ، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد ، وأحسنهم وأحلاهم من قريب ، حلو المنطق ، فصلا لا نزر  

ولا هذر ، كأن منطقه خرزات نُظمن يتحدرن ، رِبعة ، لا تقحمه عين من قصر ، ولا تشنؤه من طول ، غُصن بين غصنين ، فهو أنظر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا ، وله رفقاء يحفون به ، إذا قال استمعوا لقوله ، وإذا أمر تبادروا إلى أمره ، محفود محشود ، لا عابس ولا مفَنَّد ... صلى الله عليه وسلم ،،، 


 تعقيبا على ما قالته .. أقول ، إن المرأة عبرٌَت بما أحست ولمست من كمال جماله ، وحسن مظهره ، وبهجة طلعته صلى الله عليه وسلم ، وبالرغم من أن أم معبد امرأة بدوية لا تقرأ ولا تكتب ، إلا أنها وصفت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصفا فى منتهى البلاغة ، ولو أخذنا نحن بدورنا في شرح كلامها لقلنا : 


قولها ظاهر الوضاءة : أي أن جماله صلى الله عليه وسلم وحسن منظره ، يظهر لكل من رآه سواء كانت هذه الرؤية عن قُرب أم عن بعد ، والرجل الوضيء : أي حسن المنظر النظيف ، والوضاءة هى : الحسن والنظافة .. 

أبلج الوجه : أي مشرق الوجه ، أبيض مضيء .. وجاء في لسان العرب : البلج تباعد ما بين الحاجبين وقيل ما بين الحاجبين إذا كان نقيا من الشعر .. وقيل الأبلج الأبيض الحسن الواسع الوجه .. 

وقولها لم تُعِبْه ثُجْلَة أو نحلة : أي لم يعبه ضخامة البدن ، وعظم البطن واسترخاؤه .. ونُحلة أي نحول ودقة ، أى أنه أيضا ليس نحيلا .. 

قولها ولم تُزر به صلعة : الصلع صغر الرأس ، وقيل ذهاب الشعر من مقدم الرأس إلى مؤخره ، وكذلك إذا ذهب وسطه .. 

وقولها وسيم : أي حسن جميل ، الثابت الـحُسن كأنه قد وُسم ، وفلان وسيم أي حسن الوجه والسيما ، وفي صفته صلى الله عليه وسلم : وسيم قسيم ، قسيم : معناه أيضا حُسن الوجه ،  القسامة هى الـحُسن ، ورجل مقسم الوجه أي قسمات وملامح وجهه جميلة ، كأن كل موضع منه أخذ قسما من الجمال صلى الله عليه وسلم .. 

وقولها في عينيه دَعَج : أي أنه صلى الله عليه وسلم كان شديد سواد العين مع اتساعها ، شديد بياض بياضها .. 

وفي أشفاره وطف : أي أنه صلى الله عليه وسلم كان طويل شعر الأجفان ، الوطف : كثرة شعر الحاجبين والعينين ، ومن طولها لها انعطاف فى أطرافها ..  

وقولها وفي صوته صَحَل : أي أنه صوته صلى الله عليه وسلم ، كان فيه بَحَّة ولم يكن حادا بل كان فيه بحة وخشونة .. 

وقولها وفي عنقه سَطَع : أي أنه صلى الله عليه وسلم كان في عنقه طول .. وفي حديث أم معبد وصفت المصطفى صلى الله عليه وسلم  قالت : وكأن عنقه إبريق فضة ..  

وقولها فى لحيته كثاثة : أى لحيته ليست طويلة ولا قصيرة ولكنها كثيفة ..

وقولها أحور : أي أنه صلى الله عليه وسلم ، كان مع شدة سواد سواد العين ، وشدة بياض بياضها كانت عينه حدقتها مستديرة .. وجاء في لسان العرب : الحور أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها ، وتستدير حدقتها  ويبيض ما حولها وترق جفونها ..  

وقولها أكحل : أي أنه أسود أجفان العين ، أكحل أى الجفن به سواد مثل الكُحْل من غير كحل ..

وقولها أزج : أي أنه صلى الله عليه وسلم ، كان طويل الحاجب مع رقة فيه .. وقيل : زججت المرأة حاجبها بالمزَجّ أى رقّقته وطولته .. 

وقولها أقرن : الأقرن أي مقرون الحاجبين (( قريب أو متصل الحاجبين )) .. وفي حديث أم معبد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أبلج الوجه ، والأبلج الذي قد وضح ما بين حاجبيه فلم يقترنا والبلج إذ لم يكن أقرن .. إذن فأم معبد أرادت بالبلج : أنه مشرق الوجه ولكنه ليس بعيد ما بين الحاجبين ، بدليل أنها وصفته بأنه أقرن وهو قريب الحاجبين ..

وقولها فصلا لا نزر ولا هذر : أي أنه صلى الله عليه وسلم كان كلامه مفصلا ، أى لا يتكلم بسرعة فيكون كلامه غير واضح ، وكان وسطا في الكلام ، لا قليل ولا كثير ، فالنزر هو القليل التافه وهو القليل في كل شيء ، والإنسان النزور هو قليل الكلام ، والهذر هو الكثير الرديء ، وهذر الرجل في كلامه أي أكثر الكلام بلا فائدة .. فرسول الله وصفته بأنه لم يكن لا هذا ولا ذاك ، إنما كان وسطا بين ذلك وذلك ، صلى الله عليه وسلم .. 

وقولها كأن منطقه خرزات نظمن : أى أنه فصيح اللسان متزن ومرتٌَب فى كلامه ..

وقولها ربعة : أى أنه ليس بطويل ولا بقصير (( لا تقحمه عين من قصر ، ولا تشنوه من طول .. أى ليس به طول زائد ولا قصر زائد)) ..

وقولها غصن بين غصنين ، فهو أنظر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا : تصفه بين أصحابه الموجودين أمامها ، كأنه غصن بين غصنين ، لكنه أجملهم منظرا وأعلاهم قدرا ..

وقولها له رفقاء يحفون به : أى يتسابقون لطاعته ..

وقولها محفود : أي أنه صلى الله عليه وسلم كان محفودا من أصحابه أي معظما مكرما مخدوما ، والحَفْد : هو الخِدمة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت وإليك نسعى ونحفد : أى نسارع في الخدمة والطاعة .. وفي حديث أم معبد ، محفود أي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسارعون في طاعته .. 

وقولها محشود : أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتمع عليه أصحابه فيحفون به ويحتشدون حوله .. ورجل محشود : أي عنده حشد من الناس أي جماعة ،  يحفون بخدمته لأنه مطاع فيهم .. 

وقولها لا عابس ولا مفند : أي أنه صلى الله عليه وسلم كان باشّاً جميل المعاشرة ، لا يهجن أحدا ، بل كان يوقّر الناس جميعهم صلى الله عليه وسلم ، وكان صاحبه كريم عليه .. جاء في لسان العرب : العابس هو الكريه المَلْقي ، الجهم المُحَيَّا (( تجد حاجبيه معقودان وعليهما كشرة )) ، والمفَنِّد : بكسر النون : الذي يقابل غيره بما يكره ، ومعنى قولها ولا مفَنِّد : أي أنه صلى الله عليه وسلم لا يفند غيره ، أي لا يقابل أحدا في وجهه بما يكره ، وهذا يدل على الخلق العظيم 

___________

قال البيهقي في الدلائل وغيره من أهل السند : 

كثرت غنم أم معبد  ، حتى أحضرت بعض منها إلى المدينة .. فمر أبو بكر رضي الله عنه فرآها ، 

فعرفه إبنها فقال : 

يا أمي هذا الرجل الذي كان مع حالب الحائل ، [[ هكذا أصبح إسم النبى عندهم (حالب الحائل) ]] .. 

فقامت إليه وقالت : 

يا عبدالله ، مَن الرجل الذي كان معك؟؟..

قال أبو بكر لها : ألا تعلمين؟؟.. 

قالت : لا ، إلا أنه حلب الحائل .. 

فقال لها : هذا رسول الله محمد بن عبدالله ..

قالت : أدخلني عليه فداه أبي وأمي .. 

قال : فأدخلتها ، فاستقبلها صلى الله عليه وسلم أحسن استقبال ،

وأطعمها صلى الله عليه وسلم وأكرمها وأعطاها ، فأعلنت إسلامها رضي الله عنها وأرضاها ..

ولأنها مسلمة نأخذ الحديث عنها ، تقول أم معبد : 

بقيت الشاة عندنا نحلبها في الصباح والمساء ، فوالله الذي لا إله إلا هو ، ما في أرض الله شيئاً يؤكل ، ولا شاة تحلب ، [[ يعني بالصيف والشتاء ، على مدار السنة ، رغم عدم وجود مرعى كى ترعى الغنم فيه وتأكل منه ، كنا نحلب هذه الشاه يوميا صباحا ومساءا ]] .. صلى الله عليه وسلم ،،،

_________________________

إلى هنا ، أكون قد ختمت السيرة فى {{ العهد المكي }} ، بكل مآسيه وأحزانه وآلامه ..  

 

ولا يعني هذا أن السيرة انتهت ، ما زال أمامنا مشوار طويل في العهد المدني .. 


وسيكون معنا فيما بعد ، الفاصل بين العهد المكي والعهد المدني .. 

سنتناول من خلاله ، وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، بحسب أقوال الصحابة والمقربين منه ، (( شكله ومظهره وطباعه وسلوكه )) .. ثم ننتقل للعهد المدني ، وكيف كانت يثرب قبل أن يدخلها صلى الله عليه وسلم عبارة عن مشاكل متراكمة من الصعب حلها ، فلما دخلها صلى الله عليه وسلم ، أنارت المدينة المنورة ، وكيف حل جميع مشاكلها صلى الله عليه وسلم ،،، 


الحبيب المصطفى « ١١٨ »

السيرة المحمدية العطرة ..

[[ وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ( الجزء الأول ) ]] 

__________

نتهينا بفضل الله عز وجل من السيرة بالعهد المكي ..

وقد جعلت الفاصل بين العهد المكي والعهد المدني ، لذكر أوصاف النبي {{ صلى الله عليه وسلم }} وصفاته .. 


ولقد مر معنا من قبل ، بعض من ذكرها يوم هِجرته ، على لسان أم معبد .. والآن دعونا نستعرض ما جاء من أوصافه وصفاته صلى الله عليه وسلم ، كما جاء ذكرها عن الصحابة الكرام ، وزوجته أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها ، وكل من تعامل معه ، صلى الله عليه وسلم 

___________ 

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً .. [[ أي له هيبة ]] ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر .. وكان في وجهه استدارة ، [[ ليس مستديرا كما الدائرة ، بل أقرب إلى الشكل البيضاوي ]] ..

 وكان النور في وجهه صلى الله عليه وسلم ، لا يفارقه في سائر أحواله .. في الرضا والغضب ، في عبادة وغير عبادة ، دائماً كان نور وجهه يتلألأ صلى الله عليه وسلم .. 

تقول أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها : 

كنت أخيط يوما ، فوقع المخيط من يدي ، فأخذت ألتمسه والدنيا ليل بعد العشاء فلم أجده ، فدخل صلى الله عليه وسلم ، فأشرق البيت ورأيت المخيط ..

فقلت : صلى الله عليك وسلم ، إن لَوَجهُك يارسول الله أنور من البدر ، [يعني وجهك به نور أكثر من البدر ] ..

يقول الصحابة رضوان الله عليهم أجمعون : 

كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس بيننا ، يتلألأ نور وجهه في الجدر ، [[ أي يروا نور وجهه على الجدران المقابلة له فى جلسته ]] .. ويفوح منه ريح ، أطيب من ريح المسك .. 

[كان صلى الله عليه وسلم يستعمل الطيب ، وكان أحب الطيب إليه المسك ، إلا أن المسك الذي يفوح منه أكثر من الطيب الذي يضعه على جسده ]

ويقول أصحابه : 

كان صلى الله عليه وسلم يحسن إلى الصبية ، ويترفق بهم .. فكان يمسح بكفه على رأس الصبي ،

فكان إذا مس صبيا ، يُعرف من بين الصبية سائر اليوم أن رسول الله قد مسه ، لِما يفوح من رأسه من ريح المسك ..


و نام يوماً في بيت أم سليم الأنصارية ، فوضعت تحت رأسه وسادة من جلد ، وكان الطقس حاراً .. فأخذ صلى الله عليه وسلم يتعرق ، [[ أي يتصبب العرق من وجهه ]] .. فأخذت أم سليم وعاء ، وظلت تجمع عرقه عن تلك الوسادة ، [[ لأن الوسادة من جلد ]] .. فكانت تجمعه وتضعه في قارورة ، فاستيقظ صلى الله عليه وسلم ، ورأى ما أقدمت عليه أم سليم ، فقال : 

ما هذا يا أم سليم؟؟!!!

فقالت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، نأخذ من عرقك ، فنطيب به طيبنا ، [[ أى يضعوا في عطرهم نقطة من عرقه صلى الله عليه وسلم ، فيزداد طيباً ]] ، ذلك لأنه مطيب من الله صلى الله عليه وسلم ..

وكان العرق في وجهه كأنه اللؤلؤ ، [[ أي من نور وجهه وجماله ، إذا عرق وأصبحت حبات العرق على جبينه أو عند أنفه أو خده ، تراها تضيء كأنها حب اللؤلؤ ، لما خلفها من نور جسده صلى الله عليه وسلم ]] ..


ولم يكن صلى الله عليه وسلم

بالطويل ولا بالقصير《ربعة》، ولكنه كان يطول من ماشاه أيا كان طوله .. 

فجميع الصحابة رضى الله عنهم ، أجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ربعة ، ليس بالطويل ولا بالقصير .. ولكن كان يتميز بصفة خاصة تميزه عمن سواه ، وهي من خصائص النبوة ، 

فكان إذا مشى مع أي رجل ، كانت هامته تعلو هامة من معه ..

وكمثال : كان عمر بن الخطاب يعرف بالطويل ..  

يقول الصحابة عن عمر : كان عمر طويلا ، ولكنه كان إذا مشى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، يكون رأس النبي أعلى من رأسه .. 


وكان صلى الله عليه وسلم ، أزهر اللون ، عظيم الهامة ، [[ أي لونه أبيض ، ولكن ليس الأبيض الباهت ، وإنما كان أبيض فيه الحمرة .. فكان رأسه وخديه صلى الله عليه وسلم ، تميل إلى اللون الزهرى ]] ..

وهذا ما وصفه به عمه أبو طالب ،

 لأن المعروف في زمانهم ، أن الذين يعيشون في الحجاز ، يغلب عليهم اللون الأسمر بحكم ظروف المناخ المشمسة .. فكانت آية ظاهرة وواضحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا اللون المميز ، فكانت الشمس لا تؤثر في لون بشرته .. 


لذلك لما مدحه أبو طالب في قصيدته المعروفة ب ((لامية أبى طالب)) ، قال فى شطر منها : {{وأبيض يستسقى الغمام بوجهه}} ..

لماذا يقول عنه هكذا ، إذا كان هنالك من يعادله أو يماثله فى اللون؟؟.. 

يقول أصحابه رضي الله عنهم ،

كان إذا أتي رجل من خارج المدينة لا يعرف النبى ، فوجد الناس مجتمعين ، والنبي صلى الله عليه وسلم واحد منهم لا يميز بلباس خاص .. كلهم أصحاب عمائم ، كلهم أصحاب لحى ، كلهم أهل تقوى وخشوع ،

والنبى كان لا يتصدر المجلس ، بل كان يجلس بين الصحابة .. 

فيقف الغريب على باب المسجد 

ويسأل : أيكم محمد رسول الله ، 

فيقولون له : ذلك الرجل الأبيض .. 

___________

 وكان شعره صلى الله عليه وسلم ، ليس بالناعم السهل ، ولا بالأجعد [[ أي شعره فيه تموج ، ليس بالجعد ولا الناعم الخفيف ]] .. وكان له مشط ومرآة ، وعود من خشب يفرق به شعره من المنتصف ، وكان أحيانا يمشط شعره بكف يديه .. 

وكان إذا صار شعره  طويلا ، فرقه حتى يصبح جديلتين فرقه وجدله .. فعن أم هانىء قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم له أربع غدائر ( أى أربع ضفائر ) .. 

وما حلق صلى الله عليه وسلم شعره ، إلا في نسك حج أو عمرة ، لذلك كان شعره يصل إلى منكبيه ، أي قريب من كتفيه .. 

ولم يرى الصحابة شعره إلا عندما أحرم في حج أو عمره ، فما أجمعت عليه الأحاديث .. أنه لم يره الصحابة حاسرا شعره ((أى كاشف شعره))  ، لأنه كان دائما يلبس العمامة على رأسه .. 

ولذلك ، فإن الأفضل لعلماء ومشايخ الأمة هذه الأيام ، الذين يصعدون المنابر ، وعلى القنوات الفضائية ، يدعون الناس إلى الله ، أن يستروا رؤوسهم اقتداءا بالنبى صلى الله عليه وسلم ، وهذا {{ شرع الله }} ..

فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسرا رأسه ، إلا إذا أحرم أو كان في بيته ، لذا قالوا يصل شعره لمنكبيه .. 

وعن حكم تغطية الرأس : {{ تغطية الرأس للمراة فرض }} ،

أما للرجال ، {{ سنة مؤكدة }} ..


وكذلك بالنسبة للدعاة إلى الله هذه الأيام (( المفروض أنهم متمسكون بالسنة )) .. تجد أكثرهم بدون لحية ، وعندما تسأل عالم يعتبر جليل عند الناس ، لم لا تطيل لحيتك؟؟.. يقول : خلينا نطبق الفرض أولا وبعدين نطبق السنة !!!  

(( أنا أتحدث عن الدعاة ، هؤلاء المفترض أنهم متمسكون بالسنة ، وليس عن عامة الناس )) ..

وبعض الدعاة يقولون : دعونا نجذب الناس لأن اللحية تنفرهم !!.. لا والله ، الذي ينفر الناس أسلوب الدعوة ، أصدق الله في النية ، وليخرج كلامك من قلبك ، يصل لقلوب الناس ، فدين الإسلام له لذة لا يحتاج صراخ وتباكي ليصل للناس ، دع لسانك يطرق القلوب .. اللحية ليس لها علاقة بتنفير الناس ، أنت كداعية ، يجب عليك أن تطبق شرع الله ، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام .. 

____________________

كان صلى الله عليه وسلم ، واسع الجبين ، (( الجبين هو الحيز ما فوق صدغ الإنسان ، عن يمين الجبهة وشمالها )) ..

وكانت عيناه واسعتان جميلتان ، والحدقة شديدة السواد ، والرموش طويلة ، وشديدة السواد أيضا وكثيفة ..

وكان حاجبيه طويلين بحيث يصلان الى آخر العينين ، مقوسين ، شعرهما ثقيل ، ليس هناك اتصال بينهما إلا بشعر خفيف جدا ..

يقول جابر بن سمرة رضي الله عنه : كنت أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقول إن النبي أكحل وهو ليس بأكحل ، [[ يعني كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قد وضع كحل في عينيه ]] ..

روي أن الله تعالى أوحى الى عيسى عليه السلام :

صدقوا النبي العربي الأنجل العينين (( أنجل العينين أى اتسعت وحسنت )) ، فكان ذلك من صفاته في الكتب السابقة ..


وكان النبي صلى الله عليه وسلم أقنى الأنف ، يعني محدب أو مرتفع من الوسط ، ولكن بصورة رقيقة وجميلة وجذابة ، يستحسنها كل من ينظر إليها ، وقد كان ذلك من صفة أنف يوسف عليه السلام .. 

___________

أما فمه صلى الله عليه وسلم ،

يقول علي رضي الله عنه :

كان صلى الله عليه وسلم {{ حسن الفم }} ، وتقول عائشة رضي الله عنها : 

 كان أحسن الناس شفتين ، وألطفهم ختم فم .. [[ يعني شفتيه جميلتان إن كانتا مفتوحتين أو مضمومتين ]] ، صلى الله عليه وسلم ..


وكانت أسنانه صلى الله عليه وسلم بيضاء منتظمة ، وكان دائم الابتسام .. فعن عبد الله بن الحارث قال : {{ما رأيت أحدًا أكثر تبسماً من رسول الله }} ..

وكان براق الثنايا (( الثنايا هى مقدمة الأسنان )) ، و إذا تكلم رئي كالنور من بين ثناياه ..

وكان سهل الخدين ، [[ يعني الخد مستوي ، وليس منتفخاً ]]

ولم يكن وجهه بالمطهم ولا المكلثم (( المطهم الشيء الضخم المنتفخ ، والمكلثم امتلاء الخدين باللحم )) .. وكان في وجهه شيء من الاستدارة ، لكنه أقرب للشكل البيضاوى .. 


وكان عدد الشيب في رأسه ولحيته ، لا يتعدى ٢٠ شعرة بيضاء .. كانت تحت شفته السفلية ، وكانت بعض الشعرات البيضاء موجودة فوق الذقن [[  عند التقاء شعر الراس مع اللحية ( السوالف) ]] ..

وكان بياض هذه الشعرات كبياض اللؤلؤ ، صلى الله عليه وسلم .. 

____________________

وكان حسن اللحية ، يراها الصحابة وهم واقفون خلفه للصلاة ، طولها بقبضة اليد ، [[ تصل لأول صدره ]] ..

وكان أجمل عباد الله عنقاً [[ الرقبة ]] ، لا طويلة ولا قصيرة .. ما ظهر من عنقه للشمس والرياح ، كأنه إبريق فضة ، يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب ..

وكان صلى الله عليه وسلم ، ليس بالسمين ولا بالنحيل ، متناسق الأعضاء ، مشدود العضلات ، عريض الصدر ، ليس له كرش ، 

وكان له شعر في أعلى صدره ، وهناك خط من الشعر الخفيف جدا لصرته ، صلى الله عليه وسلم ، وكان على يده شعر ..

يقول أنس رضي الله عنه : 

{{ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم }} ..

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صافح رجلًا ، تبقي رائحته  في يد من صافحه ..

وروي مسلم ، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : 

صليت مع الرسول ،  ثم خرج فاستقبله ولدان ، فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً واحداً ، ثم مسح خدي ، فوجدت ليده ريحاً ، كأنما أخرجها من جونة عطار ..

[[ الجونة ، هى الوعاء الذي يضع العطار فيه العطر ]] ..


وكان وجهه  كالقمر [[ لشدة جماله ]] ، لو نظرت إليه لقلت أن الشمس ساطعة ..

فكان فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ..

يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه ، شاعر النبي صلى الله عليه وسلم : 

 أحسن منك لم تر قط عيني * * * وخير منك لم تلد النساء .. 

خلقت مبرئا من كل عيب * * * كأنك قد خلقت كما تشاء ..


هل أصف لكم نعيم الجنة؟؟؟..

يكفيها من النعيم والجمال  أن فيها :

{سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم }


الحبيب المصطفى «  ١١٩ »

وصف الرسول صلى الله عليه وسلم (( الجزء الثانى )) ..

___________

صلى الله وسلم عليك يا حبيبي يارسول الله ..

تحدثنا فى الحلقة السابقة ، عن وصف النبى من ناحية الشكل والهيئة .. دعونا الآن نتناول بالحديث ، صفاته وطباعه صلى الله عليه وسلم ..


كان يلبس ما يتيسر له من الملابس التي كانت معروفة في قومه ، فلم تكن ملابسه مميزة عن عامة الناس ..

وكان يضع على رأسه عمامة ، وهكذا كان كل العرب في ذلك الوقت ، وكان يلبس العمامة وتحتها  قلنسوة ، [[ القلنسوة ، هي الطاقية كالتى يلبسها الحاج ]] .. وكان في بعض الأوقات يلبس العمامة بدون قلنسوة ، وكان لعمامته ذؤابة ، ((مثل ذيل للعمامة ينزل للخلف على ظهره بين كتفيه)) .. وقد ذكرت لكم ليلة الإسراء والمعراج   عندما أخبره جبريل ، بأن يلبس عمامة سوداء لها ذؤابتان ، وكان له عمامة بيضاء وعمامة سوداء وخضراء ، وربما ألوان أخرى ..

ولم تكن عمامته صلى الله عليه وسلم كبيرة بحيث يؤذيه حملها ، ولا صغيرة لا توفي الرأس حقه من الوقاية والحماية ، بل كانت وسطا بين ذلك ..

وكان أكثر لبسه للجلباب صلى الله عليه وسلم ، ويلبس الجبة والقميص ، [مثل العباية التي يلبسها الشيوخ ]

وكان صلى الله عليه وسلم ، يلبس السروال تحت ملابسه [[ نسميه الآن بوكسر ، كان يلبسه الرجال ولكنه طويل ]] ..

وكان يلبس جميع أنواع القماش عدا {{ الحرير }} ، وكان يفضل الثياب المصنوعة من القطن ، وكان يحب اللون الأبيض في اللباس .. 

___________

وكان صلى الله عليه وسلم يلبس في قدميه النعل ، [ما نسميه الصندل ] وكان يلبس الخف [[ الخف مثل الجوارب ، ولكنه من جلد ويغلق من الجانب ]] ..

هذا هو الخف ، الذى يجوز المسح عليه للوضوء ، مع مراعاة أحكام وشروط المسح على الخفين ، والآن ينطبق على الجوارب نفس أحكام المسح على الخفين ..


وكان صلى الله عليه وسلم ، يلبس خاتم من فضة مكتوب عليه : {{ محمد رسول الله }} ،

وكانت الكتابة من أسفل إلى أعلى ، لأنه صلى الله عليه وسلم أراد بذلك ، ألا يعلو اسمه على اسم الله تعالى ، فكانت الكتابة هكذا :

الله   رسول   محمد 

وكان صلى الله عليه وسلم ، يلبس الخاتم في أصبعه الخنصر ، [[ يعني الأصبع الصغير ]] .. وكان يلبسه في يده اليسرى أحيانا ، وفي اليمنى أحيانا أخرى ..

____________________

وكان صلى الله عليه وسلم  يحب الطيب ، [[ العطر ]] ..

وكان اسم عطره الذي يتطيب به {{ الغَالِيَةُ }} .. إذا أردت شراء عطر من محل العطور ، أطلب تركيبة عطر الرسول صلى الله عليه وسلم ، (( كانت تركيبته من مسك وعنبر وعود وكافور)) .. 

وكان أحياناً يتطيب بالمسك وحده ، [[ ولكنه كان المسك الأصلى ، وليس المسك المغشوش الذى يباع هذه الأيام ]] ..


وكان صلى الله عليه وسلم يأكل جالسا على الأرض ، يجثو بركبتيه ، أو ينصب رجله اليمنى ويجلس على اليسرى ..  

وكان صلى الله عليه وسلم ، 

يأكل بأصابعه الثلاثة الإبهام والسبابة والوسطى ، وأحيانا كان يأكل بأصابعه الخمسة ، وكان يأكل بيده اليمنى ولا يأكل باليسرى (وقد نهى عن ذلك) .. 

وكان صلى الله عليه وسلم إذا شرع فى الأكل ، يبدأ بالتسمية " بسم الله" .. وكان يكرم ضيفه بتقديم الطعام له وعرضه عليه مرارا وتكرارا ، وكان يحب الحلوى والعسل ، وكان يأكل اللحم مطبوخا ومشويا .. وإن كان النبى ضيفا عند قوم وقدموا له الطعام ، فلا يخرج من عندهم قبل أن يدعو لهم قائلا : (( اللهم بارك لهم فيما رزقتهم ، واغفر لهم وارحمهم )) ..

 وكان لا يتكلف في أكل الطعام ، بل كان يأكل ما يقدم إليه ، وإذا لم يحب شيئا ، لا يأكله دون أن يعيبه .. فكان مثلًا لا يأكل البصل النيء ولا الثوم النيء ولا الجراد ، ولا يحب أكل الكليتين ، دون أن يعيب هذه المأكولات ..

وكان قليل الأكل ، تقول عائشة رضي الله عنها : 

{{ لم يشبع يومين متتاليين }} ..

وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة لا يجد عشاء ، تقول فاطمة ابنة النبى رضي الله عنها ، أنها ناولت النبي صلى الله عليه وسلم كسرة خبز ، فقال لها : 

هذا أول طعام أكله أبوكِ منذ ثلاثة أيام ..

___________

وكان صلى الله عليه وسلم يشرب ثلاثا ، يتنفس بينهم ، ويبعد الإناء عن فيه ونفسه ، وكان يجلس  أثناء الشراب ..


وكان ينام على جنبه الأيمن ، ويضع يده تحت خده .. 

وكان صلى الله عليه وسلم ،

ينام على الحصير ، وكان فراشه مصنوع من جلد محشو بالليف ، [[ الذي يؤخذ من النخيل ]] ..

وكانت وسادته [[ مخدته ]] ، أيضا من جلد محشو بالليف .. 


وكانت مشيته صلى الله عليه وسلم ، كأنه ينحط من صبب ،[[ أي كأنه ينزل من منحدر ]] .. وكان معتدلا فى مشيته ، فلم يكن متماوتا ، ولا مهرولا مضطربا ، ولكن يمشى مشيا قويا ، 


وكان كلامه صلى الله عليه وسلم ، تقول عائشة رضي الله عنها : 

 لم يكن يسرد الحديث كسردكم ، [[ يعني الكلام لم يكن متصلا ببعضه البعض ]] .. بل كان النبي يحدث حديثا ، لو عده العاد لأحصاه ، وكان إذا حدث بحديث تبسم في حديثه ..


وكان صلى الله عليه وسلم إذا التفت ، التفت بجميع جسده وليس برأسه فقط ، وكان يُقبل بوجهه على كل من يحدثه ، ولا ينصرف عنه النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه ، حتى يكون الرجل الذي يحدثه هو الذي ينصرف عنه أولا ..

وكان إذا صافحه أحد ، لا يكون هو أول من يسحب يده من المصافحة ، وكان  يظهر الاهتمام بكل الناس ، حتى أنه جعل كل واحد من أصحابه ، يعتقد أنه خير القوم وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لدرجة أن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، 

قال : كان صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه عليّ ، حتى ظننت أني من خير القوم ..

فقلت : يا رسول الله ، أنا خيرٌ أم أبو بكر؟.. 

قال : أبو بكر .. 

قلت : يا رسول الله ، أنا خيرٌ أم عمر؟..

 قال : عمر ..

قلت : يا رسول الله ، أنا خيرٌ أم عثمان؟.. 

قال : عثمان .. 

 يقول : فصدقني ، فوددتُ أني لم أكن سألته 


وكان صلى الله عليه وسلم ، لا يضحك بصوت مرتفع ، ولكن كان ضحكه أن يبتسم ..

وكان صلى الله عليه وسلم دائم التبسم ، روي الترمذي عن عبد الله بن الحارث ، قال : 

ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

وكان إذا سُرٌَ ، استنار وجهه كأنه قطعة قمر ..  

وكان بكائه من جنس ضحكه ، بلا شهيق وبلا صوت مرتفع ..

وكان صلى الله عليه وسلم كثير البكاء من خشية الله تعالى ، وربما زار مريضا فبكى رحمة له ..


وكانت له هيبة صلى الله عليه وسلم ، وكان هادئا رزيناً وقورا ، كما وصفته ام معبد وتحدثنا عن وصفها في الحلقة رقم "١١٧" :

((إن صمت فعليه الوقار ، وإن تكلم سما وعلاه البهاء)) ..

وكان من وقاره صلى الله عليه وسلم كما قلنا ،  أنه لا يضحك بصوت مرتفع ، ولا يبكي بصوت مرتفع ، ولا يكثر المزاح ..

ولذلك كان الصحابة يجلسون في مجلسه صلى الله عليه وسلم ، كأن على رءوسهم الطير ..

وكان جل الصحابة لا يستطيعون التمعن في وجهه ، من شدة هيبته وأنواره صلى الله عليه وسلم ، ولذلك مثلا ، نجدهم احتاروا في وصف حاجبيه ، هل يوجد بين حاجبيه شعر متصل أم لا؟؟..

يقول عبدالله بن عمرو ، قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما ملأت عيني منه قط حياء منه وتعظيماً له ، ولو قيل لي صفه لما استطعت ..

_________________________

ولقد رأته {{ قيلة بنت مخرمة التميمية رضي الله عنها }} ، قالت :

رأيت النبى صلى الله عليه وسلم ، وكان جالسا القرفصاء فى المسجد ، فأخذنى المنظر ، لما رأيت من جلوسه على الأرض ، ((وكأنها قارنت بينه وبين كسرى وقيصر والنجاشى ، الذين يجلسون على العروش)) .. تقول : فأرعدت ( أى أصابتنى رعشة ) ، من الخوف من الله سبحانه وتعالى ، ومن إجلال النبى صلى الله عليه وسلم ، وهو على هذه الهيئة فى جلسته ..  

ودخل علي النبى إعرابي ، فلما رآه أخذ يرتعد بشدة ..

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :

 هون عليك ، فإني لست بملك ولا جبار ، إنما أنا ابن امرأة من قريش ، كانت تأكل القديد بمكة ، [[ القديد هو اللحم المجفف ]] ..

صلوات ربي وسلامه عليك يا حبيبي يا رسول الله ..


الحبيب المصطفى « ١٢٠ »

(العهدالمدني - البداية) 

السيرة المحمدية العطرة ..  (( مشاكل المدينة ، قبل أن يدخلها صلى الله عليه وسلم ))

____________________

انتهينا في الهجرة ، عند خيمة أم معبد ، وقبل أن نشرع بحديث  وصول النبي صلى عليه وسلم للمدينة ، ونزوله بقباء ، وكيف كان استقبال أهل المدينة له .. 

لا بد لنا من أن نلقي نظرة على {{ مشاكل المدينة }} ، قبل دخوله عليها صلى الله عليه وسلم ..

فلقد اجتاز النبى المرحلة الصعبة في تاريخ الدعوة ، وهي مرحلة الدعوة المكية ، والتى استمرت {{ ١٣ سنة }} كانت مليئة بالاضطهاد الشديد للغاية ، والتعذيب ، والتضييق ، والحرب الإعلامية .. لكن الواقع أيضا ، أن العهد المدني ، كان صعبا وليس بالسهل أبدا ..

دعونا نرى ما الذي واجهه صلى الله عليه وسلم ، عندما هاجر إلى المدينة ، وكم تحمل نبينا صلى الله عليه وسلم من المصاعب ،  في سبيل دعوته إلى الله ..

___________

١ - الحروب بين الأوس والخزرج :

كانت المدينة تموج بالحروب الأهلية بين {{ الأوس والخزرج }} ، ولقد حدثتكم من قبل عن الأوس والخزرج في الحلقة {{ ٩٦ }} ، أنهم أوس وخزرج أصلهم أخوة ، من أم واحدة اسمها {{  قيلة }} ،

وكذلك هم من سلالة رجل واحد .. وبرغم ذلك كانت هناك عداوة شديدة جدا بين قبيلتي الأوس والخزرج ، وبينهما تاريخ طويل من الحروب الأهلية ، عددها أكثر من عشرة حروب ،

 آخرها  كانت {{ حرب بعاث }} ، التي انتهت قبل الهجرة بخمس سنوات فقط ، وكانت أشهر وأدمى معركة بين اليثربيين ، والتى أورثت في نفوسهم الكثير من الثأر والاحتقانات ..

____________________

٢ - اليهود :

وجود ثلاث قبائل يهودية كبيرة في المدينة ، وهي قبائل :

- بني قينقاع ..

- وبني النضير ..

- وبني قريظة ..

وقد قابل اليهود الدعوة الإسلامية بالعداء الشديد ، والسبب أنهم كانوا يطمعون أن يكون نبي آخر الزمان واحدا منهم ، ثم كانت المفاجأة القاسية على قلوبهم ، أن بعث نبي آخر الزمان من العرب ..

والمغضوب عليهم اليهود ، كانوا يظنون أن خاتم الأنبياء سيكون منهم ، لأن أكثر الأنبياء ، من بني إسرائيل .. 

ونبي آخر الزمان ، كان معروف وذِكرُه كان موجودا ، من لدن آدم ومن بعده على لسان الأنبياء والرسل جميعهم ، [[ من آدم إلى عيسى عليه السلام ، وكانوا مأمورين هم ومن تبعهم ، أن يتبعوا هذا النبي الأمي عندما يبعث فيهم ]] ..

قال تعالى : 

{{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ }} صدق الله العظيم ،،

جميع الأنبياء والرسل ، مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم ، وكان عددهم كما جاء فى أغلب الروايات والأحاديث كالآتى : 

- عدد الرسل {{ ٣١٣ }} ، ثلاثمائة وثلاث عشرة رسولا ..   

- وعدد الأنبياء {{ ١٢٤٠٠٠ }} ، مائة وأربعة وعشرون ألف نبيا .. 

واستدلوا على ذلك بالحديث الذي رُوي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، أنه قال : 

《يا رسولَ اللهِ ، كمِ الأنبياءُ؟.. قال : مئةُ ألفٍ وعشرونَ ألفًا ، فقال : يا رسولَ اللهِ كمِ الرُّسلُ مِن ذلك؟..  قال : ثلاثُمئةٍ وثلاثةَ عشَرَ جمًّا غفيرًا ، قال : يا رسولَ اللهِ مَن كان أوَّلَهم؟.. قال : آدَمُ》، ((جما غفيرا ، أى جميعا لم يتخلف منهم أحد)) ..

كلهم مأمورون باتباع نبى آخر الزمان ، وهؤلاء الأنبياء والرسل ، منهم من تم ذكرهم فى القرآن وعددهم ٢٥ نبيا ورسولا ، (( ١٨ منهم تم ذكرهم فى سورة الأنعام ، والباقى فى سور متفرقة )) ، ومنهم من لم يتم ذكرهم فى القرآن .. قال تعالى : 

{{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ }} .. وقال تعالى : (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا) ..

وكان مما قيل ، أن عدد الأنبياء والرسل الكلى ، ثمانية آلاف نبيا ورسولا .. وقيل أن عددهم كان ، ألف نبيا ورسولا ، وقيل غير ذلك ، وبعض مما قيل بأحاديث متفرقة عن الرسول عليه الصلاة والسلام ، والله أعلم ..

إذاً ، هذا النبي لو ظهر في أي أمة من الناس ، فهو فخر لهذه الأمة  ليس بعده فخر ، لما له من كرامة ومحبة عند الله .. 


اليهود لم يتوقعوا أبدا أن يكون هذا النبي من العرب ، ولا من ولد إسماعيل عليه السلام ؛ لأنه لم يخرج من سلالته ولا نبي واحد قط .. وهم فى نفس الوقت يعلمون جيدا وبمنتهى الدقة ، صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم قبل تحريفها .. 

قال تعالى : 

{{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }} صدق الله العظيم ،،

الشيء الوحيد الغير موجود في كتبهم ، هو نسب النبي صلى الله عليه وسلم ، موجود فقط أن اسمه {{ محمد }} ، وموجود أن اسمه {{ أحمد }} .. ولكن ليس مذكورا أنه : 

{{ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ... إلى أن نصل إلى عدنان ... إلى أن نصل إلى إسماعيل عليه السلام }} ، وقد كان كل الأنبياء بعد إبراهيم عليه السلام ، من نسل يعقوب ابن اسحق ابن إبراهيم [[ أى أن كل الأنبياء بعد إبراهيم ، كانوا من بني إسرائيل،لأن يعقوب هو إسرائيل]

باستثناء نبي واحد هو إسماعيل عليه السلام وهو أبو العرب ، ولم يأتِ نبي واحد من نسل {{ إسماعيل }} .. وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل ابن إبراهيم عليهما السلام ، وكأن الله تعالى يقول لهم : أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، {{ يعدل كل الأنبياء }} ..

___________

دعونا نوضح الآن بعض النقاط ، ((وهى خارج الموضوع)) .. التى قد يتساءل عنها البعض فيما يخص الأنبياء والرسل :

أولا : الفرق بين الرسول والنبى : 

الجواب : المشهور عند العلماء ، أن النبي : هو الذي يوحى إليه بشرع ، ولكن لا يؤمر بتبليغ الناس ، يوحى إليه أن يفعل كذا ويفعل كذا ، يصلي كذا يصوم كذا ، لكن لا يؤمر بالتبليغ فهذا يقال له نبي .. أما إذا أُمر بالتبليغ فيبلغ الناس وينذرهم ، صار نبياً رسولًا ، كنبينا محمد ﷺ ، ومثل موسى وعيسى ونوح وهود وصالح وغيرهم ..

وقال قوم آخرون من أهل العلم : إن النبي هو الذي يبعث بشريعة تابعة لغيره ، أى تابعة لنبي قبله ، يقال له نبي ، أما إذا كان مستقلًا ، فإنه يكون نبيًا رسولًا .. فالذين بعثوا بعد موسى بشريعة التوراة يسمون أنبياء ، لأنهم تابعون للتوراة .. 

والصواب هو الرأى الأول ، وهو أن الرسول هو الذي يبعث ويؤمر بالتبليغ ، حتى وإن كان تابعًا لنبي قبله كما جرى من داود وسليمان وغيرهم من الأنبياء بعد موسى ، فإنهم دعوا إلى ما دعا إليه موسى وهم أنبياء ورسل عليهم الصلاة والسلام .. لذلك فالرسول هو الذي يؤمر بالتبليغ مطلقًا وإن كان تابعًا لنبي قبله ، كمن كان على شريعة التوراة ، والنبي هو الذي لا يؤمر بالتبليغ ، وإنما يوحى إليه بصيام أو بصلاة أو نحو ذلك ، لكنه لا يؤمر بالتبليغ .. وعلى ذلك فإن : كل رسول نبى ، وليس كل نبى رسول ..


ثانيا : الأنبياء العرب : الأنبياء العرب ، هم الأنبياء الذين كانوا عربًا ، فقد ذكر في حديث أبي ذر الغفاري ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ذكر الأنبياء والمرسلين : 

" منهم أربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك يا أبا ذر .. طبعا معهم سيدنا إسماعيل جد النبى عليه وعلى نبينا الصلاة  والسلام ..

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَمْ يبعثِ اللهُ نبيًّا إلَّا بِلُغَةِ قَوْمِهِ" ، ومن خلال الحديث وبعد معرفة من هم الأنبياء العرب ، قد يتبادر إلى الذهن أنهم تكلّموا اللغة العربية ، ولكن الصحيح أن أول من تكلّم العربية هو النبي إسماعيل عليه السلام ، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : 

"أوَّلُ مَنْ فُتِقَ لِسَانُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ إسماعيلُ ، وَ هُوَ ابنُ أربعَ عشرةَ سنةٍ" ، كما تكلّم النبي محمد صلى الله عليه وسلم العربية ، أما بالنسبة لبقية الأنبياء العرب وهم هود وصالح وشعيب ، فالذي يغلب - والله أعلم - أنهم لم يتكلّموا اللغة العربية ، حيث قام الدليل على أن إسماعيل عليه السلام ، هو أول من نطق بالعربية .. وهم جميعا عاشوا في فترة زمنية سابقة لفترة النبي إسماعيل عليه السلام ، فهم تواجدوا بالمنطقة العربية ، لكنهم تحدثوا بلغة قومهم ، مثل هود الذى بعث فى قوم عاد الذين كانوا يسكنون الأحقاف باليمن (( بين عُمان وحضرموت )) .. وصالح أرسل إلى قومه ((ثمود)) وكانوا يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك .. أما شعيب فأرسل إلى أهل مدين وهى قرية على أطراف الشام من جهة الحجاز ..

____________________

دعونا نعود الآن إلى يهود المدينة .. بالرغم من أن عدد اليهود في المدينة كان كبيرا ،

إلا أنهم كانوا أقل عددا من {{ الأوس والخزرج }} .. ولذلك كان الأوس والخزرج أعلى منزلة من اليهود في المدينة ، وكان يهود المدينة يشعرون بالقهر في مواجهة الأوس والخزرج ، فلذلك كانوا ينتظرون نبي آخر الزمان لينتقم لهم من قهر الأوس والخزرج ، وكانوا دائما يقولون لهم بلغة التهديد ، (ليقينهم أن هذا النبى سيكون من بنى إسرائيل) : 

{{قد أظل زمان نبي آخر الزمان ، نقتلكم به قتل عاد وإرم }} ..

وهذا بالطبع انحراف في التفكير ، ((وهو ليس بجديد على اليهود)) ، لأن نبي آخر الزمان لابد أن يكون للناس كافة ، ولا بد أن يكون رحمة للعالمين ، ولا يمكن أن يأتي نبي لمعاداة طائفة من الناس على حساب طائفة أخرى ..

فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم من نسل اسماعيل ، كان الأمر بمثابة الصدمة بالنسبة ليهود المدينة ، لذلك قرروا معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم ، منذ أول يوم لدخوله المدينة .. قال تعالى : 

{{ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }} صدق الله العظيم ،،

لذلك كان من أكبر المشاكل التى واجهت الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي وجود اليهود في المدينة ، واليهود معروفون بخبثهم ومكرهم ومكائدهم ..

_________________________

٣ - المشركين :

وجود عدد كبير من المشركين في المدينة : صحيح أن أغلبية أهل المدينة كانوا مسلمون ، ولكن لم يكن كل من بالمدينة مسلمين ، فكان بعضهم لا يزال على شركه ، ولم يجبر الرسول صلى الله عليه وسلم أحد على الدخول فى الإسلام ، وهؤلاء المشركين ، كانوا يكرهون الإسلام ويكرهون المسلمين ، ويضمرون لهم البغض والعدواة ..

________________________

٤ - المنافقون :

بعد الهجرة ودخول أغلب أهل المدينة في الإسلام ، ظهرت طائفة جديدة وهي طائفة {{المنافقون}} ، والمنافق هو الذي يظهر ما لا يبطن .. وهذه الطائفة لم تكن موجودة في مكة ، لأن الإسلام كان ضعيفا ، ولكنها ظهرت بعد الهجرة ، وبعد أن أصبح للإسلام دولة ، وخصوصا بعد غزوة بدر .. وهذه الطائفة أخطر بكثير على الإسلام من المشركين ، لأن المشرك معروفة عداوته للإسلام ، فتستطيع أن تأخذ منه حذرك ، وأن تواجهه ، بينما المنافق مثل المرض الخفي ، الذي يفتك بالجسم دون أن تشعر به ..

ولذلك ، جعل الله عقاب المنافق أعظم من عقاب الكافر ..

 يقول تعالى : 

{{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ }} صدق الله العظيم ،،

____________________

٥ - المشكلة الإقتصادية :

ظهرت في المدينة مشكلة اقتصادية ، نتيجة هجرة عدد كبير من أهل مكة إلى المدينة ، وكانت موارد المدينة محدودة .. ولذلك لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، أصحابه المهاجرين إلى الحبشة فى الهجرة الثانية وكانواما زالوا بها ، بأن يأتوا إليه في المدينة مع بداية الهجرة إليها ..

____________________

٦ - مشاكل المهاجرين الخاصة :

واجه المهاجرون عدد من المشاكل الخاصة ، كان أولها مشكلة السكن [[ لا يوجد بيوت يسكنوها ]] ، وثانيها مشكلة كبرى نتجت عن ترك المهاجرين أموالهم وأعمالهم فى مكة ، وكان أهل المدينة كلهم من المزارعين ، ((وهي مهنتهم الوحيدة)) ، وهذه المهنة لا يعرفها أهل مكة ، لأن أهل مكة ، كان عملهم بالتجارة فقط .. وثالثها أن المهاجرين ، شعروا بالغربة والحنين لبلدهم مكة ، وأي إنسان مغترب حديثا عن بلده ، سيشعر بما شعروا ، فأصيب المهاجرين بحالة من الحزن والاكتئاب ، حتى أن نصفهم أصابته الحمى بعد الهجرة ، [[ ما نعرفه الآن بالملاريا أو الأنفلونزا ]] ..

وكان اسم الملاريا قديما [[ البُردَاء ]] ، لأن من يصاب بهذا المرض تأتيه رعشة ، وعمق انتشار المرض بينهم إحساسهم بالغربة أكثر فى المدينة .. 

[[ وعلميا فإن الإنسان عندما يصاب بالاكتئاب ، نتيجة الغربة أو لأى سبب آخر ، تقل المناعة في جسمه ، فيصبح أكثر عرضة للإصابة بالأمراض ]] ..

وأيضا لأن المهاجرين ، كانوا قد اعتادوا  جوّ مكة الجاف ، فلما قدموا المدينة أصيب أكثرهم بالحمى ، (( بين الأنفلونزا والملاريا )) .. لأن المدينة صيفها رطب وشتاؤها قارس والمطر فيها دائم تقريبا ، قالت عائشة رضى الله عنها : لما قدم رسول الله ﷺ المدينة وهي أول أرض ، أصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، وصرف الله ذلك عن نبيه ﷺ ، وأصابت الحمى أبا بكر وبلالا وعامر بن فهيرة خادم أبي بكر ، فاستأذنت رسول الله ﷺ في عيادتهم من شدة الحمى ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فأذن لي ، فدخلت عليهم وهم في بيت واحد فوجدتهم يهذون من شدة الحمى ، فأخبرت رسول الله ﷺ قالت : فنظر إلى السماء وقال : «اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدّنا ، وصحِّحها لنا وانقل حُمَّاها إلى الجحفة» ، 

[[ معنى الدعاء : الصاع والمد هما مكيالان للحبوب ، والمعنى أنه يدعو الله أن يبارك لأهل المدينة فى تجارتهم وحرثهم وأشجارهم .. والشطر الثانى من الدعاء للمدينة قوله : صحٌِحها لنا وانقل حُمٌَاها إلى الجحفة ، وهو دعاء يخص الناحية الصحية ، أى يرجو الله أن تتحسن الأحوال الصحية فى المدينة وأن تنتقل هذه الحمى إلى الجحفة ،  (الجحفة موضع بين مكة والمدينة وهو ميقات الإحرام لأهل الشام ومصر والمغرب ، يبعد عن المدينة حوالى ٣٠٠ كيلو مترا ، وكان سكان هذه المنطقة من اليهود) ]] ..  

فاستجاب الله له فطيَّب هواءها وترابها وسكنها والعيش بها ..

____________________

وقد نشأت للمهاجرين أيضا ، مشكلة نتيجة اختلاف العادات والتقاليد لأهل المدينة عن أهل مكة .. فنساء المدينة شخصيتهم مع رجالهم فيها جرأة وقوة ، فى حين لم تكن شخصية نساء مكة هكذا مع رجالهم .. والسبب أن زوجات أهل المدينة ، كن يعملن في الزراعة مع أزواجهن ، أما نساء مكة  فلا يعملن ، لأن عمل أزواجهن التجارة .. فبدأت زوجات المهاجرين ، يتعلمن من نساء الأنصار ، وحدثت مشاكل كثيرة في بيوت المهاجرين لهذا السبب .. 

 لذلك كان دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام ، لأنه شعر أن المهاجرين يواجهون مشاكل كثيرة ..

____________________

الخلاصة : أن هذا الجزء هام جدا في السيرة ، وكان لا بد أن أشرحه لكم بالتفصيل ، لنتعلم جميعا قادة ومسئولين ، كيف واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، {{ النبي القائد }} هذه المشاكل فور وصوله إلى المدينة ، ولم يتهرب منها ، وكيف استطاع أن يتغلب عليها ، فالسيرة منهاج حياة لكل المسلمين مهما بلغت منزلتهم في الدولة .. 

واستطاع صلى الله عليه وسلم ، أن يجعل من المدينة ، دولة قوية متماسكة في زمن قياسي ، دولة هزت عروش أعظم ملوك الأرض  قيصر وكسرى .. 


ما الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمواجهة هذه المشاكل؟؟..

هذا ما سنعرفه في الحلقات القادمة ، بعد حديثنا عن وصوله قباء واستقبال أهل المدينة له ، ومدى اشتياقهم إليه ، خاصة الذين لم يروه من قبل ، بل سمعوا عنه ، صلى الله عليه وسلم ،،،


يتبع بإذن الله ..

الأنوار المحمدية 

صلى الله عليه وسلم

الأحد، 1 أكتوبر 2023

الحبيب المصطفى « ١١١ » الى 115 السيرة المحمدية العطرة

 الحبيب المصطفى « ١١١ »

     السيرة المحمدية العطرة ..    ( حصار بيت النبي صلى الله عليه وسلم )

___________

جاء فتيان قريش المختارون من كل حدب وصوب ، حسب اتفاق قريش ، إلى دار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحاطوا بالدار إحاطة السوار بالمعصم ..  


أنظروا إلى الموقف الآن : دار محاصرة من كل جوانبها بسيوف مشرعة ، وبعد أن أُحكِمَ الحصار .. كيف يخرج النبى صلى الله عليه وسلم منها ، للذهاب إلى دار أبى بكر الصديق ، حسب الاتفاق الذى تم بينهما؟؟..  


هنا يأتي جبريل ويقول للنبي : أخرج الآن .. 

كيف أخرج الآن يا جبريل ، والدار مُحاصرة من كل الجهات؟؟..

ألم تأخذ بالأسباب وتتوكل على الله ؛ لتتعلم كل أمتك أنه من توكل على الله فلن يخيبه الله .. أليس هم يحاصرون دارك من جميع الجوانب ، وتوكلت على الله ، و تحمل القرآن في صدرك؟؟..

أعادها جبريل : أخرج الآن ؛ لتعرف الأمة الإسلامية كلها أن في القرآن أسرارًا ، السر فى القرآن .. فالقرآن ليس لبيوت العزاء ، ولا لافتتاح الحفلات ، ولا لتزيين الحوائط .. 

{{ القرآن دستور يُعمل به }} ؛ لأن فيه آيات إيمانية ، يعرف المؤمن كيف يواجه أعداءه بها .. 

 قال تعالى : {{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }} ..


أنظروا ماذا قال له جبريل ، وكأنه يعطينا درسا ، أن في القرآن اسرارًا ، كلما كان قلبك عامرا بالإيمان ، يصب عليك القرآن من أسراره ، ولكل مجتهد نصيب .. 


قال له جبريل  : يا محمد خذ حفنة من تراب ، [[ من داخل البيت ، فبيت النبي ما كان فيه بلاط ولا سيراميك ، كانت أرضيته من تراب ]] ..

قال خذ حفنة من تراب ، واقرأ عليها صدر سورة ياسين : 

بسم الله الرحمن الرحيم ..

{{ يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩) }} صدق الله العظيم ،،

والسر هنا كان في الآية الأخيرة :

{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}

 اقرأ يا محمد ، على حفنة التراب ، ثم اخرج وضع التراب على رؤوسهم جميعا ، فإنه لن يراك أحد ..

[[ كان يمكن أن يخرج فيضع جبريل جناحه عليه فلا يراه أحد .. ولكن لتعلموا إلى قيام الساعة ، سر القرآن الذي بين أيدينا ، القرآن بحاجة إلى قلب مفتوح ]] ..

جبريل قال للنبي اقرأ آيات من سورة ياسين على حفنة من تراب ولن يراك أحد ، ولم يثبت أبداً لا بحديث ولا بنص فى السيرة ، ولا حتى برواية موضوعة ، أنه قال له أنهم لن يسمعوك ..

ولكن أنظروا إلى إيمان النبي الكامل ، وهو العبد الكامل ، أيقن أنه  لن يراه أحد ولن يسمعه أحد ..

___________

عندما أخذ صلى الله عليه وسلم حفنة التراب ، وأراد الخروج .. قدٌَر الله وكل شيء عنده بمقدار [[ ولو تواعدتم لاختلفتم فى الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا ]] ..

عند خروجه من باب بيته ، سمع  أبو جهل يتحدث إلى فتيان قريش المرابضين حول بيت النبى ، (( يريد أن يسليهم ، حتى يظلوا متيقظين فلا يملوا أو يناموا )) .. فيقول عبارات بها تهكم واستهزاء بالنبى صلى الله عليه وسلم ..

قال أبو جهل لهم : يزعم محمد هذا ، ويشير لهم إلى بيت النبي ، 

[[ يعني هذا الموجود بين أيدينا الآن ، وما هى إلا ساعات حتى يخرج لصلاة الصبح ، فنقوم بتقطيعه بسيوفنا ]] ..

يزعم محمد هذا ، أنه إن آمنتم به وصدقتموه ، بعثتم بعد موتكم 

وكان لكم جنان كجنان الأردن والشام .. وإن أنتم لم تؤمنوا به ولم تصدقوه ، بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نارا ذات لظى تحرقون بها .. فضحك الفتيان جميعا بسخرية ، فى نفس اللحظة التى كان صلى الله عليه وسلم ، يفتح باب بيته كي يخرج .. [[ فما خرج متسللا ، بل خرج قائما على قدميه ]] ..

سمع النبى قول أبي جهل ، فقال بأعلى صوته : نعم  أنا أقول هذا ، وأنت واحد منهم يا أبا جهل .. 

[[ النبي يتكلم !.. وقد قال له جبريل لا يراك أحد ، ولم يقل له لن يسمعك أحد ]] .. إنه إيمان النبي الكامل ، وثقته بالله عز وجل .. قال لأبى جهل : نعم أنا أقول هذا وأنت واحد منهم ..

[[ أي الذين سيدخلون نار ذات لظى ، أبو جهل منهم .. وذلك من أنباء الغيب أن أبا جهل لن يُسلم فيما بعد ، وسيدخل النار ]] ..

ثم خرج ووضع التراب على رؤوسهم واحداً واحداً وهو يردد :

{{ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون }} .. 

فما ترك منهم فتى ، إلا ووضع التراب على رأسه .. 

___________ 

وكان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت قبل قدوم المشركين ، وكان من الممكن أن يدعو الله عز وجل ، أن يأتيه بالبراق ، كما حدث في رحلة الإسراء والمعراج ، فيحمل الرسول من مكة إلى المدينة .. لكن الله عز وجل أراد ذلك ؛ ليكون درسًا لكل المسلمين إلى قيام الساعة ، لإثبات أن الأمر كله بيد الله ، وأنه دون توفيق الله عز وجل لا يتم أمر من الأمور ، وأيضا ظهرت المعجزة الظاهرة في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وعلى جانب آخر ، كان من الممكن أن يأخذ الله عز وجل أبصار المشركين ، فلا يقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أذى طيلة حياته ، ولكن هذا لم يحدث .. لقد أُلقِي على ظهره سلا الجزور ورحم الشاة ( ما يخرج من الناقة والشاة أثناء الولادة وهى المشيمة وما يتصل بها) ، وسب بأفظع الألفاظ ، ورجم بالحجارة في الطائف ، وأصيب في أُحُد أكثر من إصابة .. لم يأخذ الله عز وجل بأبصار المشركين في كل هذه المواقف ، ليُعلّم المسلمين طبيعة الطريق ، فطريق المسلم فيه كثير من الإيذاء ، وكذلك فيه كثير من الأخذ بعيون المشركين ، وعيون أعداء الله عز وجل ، يحدث ذلك مع كل المؤمنين ، نعم يكون الأمر واضحًا كمعجزة مع الأنبياء ، لكن قد يفعله الله عز وجل مع المؤمنين دون أن يطلع الناس عليه ، فيأخذ عنهم أبصار أعدائهم ، ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل : {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} صدق الله العظيم ،،

خلاصة القول : إن حياة الداعية وحياة الناس أجمعين بيد الله عز وجل ، والله عز وجل يكتب أحيانًا ابتلاء للمؤمن وفي ذلك حكمة ، وأحيانًا يكتب له نجاةً من الأذى وفي ذلك حكمة أيضًا ، ولا تسير الأمور إلا بقدر الله عز وجل { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } صدق الله العظيم ،،

ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يحاصرون البيت ، وفيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وانطلق إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ..

___________

وقبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم ، كان قد قال لعلي رضي الله عنه : يا علي ، أنظر فإنهم يحيطون بالدار ، وينظرون من خلل الباب .. [[ الخلل أي الشقوق الموجودة بالباب ، وكان الباب ألواح خشب مجمع بعضها على بعض ، وفيها شقوق .. ولأن الدار فيها سراج وفي الخارج ظلام ، فكان من بالخارج يمكن أن يرى بسهولة من بالداخل ، بالنظر خلال هذه الشقوق ]] ..

 قال لعلى : انظر إنهم ينظرون من خلال الباب ، فعليك أن تشغلهم عني ساعة ، [[ أخذا بالأسباب والحكمة ، انظروا إلى حُسن التوكل على الله ولكن مع الأخذ بالأسباب .. اعقل وتوكل ]] .. فعليك أن تنام فى فراشي هذا يا علي ، وأن تتغطى ببردي الأخضر هذا [[ أي الذي يتغطى به النبى عند نومه ، وكل قريش تعرفه ]] .. تغطى ببردي الأخضر هذا ، حتى إذا كان الفجر ، علموا أنك علي ... 

ثم تقوم برد الودائع لأصحابها ، وتلحق بي إلى يثرب .. 

من هذه الكلمات : [[ رد الودائع ثم تلحق بي ، وصلت الرسالة ]] .. عرف سيدنا علي ، ما دام النبى يقول له ، ارجع الأمانات ثم الحق بى إلى يثرب .. إذاً فهو لن يقتل لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، فهو يعى جيدا ما يقول .. وقد نفٌَذ علي ما أمره به الرسول دون تردد .. 

من هذا يتضح ، أن دروس الهجرة لم تكن في شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقط ، بل كانت في شخص أصحابه أيضاً رضوان الله عليهم .. 


يتبع بإذن الله ..

الأنوار المحمدية 

صلى الله عليه وسلم

الحبيب المصطفى «  ١١٢ »

     السيرة المحمدية العطرة .. 

(( علي بن أبي طالب ينام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ))

________________________

خرج النبي كما ذكرنا متوكلا على ربه ، وهو يتلو القرآن .. فلم يروه ولم يسمعوه ، ووضع التراب على رؤوسهم ، ثم مضى متوجهاً إلى دار الصديق ، بعد أن ترك علي رضي الله عنه وأرضاه ، لكى ينام في فراشه ، وشرح له ما يجب عليه عمله من المبيت فى مضجعه ، ورد الأمانات فى اليوم التالى لأصحابها ، ثم اللحاق به فى المدينة .. وقبل أن يفارقه ، أراد أن يعبر علي عن سعادته باختياره لأداء هذه المهمة ، فما كان منه إلا أن أهوى إلى الأرض ساجداً (( يقال أنها أول سجدة شكر كانت فى الإسلام )) ، فلمّا رفع رأسه قال للنبى : « إمضِ لما أمرت ، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي (سويداء القلب أى حبة القلب وأعماقه) ، ومُرني بما شئت أكن فيه كمسرتك واقع منه بحيث مرادك ، وإن توفيقي إلّا بالله » .. ثم ضمّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره ، وبكى إليه وبكى عليّ  لفراق رسول الله ، ثم افترقا ..

__________________

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال له : إنه لن يخلص إليك شيء تكرهه .. وعلى هذا ،  فالنبي صلى الله عليه وسلم علم أن عليا لن يُقتل ، وكان ذلك كله بتدبير الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ..


وقد عرفت هذه الليلة بليلة المبيت ، وهو إسم الليلة التي بات فيها عليّ بن أبي طالب في فراش الرسول حفاظاً عليه ، وحين كان الرسول في طريق المدينة ، أنزل الله عليه الآية التالية في شأن علي بن أبي طالب - حسب رواية أكثر المفسرين - في حادثة ليلة المبيت :

《وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ》صدق الله العظيم ،،


وهذه الآية الشريفة المعروفة بآية ليلة المبيت ، تعتبر عند   الشيعة ، إحدى أهم الآيات الواردة في فضائل علي بن أبى طالب رضى الله عنه وأرضاه ..


وكان قد ذكر بعض العلماء والمفسرين ومنهم إبن عباس ، أن هذه الآية ، (كما جاء ذكره بالحلقة ١٠٦ بالسيرة) .. نزلت فى الصحابى الجليل صهيب إبن سنان الرومى ، بعد أن تنازل لقريش عن كل ما يمتلك ، لقاء السماح له بالهجرة ، كى يلحق بالنبى عليه الصلاة والسلام فى المدينة .. والله أعلم ،،

_________________________

نام علي بالفراش ، وطال الوقت على قريش ، وأخذوا ينظرون ..

وكلما نظروا من شقوق الباب ، يرون رجل مغطي ونائم .. فيقولون : هذا هو محمد نائم ، إلا أنهم شكّوا في الأمر ، لأن علي كان يتقلب بالفراش ، وهم يعلمون من طباع النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا نام ، إضطجع على شقه الأيمن ولا يتقلب ..

 فساورهم الشك ، ولكن كانوا يقولون : هو محمد في برده نائم .. حتى إذا طال انتظارهم ، حدثوا بعضهم بعضاً فقالوا :

ألا نقتحم عليه داره؟؟..

{{ وهذا درس فى الأخلاق خذوه ، ولو كانوا غير مسلمين .. فالحكمة ضالة المسلم ، أينما وجدها إلتقطها }} ..


قالوا : ألا نقتحم عليه داره ، لماذا ننتظر حتى الفجر؟؟..

فقال بعضهم ، ((ويقال أبو لهب هو من قال)) : ماذا تقولون؟!!..

إنها لسبة في العرب ، أي عار هذا؟؟.. كيف إذا تحدثت العرب وقالوا : إقتحموا في الليل على بنات عمهم في خدورهن !!..  

قالوا : لا ، بل ننتظره حتى يخرج لصلاة الفجر ..

[[ كانوا كفار حقا ... ولكنهم عرب من معدن كريم وعندهم نخوة برغم كفرهم .. فرفضوا هذه الفكرة ]] ..


وقيل أنه عندما كان الإمام علي نائما ، في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم .. هبط جبريل فجلس عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجعل جبريل يقول : 《بخ بخ ، مَن مثلك يا ابن أبي طالب!! والله عزّ وجلّ يباهي بك الملائكة》..

_________________________

إنتظرت قريش ، حتى إذا كان قبيل الفجر .. جاءهم رجل من قريش ، (( ويقال جاءهم إبليس ، كما جاءهم من قبل ، ولكن ليس بصورة شيخ نجدي حتى لا يُكتشف أمره ، بل جاء بصورة رجل عادي )) .. فقال لهم : ويحكم ماذا تنتظرون؟؟.. 

قالوا : ننتظر محمد حتى إذا خرج قتلناه بسيوفنا .. 

فقال لهم : قبٌَح الله وجهكم ، قد خرج محمد منذ ساعة ، وما ترك رجل منكم إلا ووضع على رأسه التراب ، إلتمسوا رؤوسكم .. فوضعوا أيديهم على رؤوسهم  ، وإذا التراب على رؤوسهم .. قالوا : كيف خرج؟؟..

قال لهم : قد خرج وأنتم نائمون ..

قالوا : لم ننم أبداً .. 

قال لهم : لقد خرج ووضع التراب على رؤوسكم .. 

وبين مصدقين ومكذبين ، أخذوا يتشاورون : نقتحم عليه .. لا ، لا نقتحم ، فقرروا الانتظار ، حتى إذا كان الفجر ، قام علي رضي الله عنه من الفراش ليتوضأ لصلاة الفجر .. فلما رأوه أنه علي !!!!! ، جن جنونهم ، فطرقوا الباب بشدة وقالوا : 

إفتح يا علي ، ففتح علي الباب .. 

قالوا : يا علي أين محمد؟؟.. 

قال لهم : لا أدري ، أجعلتمونى عليه رقيبا؟؟!!.. 

[[وعلي فعلاً ، لا يعلم أن النبي في غار ثور ، فلم يخبر النبي أحد عن خطة الهجرة ، إلا أبو بكر الصديق ]] ..

 قال : لا أدري !!!

[[وقريش يعلمون علم اليقين ، أنه إذا قال أحد من أصحاب محمد لا أدري ، فهو صادق ، أصحاب محمد لا يكذبون ]] ..

قالوا : ويلك قد شككنا أن محمدا هو الذي بالفراش ..  

قالوا : يا علي ألا تعلم أين ذهب؟؟.. 

قال : قلت لكم لا أدري ..  


وبرغم علمهم أن عليا لم يكذب ، قيل أنهم من شدة غيظهم ، أقبلوا عليه يضربونه ، ثم أخرجوه من البيت ، وحبسوه في المسجد الحرام لمدة ساعة ، وضربوه ضربا مبرحا حتى كادوا يقتلونه ، (( ولم يشأ علي أن يرد عليهم حتى لا تتطور الأمور ، ذلك لأنه كان وحيدا وقد هاجر كل المسلمين فلم يتبقى سوى المستضعفين منهم الذين لم يتمكنوا من الهجرة ، فضلا عن حرصه على عدم إثارة المشاكل كى يُكمل ما أوصاه به النبى من رد الأمانات إلى أصحابها ثم اللحاق به .. والأهم من ذلك أن الله عز وجل لم يكن قد شرع الجهاد ضد المشركين بعد ))   .. ثم أطلقوا سراح علي رضى الله عنه وأرضاه ، وتوجّهوا نحو المدينة يطاردون النبي ..

________________________

وهذا درس آخر فى الهجرة عن أخلاق العرب .. [[ لم يأخذوا علي كرهينة للضغط على الرسول ]] ..

ولم يقولوا إبن عمه ، وشارك فى الخطة ونام بفراشه كى يضللنا .. 


 مضمون الدرس هنا ، يتضح لنا من أنهم رغم كفرهم ، لم يُقدِموا على ما فعله الحجاج بن يوسف الثفى مثلا ((بالرغم من أنه كان واليا مسلما)) ، فى فترة خلافة الأمويين  .. عندما أمسك بشاب ذو نسب وإبن شيخ عشيرة ، ووضعه بالسجن بدون ذنب ، لمجرد أنهم كانوا يريدون القبض على رجل من نفس العشيرة وهرب منهم !!!..

ولم يطلق سراحه إلا بعد أن ذهب أبوه (( شيخ العشيرة )) للحجاج ودخل عليه بكل هدوء وقال : يا حجاج إن رجالك أخذوا إبني من غير ذنب ، ووضعوه بالسجن .. 

فقال الحجاج : وهل يُعقل هذا؟..

قال : نعم .. 

قال الحجاج له : لماذا أخذوه؟.. 

قال له : يطلبون رجل من العشيرة قد هرب واختفى فلم يجدوه ، وكوني شيخ العشيرة أخذوا إبني مكانه !! 

فقال الحجاج مبتسماً : نعم هذا يحدث كثيراً .. 

ألم تسمع قول الشاعر :

( ولرب مأخوذ بذنب عشيرة .. ونجا المُقَارِف صاحب الذنب ) ،

"المُقَارِف أى من اقترف الذنب"


فصاح الشيخ الجليل بالحجاج ، دون هيبة أو تردد وقال : 

يا حجاج !! .. ولكن سمعنا الله عز وجل يقول في القرآن الكريم غير هذا ، فقد قال تعالى على لسان نبيه يوسف :

{{ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ }} ..

فماذا كان رد فعل الحجاج؟؟.. 

(( رغم ظلمه وفسقه ، ولكن لم يستطع أن يتعدى نص قرآني فيه كلام الله )) ..

أنظروا إلى موقف الحجاج لما سمع الآية ، تحمل معنى عكس ما قال الشاعر .. أطرق برأسه مخزياً ، وقال : 

قطعت حجتي ، قطع الله لسانك .. أطلقوا له ولده .. 


قريش لم تفعل هذا وهم كفار ، وفعل هذا الحجاج وهو والى مسلم ، ولاه الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان على مكة والمدينة والطائف ثم أضاف إليها العراق .. فلم تأخذ علي رضي الله عنه رهينة ، بدلا من محمد صلى الله عليه وسلم مطلوبهم ، وللأسف الشديد ، ما أكثر ما نسمع (وفى دول إسلامية) ، عن تكرار ما فعل الحجاج فى العصر الحالى ..


معذرة للإطالة وذكر أحداث خارج الموضوع أحيانا ، ولكنى أعمد إلى ذلك ، حتى يكتمل المعنى ونأخذ العبرة ، فالسيرة للتأسى وليست للتسلى .. 



>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
 الحبيب المصطفى  « ١١٣ »

السيرة المحمدية العطرة ..  

(( الهجرة غار ثور ))

___________

جاء النبي إلى أبي بكر ، وكان أبو بكر قد جهز راحلتين للسفر ،فأعطاهما 

النبي عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن أرَيْقِط ، على أن يأتى بهما في غار ثور بعد ثلاث ليالٍ ، ويكون دليلًا لهما ، فخرجا ليلة ٢٧ صفر سنة ١٤ من البعثة النبوية ، الموافق ١٢ سبتمبر سنة ٦٢٢م ، وحمل أبو بكر معه ماله كلّه .. ((فكان معه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف)) ، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ، (( الخوخة هي باب صغير كالنافذة الكبيرة )) .. ثم عمدا إلى غار ثور ، وهو كهف في جبل بأسفل مكة ..

 قال ابن اسحاق : ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج ، إلا علي بن أبي طالب ، وأبو بكر الصديق ، وآل أبي بكر ، وعبد الله ابن أريقط ..


خرج صلى الله عليه وسلم من مكة ، وهو في الطريق وقف  على مشارف مكة ، ونظر إليها وقال : 

{{والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله عز وجل ، ولولا أني  أُخْرجت منك ما خرجت }} ..

___________

توجهوا إلى جبل ثور ، الذي يوجد فيه غار ثور ، وسمي الجبل بهذا الاسم عند قريش [[ لأن من نظر الى الجبل من بعيد ، يراه كأنه فى صورة رأس الثور ]] ..


يقع غار ثور على بعد نحو ٤ كيلو مترات عن مكة المكرمة في الجهة الجنوبية من المسجد الحرام ، وارتفاعه نحو ٧٤٨ مترا من سطح البحر ، وهو عبارة عن صخرة مجوفة ارتفاعها متر وربع ، وله فتحتان شرقية وأخرى غربية ، وهي التي دخل منها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر في رحلة الهجرة النبوية ..

فصعدوا إلى الجبل ، وهي مسافة كبيرة جدا .. [[ تحتاج ساعتين لصعوده  ، نظرا للوعورة الشديدة لطريق الصعود فوق الجبل حتى بلوغ الغار ]] ..

وهم يصعدون للجبل ، أنزل الله علي رسوله ، آيات من سورة القصص :

{{ وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ }} ..

وأنزل عليه أيضا يطمئن قلبه ، وعد من الله له :

{{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ }} صدق الله العظيم ،،

يعني ستعود مرة أخرى لمكة يا رسول الله .. 


وكانت طبيعة أرض الجبل خشنة ، يقول أبو بكر الصديق : عندما وصلنا لغار ثور ، فنظرت إلى قدمي النبي صلى الله عليه وسلم في الغار وقد تقطرتا دماً ..

____________________

والآن دعونا نسلط الضوء على دور كل فرد من أفراد عائلة أبى بكر ، حسب المهام التى حددها أبو بكر لكل منهم ، طوال الأيام الثلاثة التى سيقيم خلالها النبى عليه الصلاة والسلام وصاحبه أبو بكر الصديق رضى الله عنه بغار ثور ...  

أولا .. عبد الله بن أبي بكر :

كان عبد الله غلامًا شابًا ، معروف بالفطنة والذكاء وحُسن التلقي لما يسمعه .. وكان اختياره ، اختيارا دقيقا للمهمة التي سيُكلَّف بها وهي :

١ - التسمُّع لما يقوله أهل مكة – كما في رواية البخاري : “فلا يسمع أمرًا  إلا وعاه حتى يأتيهما وبيخبرهما به”.

٢ - المبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم في الغار حين يختلط الظلام ، ناقلاً لهما ما سمعه ، ثم المغادرة في وقت السحر ، فيصبح مع قريش كبائت فيهم ..

والذي يصف المخاطر التي تحيط بالدعوة وينقلها إلى القيادة لا بد أن يكون دقيقًا فيما يسمع ويرى وينقل ، لأن كثيرًا من ناقلى الأخبار ، يُهوِّلون ولا ينقلون صورة دقيقة للقيادة عن هذا الواقع ، وهو ما يترتب عليه ترتيب أحكام خاطئة أو تصوّرات غير واقعية للمستقبل الذي ينتظر الدعوة .. ويمكن أن نطلق على شخصية عبد الله بن أبي بكر أنها شخصية “منضبطة” في التلقي ، والأداء والضبط ، ولو كان شخصية “مُهَوِّلة” للأحداث ، أو “متساهلة” في تقدير الخطر ، لكان من الممكن أن تطول فترة مكوث النبي صلى الله عليه وسلم في الغار أو تقصر تبعًا للوصف الذي يتلقاه ..


ثانيا .. أسماء بنت أبي بكر :

وقد مثلت أسماء وأختها عائشة ، جهاز إمداد وتموين للنبي وأبي بكر في الغار ، وسط محاولات المشركين المحمومة للعثور عليهما .. أما عائشة فقد كانت لا تزال صغيرة السن ، وبالرغم من ذلك شاركت أختها في إعداد الطعام في البيت ، وأما أسماء فكانت تنقل الطعام من البيت إلى الغار ، رغم أنها كانت فى الشهر السابع من حملها ، وقد كانت رضي الله عنها مؤهلة لذلك ، لصبرها وقوة احتمالها ، وتكتمها الأمر وحسن تصرفها في الأمور ..

ولا غرابة في ذلك ، فالمرأة ليست عنصرًا مهملاً في الدعوة ، لأنها يمكن أن تقوم بأدق الأدوار حساسية ، والتي لا يمكن للرجال أن يقوموا بها ، لما يتعرضون له من رصد ومتابعة وتضييق .. لقد علَّمتنا أسماء أولاً كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء ، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم .. وعلمتنا ثانيًا حسن التصرف في الأمور ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة - وكان قد ذهب بصره - فقال : والله إني لأراه (( يقصد أبى بكر )) ، قد فجعكم بماله مع نفسه (( أى لم يترك لكم مالا وأخذ معه كل ماله )) .. قالت : كلا يا أبت ، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا .. قالت : فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة ، ثم وضعت عليها ثوبا ، ثم أخذت بيده فقلت : يا أبت ضع يدك على هذا المال .. قالت : فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن ...  قالت : ولا والله ما ترك لنا شيئًا ، ولكني أردتُ أن أُسكِّن الشيخ .. 

وحقا إن الإنسان ليعجب كيف استطاعت تلك الشابة ، أن تتصرف هذا التصرف العاقل؟!.. إنها لتربية أبي بكر ، القريب من بيت النبوة ..


ثالثا .. عامر بن فهيرة :

وهو الراعي البسيط ، مولى أبي بكر رضي الله عنه وخادمه ، وقد انحصرت مهمته في :

١- تقديم اللبن واللحم إلى صاحبي الغار ..

٢- تبديد آثار أقدام السائرين إلى الغار بأغنامه ، كي لا يتفرسها القوم ، فيصلوا إلى صاحبي الغار ، (( آثار أقدام عبد الله وأسماء ، ذهابا إلى الغار والعودة منه .. فكان يرعى الغنم فى طريق سيرهما ، فتبدد آثار أقدام الغنم ، آثار أقدامهما )) .. وهي - كما نرى - وظيفة مزدوجة ، منها ما هو في جانب للإمداد والتموين (مشاركة مع أسماء بنت أبي بكر) ، ومنها - وهو الأخطر من وجهة نظرنا والأهم - تبديد الآثار لئلا يتعرف عليها المشركون ، مشكِّلاً بذلك جهاز “تشويش وتمويه” على الكفار ..

وعامر بن فهيرة كان شخصية بسيطة ، فهو مجرد راعي غنم ، فلذلك لن تتجه إليه الكثير من الأنظار ، فالعرب كانوا لا يلتفتون إلى مواليهم ، أما الإسلام فيما بعد فقد محا ذلك ، وجعل خيرية الرجل بإيمانه وتقواه ..

وهذا درس للدعوة أن تستفيد من إمكانات أقل وأصغر رجل - إن صح التعبير - فربما يملك هذا ما لا يملكه الكثيرون من أصحاب الفكر ، وربما قدم للدعوة في المجالات التي يتقنها ما لا يستطيعه غيره ، خاصة من هؤلاء المشهورين المعروفين المرصودين ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : 

“إنما تنصرون بضعفائكم” ..

___________

نرجع لقريش : 

لم تجد قريش النبى صلى الله عليه وسلم في البيت ، فجن جنونهم .. وصرخ فرعون هذه الأمة أبو جهل ، واستنجد بقريش  فأخذوا يبحثون عنه في كل أجزاء مكة ، ثم عمدوا إلى استخدام الناس الذين يعرفون تقفى الأثر {{ خبراء آثار الاقدام }} ، فكانت تنتهي آثار الأقدام عند جبل ثور ..

اندهشوا جميعا ، لماذا جبل ثور؟؟.. إن المهاجر من مكة إلى لمدينة ، يجب أن يسلك جهة الشمال ، لأن المدينة تقع شمال مكة ، فهذا طريق المدينة .. ولكن جبل ثور يقع جنوب مكة ، ويبعد مشياً على الأقدام ساعة ونصف ، فوقفوا مذهولين ..

 قالوا : من أراد من أهل مكة الذهاب ليثرب ، عليه أن يسلك الطريق شمالا وليس جنوبا ، [[ وكان هذا تمويه من رسول الله ]] .. ومع ذلك فالأثر أخذهم إلى هناك ، فهم لا يكذبون أنفسهم ، حيث كانوا يعرفون الأثر لا على الرمال فقط ، ولكن حتى على الصخر ،  انتهى الأثر هناك .. 

أعادوا سؤال خبير الأثر :أين اتجه؟. قال : ليس إلا إلى الجبل ، فالأثر من دار محمد ، إلى دار أبي بكر أثر واحد .. ومن دار أبي بكر إلى هنا أثر رجلان اثنان ، 

فاشتعل أبو جهل من الغضب .. 

___________

اتجه أبو جهل إلى بيت أبي بكر ؛ لأن ذلك أسهل من أن يصعدوا الجبل ، وقرع الباب بشدة .. 

تقول أسماء بنت أبي بكر : ففتحت له ، وإذا أبو جهل يقف بالباب مغضباً ..

قال : يا بنت أبي بكر ، أين ذهب أبوك ؟. 

قلت : والله لا أدري ، [[ وهي فعلاً  حتى هذه اللحظة ، كانت لا تدري .. فبنات أبي بكر ، وحتى عائشة زوجة النبي ، كانت لا تعلم أين اتجه النبي تلك الليلة ، إلا أنه خرج مهاجرا .. وقد عرفوا المكان فيما بعد ]] ..

قالت : والله لا أدري .. 

فلم يملك أبو جهل نفسه من شدة الغضب .. قالت : 

فرفع يده وكان سفيهاً ، ولطمني على وجهي بشدة !!!.. 


بقى الرسول صلى الله عليه وسلم ، مع أبي بكر ثلاثة أيام في الغار ، وأسماء بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها عندما علمت ، كانت كما ذكرنا ، تحمل لهم الطعام كل يوم ..

 لماذا أسماء؟. 

 لماذا ليست عائشة مثلاً ؟

لماذا ليس علي رضي الله عنه ، وكان شابا قويا عمره تجاوز ٢٢ سنة ، ويتحمل هذه الرحلة الشاقة كل يوم؟


 السبب أن {{ أسماء رضي الله عنها }} كما ذكرنا ، كانت في ذلك الوقت حامل في الشهر السابع ،

فلا يمكن أن يشك فيها أحد ..

لكن من المؤكد أن عليا كان مثار شك ، وعائشة كانت طفلة .. 

وبالمناسبة أتدرون أسماء كانت حامل بمن؟؟..

كانت حامل في {{ عبد الله بن الزبير بن العوام }} رضي الله عنه .. الذي كان أول مولود بعد الهجرة ، فقد ولدته اسماء بعد شهرين في المدينة المنورة ..

 عبد الله بن الزبير ، الذي قُتل على يد الحجاج .. وكان الحجاج يستهزيء به ، فيقول لعبدالله : 

يا ابن ذات النطاقين ، يقصد أسماء .. 

لماذا سميت ذات النطاقين؟؟..

لُقِّبت أسماء - رضي الله عنها - بذات النِّطاقَين ، بعد حادثة الهجرة النبويّة من مكة إلى المدينة .. وأصل هذه القصة مرويٌ عن أسماء - رضي الله عنها - في صحيح مسلم دون رفع ذلك الخبر إلى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ، قالت : صنعتُ سُفْرةَ رسولِ اللهِ - صلّى الله عليه وسلّم - ( السفرة هى ما يحمل فيه المسافر طعامه ) ، في بيتِ أبي بكرٍ حين أرادَ أن يهاجرَ إلى المدينةِ ، فلم نجدْ لسُفرتِه ، ولا لسِقائِه ما نربطُهما به ، فقلت لأبي بكرٍ : واللهِ ما أجدُ شيئًا أربطُ به إلا نِطاقِي ، قال : فشُقِّيهِ باثنيْن ، فاربِطِيه بواحدِ السقاءِ وبالآخرِ السُّفرةِ ، ففعلتُ .. وقيل شدت السفرة والسقاية بنصفه وتطوقت بالنصف الآخر ، فلذلكَ أطلق النبى صلى الله عليه وسلم عليها : ذات النطاقين ..

 [[ النطاق : هو الحزام ، فكانت المرأة عندما تلبس الثوب في قريش ، كان ثوب المرأة فضفاض ، فتربطه بقطعة قماش على خصرها ، حتى تستطيع أن تمشي بسهولة ، لأن الثوب إذا نزل على الارض ، تتعثر بمشيها ]] .. فقامت بشقّ نطاقها إلى نصفين واستعملته كما ذكرنا .. فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم ، تسير بلا نطاق وتتعثر .. بشرها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : 

يا أسماء ، والذي نفسي بيده ، لقد أبدلك الله نطاقين في الجنة .. 

[[ وهذه بشارة لأسماء بالجنة ]] رضي الله عنها .. 

___________

نعود للحجاج ، الذى كان يعاير عبد الله بن الزبير بذلك ، فدخلت أسماء رضي الله تعالى عنها على الحجاج وقالت : 

بلغني أنك تقول و تعاير ولدي عبدالله ، بابن ذات النطاقين ..

نعم يا حجاج ، {{  أنا والله ذاتُ النطاقين }} .. كنت أرفع بهما طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وهما في الغار ..


عندما لم تجد قريش النبى ، ولم يعثروا له على أثر داخل مكة ، قرروا صعود الجبل ..  


الحبيب المصطفى  « ١١٤ »

    السيرة المحمدية العطرة 

    (( قريش عند غار ثور ))


نعود للوراء قليلا ، وبالتحديد لحظة أن وصل النبى عليه الصلاة والسلام ، وصاحبه أبو بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه ، لمدخل غار ثور .. وقبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم للغار قال الصدٌِيق : 

بأبي وأمي لا تدخله حتى أستكشفه لك ، [[يعني أدخل أنا أولا أشوف إذا فيه شيء يؤذي]] .. فقال له صلى الله عليه وسلم : أتحب يا أبا بكر ، إن كان به شيء ، أن ينزل بك قبلي؟؟..

قال : نعم لا أراك تصاب بمكروه .. 

فنزل الصدٌِيق في الغار ، وتفقد الغار من الداخل فلم يجد به شيء ، ولكن وجد فيه شقوق بين الصخور ، خاف أن يكون بداخلها أفاعي أو حشرات مؤذية ، حتى إذا ناموا خرجت من الشقوق .. فأخذ أبو بكر يمزق من ثوبه ، ويسد هذه الشقوق .. 

ثم قال : أدخل يا رسول الله ، فدخل والليل كان ظلاما دامسا ..

دخل النبي ومن شدة التعب ، وضع رأسه فى حجر الصدٌِيق ونام ، وبقي الصديق سهران؛ خوفا على رسول الله ، وفى هذه الأثناء ، وجد أبو بكر فتحة بحائط الغار لم تُسد بعد ، فأغلقها أبو بكر بكعب قدمه خوفا على النبى من أن يخرج منها حشرة تلدغه ، وقد حدث بعدها أن لُدِغَ أبو بكر ، فلم يبعد قدمه عن الفتحة ، وبكى فنزلت دمعه على وجه النبى وهو نائم فى حجره ، فاستيقظ النبى صلى الله عليه وسلم وعرف ما حدث ، فدعا له وبصق فى مكان اللدغ ، فبرأ بإذن الله تعالى .. 

فلما طلع الفجر وانتشر النور ، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقد تقطعت ثيابه ، 

وعليه منها ما يستر عورته !!!

قال : يا أبا بكر ، أين ثوبك؟؟..

فاستحى الصديق وأنزل رأسه .. وقال : سددت به هذه الشقوق يا رسول الله ، خشية أن يخرج منها ما يؤذيك {{ الحديث في البخاري}} .. 

فبكى النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتلت لحيته ، ثم رفع يديه وقال .. اللهم إن الصدٌِيق قد أَوجَب .. [[ يعني عمل كل ما عليه ]] .. فاجعله يا رب معي في درجتي حيث كنت في الجنة ، هنيئا للصدٌِيق ، ينال درجة النبي في الجنة ..

___________

كان دعاء النبى لأبي بكر الصديق أن ينال هذه الدرجة ؛ لأن الصدٌِيق  أنفق ماله كله على الدعوة إلى الله وعلى المستضعفين ، ولما هاجر لم يترك في بيته درهما ولا دينارا ، وقد ذكرنا سابقا كيف أنفق ماله ، ونزل فيه من قبل قوله تعالى : 

{{ وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يرضى }} صدق الله العظيم ،،

 وعد من الله سبحانه وتعالى ، 

أن يعطى أبا بكر يوم القيامة ، حتى يرضى ، رضى الله عنه وأرضاه .. 

وفي آية أخرى ، أنزل الله لرسوله في سورة الضحى : 

{{ والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى }} ..

الآية الأولى لأبي بكر ، ((ولسوف يرضى)) .. والآية الثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، 

((ولسوف يعطيك ربك فترضى)) .. فيقول صلى الله عليه وسلم : 

والله لا أرضى ، وواحد من أمتي في النار .. (أمته الذين اتبعوه وأحبوه) ، اللهم اجعلنا منهم 


نعود الآن لقريش وأبي جهل ، فقد قرروا الذهاب إلى جبل ثور ..

وقال أبو جهل : اصعدوا الجبل ، ((وصعود الجبل مهمة صعبة كما ذكرنا)) .. فأخذوا فى الصعود لأعلى الجبل بسيوفهم وعصيهم ، 

وكانوا جمع كبير من قريش وعلى رأسهم أبو جهل وأمية بن خلف .. وكانت الشمس محرقة والجو حار جدا ، حتى وقفوا بباب الغار ..


وكان النبى وصاحبه ، عندما دخلا الغار ، أمر الله شجرة فنبتت في وجه الغار فسترته بفروعها ، وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها نسجاً متراكماً بعضه على بعض ، وأمر الله حمامتين (من الحمام البرى) ، فوقفتا وباضتا على مدخل الغار واحتضنت إحداهما البيض داخل العش ، وعندما وصل المشركون إلى غار ثور حيث انتهى أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : "لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، ولكان الحمام طار من العش .. وازداد القرشيون اقتناعا بأن الغار ليس فيه أحد ، عندما رأوا شجرة تدلى أحد فروعها على فوهة الغار ، ولا سبيل للدخول فيه إلا بازالة تلك الفروع ، فضلا عن ازالة نسيج العنكبوت ، وكل ذلك كان معجزة من المعجزات التى هيأها الله سبحانه وتعالى للنبى وصاحبه ..


فوقفوا على فم الغار ، إلا أن الله ردهم بفضله وقدرته ، يقول أبو بكر : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه (( وفى رواية أخرى ، لو نظر أحدهم من موقع قدمه لأبصرنا )) .. فقال له النبي : 

«يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» رواه البخاري ومسلم .. وقد ذكر الله هذه الحادثة في كتابه الكريم فقال سبحانه :

《إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ》سورة التوبة ،،

___________

وقيل أن أبا بكر سمع حديث المشركين ، عند وقوفهم بباب الغار .. قالوا لبعضهم البعض : الآن وصلنا لنهاية الأثر ، ألا ندخل كى نفتش الغار لنرى ما بداخله .. 

قال بعض شبابهم : هيا ندخل الغار ونفتشه ..

فقال أبو جهل لأحدهم : أتريد أن تدخل الغار ؟!! ..

قال : نعم .. و لما صعدنا إذاً؟!!..

قال له أبو جهل : ألا ترى ما بباب الغار ، إن عليه نسيج عنكبوت من قبل أن يولد محمد ، [[ وكانت العنكبوت قد نسجت خيوطها على باب الغار ، وجاء أمر الله ، فامتلأت الخيوط بالغبار والشوائب فورا حتى يبدو النسيج قديما ]] ..

ثم قال أبو جهل : أنظر إلى الحمامتين ، لو كانا قد دخلا الغار ، ألا تهج الحمامتان؟؟.. ،

 ألا يمزق نسيج العنكبوت؟؟..

ثم قال محذرا : أحذركم وأياكم أن تدخلوا إلى الغار ، ولا تقتربوا منه فيكون فيه ما يؤذيكم ، [[ يعني حية أو حشرات سامة ]] .. ثم قال :

 ارجعوا وابحثوا في غير هذا المكان ، فانصرفوا جميعا ..


وكان مما قيل أيضا ، أنه عندما  علم النبي صلى الله عليه وسلم ، بما كان من حديث المشركين على باب الغار ، ورأى الحمامتين وعرف أن وجودهما كان من ضمن أسباب رجوع المشركين وعدم دخولهم للغار ، رفع يديه وبارك عليهما ودعا لهما .. 

فنزلت الحمامتين إلى الحرم ، [[ وكل ما ترى من الحمام الآن في الحرم المكي والمدني ، من نسلهما فيما بعد ]] ..

___________

والجدير بالذكر ، أن الكثير من العلماء ، أنكروا نسيج العنكبوت  وبيض الحمام على باب الغار ، 

 ويقولون أنزل الله سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها .. 


فقد اختلف العلماء في حديث نسيج العنكبوت ، فحسن إسناده الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» وابن كثير في «البداية والنهاية» .. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند : في إسناده نظر ، وقال محققو المسند : إسناده ضعيف والله أعلم ،،

وأما قصة الحمامتين ، فقد ذكرها ابن كثير في «البداية والنهاية» .. وقال رواها ابن عساكر ثم قال : هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ، وضعفها كذلك محققو المسند في الموضع المشار إليه سابقا .. وقال الألباني في «السلسلة الضعيفة» : واعلم أنه لا يصح حديث في عنكبوت الغار والحمامتين على كثرة ما يذكر ذلك في بعض الكتب والمحاضرات التي تلقى بمناسبة هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فكن من ذلك على علم ..

وأما ستر الملائكة (جنود الله) للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، فقد رواه الطبراني في «الكبير» من حديث أسماء بنت أبي بكر ، وهو حديث طويل وفيه : 

فقال أبوبكر لرجل يراه مواجه الغار : يا رسول الله إنه ليرانا ، فقال النبى : كلا إن ملائكة تسترنا بأجنحتها ... 


والمقصود مما جاء ، فى رأى هؤلاء : أن رواية العنكبوت والحمام إسنادها ضعيف ، وإنما أرسل الله ملائكة غطتهم بأجنحتها فلم يبصرهما المشركون .

وفى رأيى .. أنه أيا كان ما أرسل الله من جنوده على اختلاف أنواعهم ، فهم جند من جنود الله ، يأتمرون بأمره وينفذون مشيئته .. ولقد قاموا بتنفيذ ما أمروا به على الوجه الأكمل ، فلا داعى لكثرة الجدال فى هذه الأمور ، وإنما أردت أن أذكر كل ما جاء من آراء فى شأن هذه الحادثة .. 

أليس الجراد والقمل والضفادع ، جند من جنود الله ، سلٌَطها الله على فرعون ومن معه ، لنصرة بنى إسرائيل؟؟.. 

أليست الريح جند من جنود الله ، سلطها على جيش المشركين يوم الأحزاب ، فكانت سببا فى هزيمتهم وانسحابهم ، ونصرة الرسول وجيش المسلمين؟؟..

والأمثلة على ذلك كثيرة ، لا يسع المجال لذكرها .. 

يقول الله تعالى : {{ وما يعلم جنود ربك إلا هو }} صدق الله العظيم ،،

_______________________

مكث النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه الجليل ، ثلاثة أيام فى غار ثور ، إختباءا من المشركين المطاردين لدعوة الحق ، وبعد خروجهما من الغار توجها للمدينة المنورة مباشرة ..


واتجهت أقوال تاريخية إلى أن غار ثور ، هو أول حصن في الإسلام تحصّن فيه الرسول الكريم وصاحبه الصديق بعد إعلان الدعوة السماوية ، حيث أوى إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رضي الله عنه ، وهما في طريقهما إلى المدينة في رحلة الهجرة النبوية ، فدخلا فيه ، حتى إذا هدأ طلب قريش لهما واطمأنا لذلك ، تابعا طريقهما ..


الحبيب المصطفى « ١١٥ »

السيرة المحمدية العطرة 

(( الهجرة ، سراقة بن مالك ))

___________

رجعت قريش من غار ثور .. 

وكانت جائزتها كما ذكرنا من قبل ، [[ ١٠٠ ناقة من حمر النعم عن كلا منهما ، أي عن النبى صلى الله عليه وسلم ١٠٠ ناقة ، وعن أبي بكر ١٠٠ ناقة ، لمن يردهما أحياء أو أموات ]] ..

وأخذت قريش تبحث في كل مكان طمعا بالجائزة ، والنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، مقيمان في الغار مدة ثلاثة أيام ، 

إلى أن خفّت حدة البحث عنهما ، وكانت تأتيهما الأخبار من خلال عبد الله بن أبى بكر .. ثم خرجا من الغار ليلة غرة ربيع الأول من السَّنة الرابعة عشرة من البعثة ، 

ووافق يوم الإثنين كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال : ولد نبيكم يوم الإثنين ، وخرج من مكة يوم الإثنين ، ونبيء يوم الإثنين ، ودخل المدينة يوم الإثنين ، وتوفي يوم الإثنين ..

 

هكذا كان هذا الحدث الذي سجَّله القرآن ، وعظَّم من شأنه ، ونلاحظ أن قريشًا لم ينقطع سعيها بغية الوصول إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، لأنهم يدركون جيدا ، أنه إن خرج من بين أظهرهم وَجد مَن يُعينه ، ولن يمكنهم بعدئذٍ أن يُسيطروا عليه ولا أن يمنعوه من دعوته ، لعلمهم بأنه يؤثر في القلوب تأثيرًا عظيمًا ..

___________

عندما اطمأن النبي قال لأبي بكر : انزل يا أبا بكر ، وانظر موعد {{ عبد الله بن أريقط }} ..


فنزل أبو بكر في اليوم الرابع ، 

وكان على موعد معه في مكان معين ، [[ والراحلتان كانا مع عبد الله بن أريقط ]] .. فاختبأ أبو بكر حتى ظهر عبدالله أولاً ، ونظر أبو بكر ، وجال بنظره حول عبد الله بن أريقط ، هل من أحد خلفه؟؟.. كى يتأكد ، هل هو ما زال على عهده معهم ، أم أن هناك خيانة وسيبلغ عنهم؟؟..

حتى إذا وجده ينتظر منفردا ولا يوجد أحد بالقرب منه ، ظهر له أبو بكر وعرف منه صدق النية ،  وأنه سيكون دليلهم إلى يثرب ..

وكان المتفق عليه ، أن يسلك بهم طريق لا تسلكه القبائل ، ولا تعرفه قريش ..

فلما تأكد أبو بكر من عدم خيانته ، قال : انتظرني ها هنا ، ثم غاب أبو بكر ورجع بالنبي صلى الله عليه وسلم .. 

وقدم إليه أحسن الناقتين ، فركبها صلى الله عليه وسلم وأطلق عليها اسم {{ القصوى }} ، وهذه الناقة هى التي عندما دخل صلى الله عليه وسلم بها المدينة ،  قال : دعوها إنها مأمورة ، [[ يعني إن الله يأمرها ويوجهها ]] ... 


انطلق صلى الله عليه وسلم فى رحلته إلى المدينة ، يصحبه {{ أبو بكر الصديق ، وعامر بن أبي فهيرة خادم أبو بكر ، كى يخدمهما ويعينهما ، والدليل عبدالله بن أريقط ، الرجل الخبير بالطريق }} ، فكانوا ثلاثة ، والدليل رابعهم ..

___________

 فلما كانوا على مسافة غير بعيدة  من مكة ، لحق بهم رجل {{ من بني مدلج }} ، واسمه {{ سراقة بن مالك المدلجي }} ..

والسؤال الآن : كيف استدل سراقة على مكانهم ، وقد سلكوا الطريق الساحلى ، وهو طريق لا تعرفه قريش ، لمن يرغب فى الذهاب من مكة إلى المدينة ؟؟.. 

الجواب : كان سراقة جالس بين قومه ، والكل يتحدث ، مكة بضواحيها وكل من حولها .. ترصد أخبار النبى المطلوب محمد عليه الصلاة والسلام ، وحديث بني مدلج لا ينقطع ، عن النبى وصاحبه والجائزة ٢٠٠ ناقة من حمر النعم .. فجاء شاب مسرعا يلهث إلى سراقة ، وقال : 

يا سراقة .. لقد أبصرت سوادا في طريق الساحل ، بين الثلاثة أشخاص أو أربعة .. يا سراقة ، لا آراهم إلا محمد وأصحابه .. 

يقول سراقة : {{ وقد أسلم فيما بعد رضي الله عنه }} ، يقول : فغمزت له بعيني ، [[ لغة الهمز التي تنزه النبي عنها ، إذ لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ، والمقصود الغمزة .. وللأسف هى منتشرة بين المسلمين فى عصرنا الحالى ، بشكل كبير ]] ..

قال : غمزت له بعيني حتى لا يسترسل فى الكلام .. 

ثم قلت : لا .. ليس محمد وصحبه ، هذا فلان وفلان .. 

[[ يعني اخترع قصة لا أصل لها ، كى يتكتم على الخبر ]] ، هذا فلان وفلان ، ذهبوا ونحن نعلم وهم يبحثون عن ضالة لهم .. 

قال سراقة : وشغلت القوم بحديث جانبى ، بعيد عن صلب الموضوع ، ثم خرجت من مجلسي ، وكان سراقة هو سيد القوم ، فلم يسأله أحد 

قال سراقة : فدخلت الدار وأمرت جاريتى أن تخرج بفرسى ، وأن تضعها بعيداً عن نظر القوم .. 

قال : ثم أخذت رمحي فجعلت زجه بالأرض ، [[ الزج هو الحديدة فى أسفل الرمح ]] ، حتى لا يلمع مع ضوء الشمس ويراه قومه ..  وأخذت أخط برمحي الأرض ، حتى أتيت فرسى ، فركبتها ..

فما زالت تقربني إلى طريق الساحل حتى رأيت محمدا وصحبه ، فدنوت منهم حتى هممت أن أرمي برمحي ، فعثرت بي فرسي فألقتني عن ظهرها ، فقمت فزجرتها ثم ركبت على ظهرها ، حتى دنوت منهم وأصبحت أسمع قراءة محمد وهو يقرأ القرآن ، حتى لو ألقيت برمحي لأصبت .. 

قال : فساخت يدا فرسي في الرمال [[ أى غرزت يدا فرسى بالرمال ]] .. قال : 

وتوقفت فرسي بهذه الرمال فعلمت أنه ممنوع .. 

فقلت : يا محمد أنا سراقة بن مالك .. وها أنا قد أدركت ، قف أكلمكم .. 

قال : فسمعته يقول لأبي بكر ولم يلتفت : قل له يا ابا بكر ، ماذا تبتغي منا؟؟..

فقال أبو بكر : ماذا تبتغي منا؟؟..

قال : أكلمكم ..

فكرر أبو بكر السؤال : ماذا تبتغي منا؟؟.. 

قال : يا محمد ، قد علمت أن أمرك ظاهر [[ أي أن الله قد منعني أن أصل إليك ، فعلمت أنك مؤيد من الله ]] ..

قد علمت أن أمرك ظاهر ، أريد منك {{ كتاب عهد وميثاق ألقاك به يوم تَفتَح مكة }} ..


سبحان الله .. ها هو سراقة يطارد النبي صلى الله عليه وسلم ، ويبشره بفتح مكة من الآن ..

فقال رسول الله لأبي بكر : أكتب له كتاب والقيه إليه .. فكتبه أبو بكر على قطعة من عظم ، ويقال كتبه عامر بن فهيرة على رقعة جلد .. 

فقلت : يا محمد يا ابن سيد قومه ، قف أكلمك ..

قال : فوقف واستدار ، ((وكان لا يلتفت صلى الله عليه وسلم)) ، كان إذا أراد أن يلتفت التفت بكلّ جسمه ، فوقف واستدار ، وقال : نعم يا سراقة؟؟.. 

قلت : إن معي مال وطعام ، أعرض عليكم مساعدة .. 

فقال النبي : لا حاجة لنا بمالك ولا طعامك ..

قال سراقة : هذا سهم من كنانتي يعرف بريشتي ، ستأتون على غنم لي مع الراعي ، خذوا منها ما شئتم .. [[ يعني هذا سهم مني ، معروف ، وستجدون راعي بالطريق معه غنم لي ، أعطوه السهم كعلامة وخذوا من الغنم ما شئتم ]] ..

فقال له صلى الله عليه وسلم : بارك الله في غنمك لا حاجة لنا بذلك .. قلت : 

يا محمد إني على يقين بأن أمرك ظاهر ، وإني أعلم أنك دعوت عليّ وعلى فرسي حتى ساخت بالرمال ، فادعو الله أن يطلقها ، وسأرجع ولن يأتيكم مني شر أبداً .. وهذا كتاب عهد بيني وبينك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إن كان صادقاً فأطلق له فرسه ..

قال : فنفضت الفرس يداها من الرمال ، وخرج لهم غبار ملىء السماء كأنه دخان ، يقول سراقة : ثم قال لي رسول الله : عمّي عنا الأخبار من هذا الوجه ، [[ يعني كلما لقيت أحد ، أرجعه وقل له أنهم لم يسلكوا هذا الطريق ]] ..

وإن كانت قريش جعلت لك مئة ناقة من حمر النعم ، فأنا أقول لك يا سراقة : لك سواري كسرى إن أنت وفيت .. [[ سواري كسرى !! ، شيء عظيم .. شخص مطارد من قومه يبشره بسواري كسرى ، اللاتي يضرب بهم المثل ، من يستطيع أن يصل لكسرى حتى يصل لسواري كسرى .. سواري كسرى ، إحداها فقط تاجه من الذهب ، كان كسرى لا يضعه على رأسه لأنه ثقيل جدا ، ولأن العنق لا يستطيع أن يحمله ، فكان معلق بجنزير من الذهب الخالص بالسقف فوق العرش ، إذا جلس كسرى كان التاج يوضع فوق رأسه معلقا بالجنزير ، فلا يكون ثقله محمٌَل على رأسه .. يوعده النبي بسواري كسرى !!! ]] ..

____________________

رجع سراقة ، وكان كلما لقى شخص بالطريق ، يقول له : كفيتم هذا الوجه .. (( يعنى لا تبحثوا فى هذا الطريق ، لا يوجد أحد هنا )) ، ارجعوا وابحثوا في غيره ..

يقول أنس : فكان سراقة أولَ النهار ، جاهدًا حريصًا مبالغًا في البحث عن رسول الله وايصالِ الأذيَّة به ، وكان آخرَ النهار مَسْلَحَةً له [[ يعني : حارسًا له بسلاحه رضي الله عنه وأرضاه ]] ، وقد أسلم سراقة فيما بعد ، بعدُ أن رأى من هذه المعجزة العظيمة ..


والآن : دعونا نأخذ أول بشارة لسراقة ونتقدم بالأحداث ، 

فَتَح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وسراقة لم يظهر ولم يأت ، وخرج النبي إلى حُنين وانتصر .. فأقبل سراقه يدس نفسه بين الخيل والرجال ، 

فأخذوا أصحاب النبي يبعدونه ، 

ويقولون له : دونك دونك [[ أي ابتعد ]] .. فرفع سراقة الكتاب الذي كتبه له أبو بكر ، وصرخ بين جموع الناس : يا محمد أنا سراقة بن مالك وهذا كتابك لي يوم الهجرة .. 

فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ادنوه مني ، يوم وفاء وبر .. قال : فدنوت منه وقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله .. (( فتأخر إسلام سراقة حتى سنة ثمان من الهجرة ، أى بعد فتح مكة وغزوة حنين )) ..

قال : فنظرت إلى ساقه صلى الله عليه وسلم فكانت كأنها لب النخل .. [[ أي بيضاء جميلة ]] ..

قال : فأحببت أن أبقى قليلا معه ، فأخذت أفكر بسؤال أسأله حتى لا يبعدوني عنه ، فلم يخطر ببالي إلا أن قلت : يا رسول الله ،

إنني أبني لإبلي أحواض ، وأضع فيها الماء ، فتأتي الإبل الغريبة فتشرب منها ، هل يكون لي بذلك أجر؟؟.. 

فقال له صلى الله عليه وسلم : نعم ، في كل كبد حره أجر ، [[ أي في كل مخلوق عطشان تسقيه أجر لك عند الله ]] ..

قال سراقة : فأقمت عنده قليلاً ثم انصرفت .. 

____________________

ومضت الأيام ورحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وولي الخلافة أبو بكر الصديق ، ورحل إلى الرفيق الأعلى .. ثم جاء عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه ،

 وفتحت بلاد فارس ، وانهزم كسرى على يد سعد بن أبي وقاص ، وأرسل التاج والسواري مع الغنائم إلى عمر بن الخطاب .. فلما وصلت إلى المدينة ، وضعها عمر بالمسجد النبوي ، ونظر إلى سواري كسرى وبكى عمر .. وقال : أين سراقة بن مالك؟؟.. 

قالوا : رجل كبير بالسن يلزم في بيته ، قال : أحضروه .. 

فجاء سراقة يتكئ بين رجلين من الصحابة ، حتى دخل المسجد النبوي ، فقال له عمر بن الخطاب : يا سراقة .. أتذكر وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لك؟؟.. قال سراقة : أجل .. 

فأعطاه عمر سواري كسرى ، 

ووضع السوار في يده ، تنفيذا لهذا الوعد النبوى الذى أخبر به النبى ، وهى كما يقول العلماء : معجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام .. فوقف سراقة أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجهش بالبكاء وابتلت لحيته ، وقال أشهد أنك رسول الله .. أشهد انك رسول الله .. أشهد انك رسول الله ..


ويقال : دعا الفاروق عمر رضي الله عنه ، سراقة بن مالك فألبسه قميص كسرى وسراويله وخفيه وقلده سيفه ووضع على رأسه تاجه وألبسه سواريه ، عند ذلك هتف المسلمون الله أكبر الله أكبر هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وقال عمر : الله أكبر والحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول أنا رب الناس ، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابياً من بني مدلج ، ثم أركب سراقة فرسا طاف به المدينة المنورة احتفاءا والناس حوله ، وسراقة يردد قول الفاروق ..

____________________

نعود إلى طريق الهجرة .. 

بعد أن تركهم سراقة عائدا إلى مكة ، مضى الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه وخادمه ودليلهم ، فى طريقهم إلى المدينة المنورة ، تحوطهم عناية الله سبحانه وتعالى ..


الحبيب المصطفى  « ١١٦ »

السيرة المحمدية العطرة

 (( الهجرة .. خيمة أم معبد ))

___________

مضى صلى الله عليه وسلم في هجرته ، حتى إذا كان في القديد (( القديد وادى فى السعودية ، به مساكن قبيلة خزاعة )) .. كان هنالك خيمة لامرأة خزاعية  ، مشهورة بكنيتها {{ أم معبد }} .. اسمها عاتكة ، يقول أصحاب الحديث في وصفها : 

كانت أم معبد امرأة برزة جلدة ، [[ معنى برزة أي تبرز للناس في الطريق ، وتستقبل الرجال لأنها إمرأة عفيفة شريفة مسنة ، جلدة أي قوية لا يستطيع أحد أن يدوس طرفها ]] .. تختبئ بفناء خيمتها ، [[ أي تجلس في ساحة خيمتها والاختباء ، هو أن تضع قطعة قماش على ظهرها وكتفها وتجمع عليه رجليها ]] .. وكانت هذه المرأة ، تطعم وتسقي وتستضيف المسافرين ، بدون سابق معرفة بهم ، فهى امرأة معروفة لكل من اعتاد المرور فى هذا الطريق .. 

___________

وكان أبو بكر صاحب القوافل والتجارة يعرفها ، فلما مروا بها ، وكانوا مرملين مسنتين ، (( أى نفذ زادهم وأصابهم القحط )) .. قال أبو بكر : 

بأبي وأمي يا رسول الله .. هناك خيمة أم معبد ، لعلنا نجد عندها شيء نشتريه ..

اتجهوا إلى خيمتها ، فسلم عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا أم معبد ، هل عندك من طعام أو تمر نشتريه؟؟.. فقالت : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزناكم [[ أي لا يوجد عندنا شيء للشراء ]] .. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أم معبد ، هل عندك من لبن؟؟.. 

قالت : لا والله .. 

فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسر الخيمة ، (( أى جانبها )) .. فوجد شاة ، فقال : ما هذه الشاة يا أم معبد؟؟.. 

قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم [[ يعني ضعيفة هزيلة لا تقدر على المشى مع الأغنام كى ترعى معهم ، فذهب الغنم وبقيت هى ]] ..

قال عليه الصلاة والسلام : هل بها من لبن؟؟.. 

قالت: هي أجهد من ذلك (تعنى أنها لضعفها، لا يمكن أن يكون بها من لبن)

قال عليه الصلاة والسلام : أتأذنين لي في حلبها؟؟.. 

(( تأملوا هذا الأدب النبوى ، يستأذن المرأة أولا قبل أن يقترب من شاتها ، فلا يهجم عليها ، ولا يتصرف تصرف الفضولى )) .. 

قالت : والله ما ضربها من فحل قط ، [[ أي لم تحمل ولم تلد حتى تحلب يوم من الأيام ]] ..

قال : أتأذنين لي أن أحلبها يا أم معبد؟؟.. 

قالت : بأبى أنت وأمى ، إن رأيت بها حلبا فاحلبها !

___________

تأملوا هذا النبي الكريم حينما يتعامل مع هذه المرأة أم معبد ، بأسلوب يفيض احترامًا وإجلالًا وتقديرًا ، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن لطيفًا مقدرًا لكل مَن يلتقي بهم ، لا من رجل ولا امرأة ، لا من مسلم ولا غير مسلم ، فهذا حق ينبغي أن يصدر من الإنسان الذي يمثل أخلاق الإسلام ، أن يُقدِّر من يلتقي به ، وأن يتحدث معه بما يليق ..

 لذلك ، فلما استأذن عليه الصلاة والسلام : أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت : بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا ، فاحلبها ..

وتأملوا هذه المرأة حينما تفدي رسول الله بأبيها وأمها ، مع أنه أول لقاء بينهما ، وما ذلك إلا لأنه أسَر قلبها ، وحلَّ به حبًّا وتقديرًا لأمرين : لَما رأت عليه من أخلاق النبوة ومهابة الفضل والشرف ، ولما كان يتعامل معها من أدب واحترام ..

___________

فدعا النبي بالشاة ، [[ أي قال قربوها ، فقربها أبو بكر ]] ..

يقول أبو بكر : فمسح صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة ظهرها وساقيها ، وسمى الله جل ثناؤه .. ودعا لشاتها قائلا :  اللهم بارك لنا في شاتنا .. فاجترت ، [[ أي أصبحت تحرك فمها كأنها تأكل العشب ]] ..ثم تفاجت ، [[ تفاجت أى الضرع لمتلأ حليبا ، فتفاجت أى فتحت رجليها ]] ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم .. فمسح ضرعها صلى الله عليه وسلم ، وغسله بشيء من ماء ، ثم قال : إليّ يا أم معبد بوعاء ، قال : فأحضرت له وعاء يربض الرهط ، 

[[ أي وعاء كبير ، يكفى لإشباع رهط من الناس ، والرهط هو عدد من الناس حتى عشرة أفراد ]] .. 

فأحضرت له وعاء يربض الرهط ، فرفع ساقها صلى الله عليه وسلم كي يحلبها ، فحلب بها ثجاً حتى علتهُ الثّمالة ..

 سبحان الله ، أنظروا إلى فصاحة اللغة العربية التي ابتعدنا عنها .. 

[[ الثج أي ينزل الحليب بقوة ، ويضرب الوعاء بصوت ، فكان الحليب ينزل بقوة ، وله رغوة بيضاء علته الثمالة أي تعلوه الرغوة البيضاء التي تدل على دسم الحليب ]] ، حتى امتلأ الوعاء .. فسقى أم معبد ، فقالت : اشربوا أنتم أولا .. 

قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : لا اشربي أنتِ أولاً ،

فشربت حتى رويت .. 

ثم سقى أبا بكر الصديق والدليل وابن فهيرة ، حتى شربوا جميعاً .. ثم أخذ  الوعاء وشرب صلى الله عليه وسلم ، وقال : 

{{ ساقي القوم آخرهم شرباً }} .. 

ثم عاد إلى العنزة وحلبها مرة ثانية ، عللاً بعد نهل ، [[ أي زيادة فربما احتاج أحد أن يشرب مرة أخرى ]] ، صلى الله عليه وسلم ..

___________

وقد جاء في بعض الروايات عن {{ هند بنت الجون }} ، التى تكون أم معبد خالتها ، وقد أسلمت فيما بعد .. أنه لما كان بخيمة خالتها أم معبد ، قام ليتوضأ صلى الله عليه وسلم ، فدعا بماء فغسل يديه ، ثم تمضمض ومجّ ذلك في عوسجة ، [[ أي بصق ماء المضمضة في حوض من أحواض الزرع ]] ، بجوار باب الخيمة ..

فأصبحت هي أعظم دوحة ، [[ يعني بعد فترة نبت في هذا الحوض شجرة ذات فروع كثيرة ]] ، وكان لها ثمر كبير في لون الورس ، [[ اي تشبه لون شجرة الكركم ]] .. وكانت رائحتها العنبر ، وطعمها الشهد ،

ما أكل منها جائع إلا شبع ، ولا ظمآن إلا روي ، ولا سقيم إلا برىء ، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا درّ [[ أي در الحليب ]] ..

فكنّا نسميها المباركة ، فأصبحنا في يوم من الأيام وقد سقط ثمرها ، واصفر ورقها ، ففزعنا لذلك ، فما راعنا إلا وقد وصلنا خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ..

___________

ثم ترك الوعاء عندها ممتلِئاً ، وارتحل صلى الله عليه وسلم ..

فجلست أم معبد تقلب يديها ، وتكلم نفسها وتقول : 

أتحلب الحائل؟!!.. والله إنه لأمر عجيب ، أتحلب الحائل؟!!..

[[ يعني شاة حائل ، لا حملت ولا ولدت ، ولم يقربها فحل .. كيف تحلب؟ ]] .. أي رجل هذا؟؟!!..


تقول أم معبد : فجاء أبو معبد زوجها ، يسوق أعنُزاً عِجافاً ، بدت عظامها لهزالها وضعفها ، يتساوكنّ هِزالاً ، [[ يعني تتمايل هذه الأعنز من شدة الضعف ]] .. 


يتبع إن شاء الله ..

وصف أم معبد للرسول صلى الله عليه وسلم ،،،

الأنوار المحمدية 

صلى الله عليه وسلم

المتابعون

أرشيف المدونة الإلكترونية