الحبيب المصطفى « ١٠١ »
السيرة المحمدية العطرة ..
(زواجه صلى الله عليه وسلم من عائشة)
__________
ذهبت خولة إلى بيت أبي بكر ، تخطب ابنته عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم ، في نفس اليوم الذي تزوج فيه سودة ..
ذهبت {{ خولة بنت حكيم }}
إلى بيت أبي بكر ، فاستقبلها أبو بكر ، فقالت :
أي آل أبي بكر !!!.. ، أي خير وبركة ساقه الله إليكم وأدخله الله على داركم ؟!!
قال لها : وما ذاك ؟
قالت : أرسلني رسول الله ، أخطب إليه عائشة ابنتك !!
فدهش أبو بكر .. النبي يطلب ابنتي ، [وكلنا نعرف أبا بكر الصديق ، وعلاقته بالنبي صلى الله عليه وسلم ].
فقال : أمهليني يا خولة ، استغربت خولة !!..
[[ أمهلك ؟!! رسول الله يريد مصاهرتك .. أمهلك ؟!! ]] ..
قال : يا خولة إني على عجلة من أمري ، أمهليني وخرج من الباب مسرعاً ..
قالت خولة مستغربة : ما الأمر ؟!!
فقالت أم رومان زوجة أبي بكر لخولة : يا خولة ، إن أبا بكر ما قال قول ، إلا وصدق به ..
قالت خولة : ما الأمر أفصحوا لي؟؟..
قالت لها : كان المُطعِم بن عدي ، قد ذكر لأبي بكر أمر عائشة يريدها لابنه ، ولم يرد عليه أبو بكر بشيء ..
قال له : أنت وذاك ، [[ يعني من الآن وحتى يحين هذا الوقت ، بصير خير .. لأنها لم تنضج بعد ]] ..
فخاف أبو بكر أن يكون المطعم ، مازال يريدها لابنه .. وأنه قد أعطاه كلمة ، ثم يزوجها إلى النبي فيقع في مشكلة مع المطعم ..
___________
فذهب أبو بكر إلى المطعم مسرعاً .. وقدٌَرَ له الله الخلاص ، فبمجرد أن وصل لداره ، استقبلته زوجة المطعم ، وقالت :
يا أبا بكر ..
قال لها : نعم ..
قالت : أخاف إن زوجتُ ولدي من ابنتك ، أن تحمله على الدخول في دينك هذا ، ويصبح ولدي من الصابئين ..
[[ ولشرح معنى الصابئين ، قال الطبرى : الصابئون جمع صابيء ، وهو المستحدث سوى دينه دينا ، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه ، وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره ، تسميه العرب : صابئا .. وهناك آراء تقول أن : الصابئون أهل دين من الأديان ، يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول : لا إله إلا الله ، ولم يؤمنوا برسول ، وكلما ظهر رسول كان بعضهم يؤمنون به ، ويكفر به البعض الآخر .. وكان المشركون يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : هؤلاء الصابئون ، يشبهونهم بهم ، يعني في قول : لا إله إلا الله ، ولكنهم غيروا عقيدتهم .. كما قيل فيهم أنهم كانوا يقرءون الزبور ، ويصومون ويصلون إلى القبلة .. وهناك من يقول أنهم قوم من المجوس (المجوس هم عبدة النار) ، ومنهم من يعبد الملائكة ، (( إلا أننى أختلف مع أصحاب الرأى الأخير ، حيث أن طريقة ذكرهم فى القرآن لا توحى بذلك ، فقد جاء ذكرهم فى ثلاثة مواضع من القرآن ، تدل على أن فيهم من هم من أصحاب الجنة : " سورة البقرة - سورة المائدة - سورة الحج")) .. والله أعلم ]] ..
نعود إلى أبى بكر ، لما سمع ما قالته زوجة المطعم ، غضب ولم يرد عليها ، والتفت إلى زوجها المطعم ، وقال له :
ماذا تقول هذه؟؟..
قال له المطعم : القول ما سمعت ، وإنا لنخشى ذلك يا أبا بكر ..
فقال أبو بكر : إذا أنا في حل ..
[[ هل رأيتم سبحان الله ، قدّر الله له الأسباب ، إن تصدُق الله يصدقك ]] ..
وخرج من عندهم ولم يجلس ولم يُسَلٌِم ..
رجع أبو بكر إلى خولة وقال :
استأذني رسول الله أن أتمم الزواج .. [[ لم يقل خلي النبي يجي عندي ]] ..
وفى رواية أخرى ، قال لخولة : ادعِي لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فمضَتْ خَوْلَة إلى الرسول الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم ، فدعَتْه ..
__________
نقف هنا ، فهناك قولان :
البعض يقول : {{ كان عمر عائشة ٦ سنوات }} وقت خطبتها للنبى ..
والبعض الآخر قال : لما خطبها كان {{ عمرها ١٤ سنة }} ..
سأخصص الجزء التالي للرد على بعض الشبهات ، وذلك لتوضيح بعض الأمور التى قد تخفى على القاريء ..
إذا قلنا ، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة .. [[ تزوجها لا يعني ، أنها انتقلت لداره ودخل عليها ]] ..
تزوجها يعني ، تم الإيجاب والقبول .. ويضع يده بيد أبي بكر ، ويقول أبو بكر : زوجتك ابنتي ويحدد المهر ..
فإذا تم الإيجاب والقبول ، وحدد المهر مع وجود الشهود ، تم الزواج .. {{هذا اسمه في الدين والفقه ، زواج }} ..
أما الدخول والزفاف فاسمه البناء ، البناء هو ما يعرف بلية الدخلة
فمشى صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وطلب منه ابنته لنفسه فزوجه .. وتم الإيجاب والقبول ، والولي موافق ، وحدد المهر {{ ٥٠٠ درهم }} ، وأعلن هذا الزواج في مكة ..
فتزوج النبي زواجين في آن واحد .. من عائشة بنت أبي بكر ولم يدخل بها ، ومن سودة ودخل بها على الفور ، فانتقلت إلى بيت النبوة رضي الله عنهن أجمعين .. فأصبح النبي الآن له زوجتين :
واحدة في بيته ، والثانية في بيت أبيها ..
والجدير بالذكر ، أن زواج النبى عليه الصلاة والسلام ، بعائشة بنت أبى بكر ، كان بوحي من الله تعالى .. فمن المعلوم أنَّ رُؤيَا الأنبياء حقٌّ ووحيٌ ، كرُؤيَا إبراهيم عليه السلام حينما رأى أنه يَذبح ولدَه .. ولقد رأى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم السيِّدة عائشة رضِي الله عنها في المنام ، وأخبَرَه الملَك أنها زوجتُه .. فاستَمِع معي إلى هذه الرواية عن هشامٍ ، عن أبيه ، عن عائشة رضِي الله عنها ، أنها قالَتْ :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رِأيتُك في المَنامِ ثلاثَ ليالٍ ، جاءَني بكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ (( أي : قطعة جيِّدة مِن حريرٍ )) ، فيقول : هذه امرأتُك ، فأكشِف عن وجْهِك فإذا أنتِ هي .. فأقول : إنْ يَكُ هذا مِن عند اللهِ يُمْضِهِ ، (رواه مسلم) ..
الحبيب المصطفى « ١٠٢ »
السيرة المحمدية العطرة ..
(( رد الشبهات حول زوج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة )) ..
___________
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ، من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ..
وهذا الزواج ، استغله أعداء الإسلام ، بالطعن فى الإسلام ،
وسوف أخصص هذه الحلقة للإجابة على السؤال :
كم كان عمر السيدة عائشة حين تزوجها النبي؟؟ .. وما هى الحكمة منه ، والفائدة التى عادت على الإسلام ، نتيجة هذا الزواج؟؟..
بداية .. هناك خلاف قديم فى سن السيدة عائشة عند زواجها من النبى عليه الصلاة والسلام ، ما بين الروايات التى تنقلها أغلب كتب التراث الإسلامى ، وما بين الروايات الحديثة ..
___________
القول الأول :
عمر أمنا عائشة رضي الله عنها ، حينما عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم كان ست سنوات ، وعمرها حينما بنى بها كان تسع سنوات ، والظاهر أنه خطبها في نفس السنة التي عقد عليها فيها ..
ودليل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين ، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج ، فوعكت فتمزق شعري ، فوفى جميمة ، (( وفى جميمه أى كثر شعرها الساقط على منكبيها )) .. فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي ، فصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي ، ثم أخَذَت شيئاً من ماء فمسحت به وجهي ورأسي .. ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن : على الخير والبركة وعلى خير طائر ، (( أى قدمت على خير )) .. فأسلمتني إليهن وأصلحن من شأني ، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحىً ، (( أى أتى وقت الضحى )) ، فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين ..
___________
القول الثاني :
عمر السيدة عائشة حين خطبها النبي صلى الله عليه وسلم ، كان {{ ١٤ عاما }} ..
وأنه تزوجها بعد أربعة أعوام ، وكان عمرها {{ ١٨ عاما }} ..
أصحاب القول الثاني قالوا :
أن دليلهم على ذلك ، أن أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة ، وكل المصادر التاريخية تؤكد أن اسماء وقت الهجرة ، كان عمرها {{ ٢٧ عاما }} .. وقالوا الدليل على ذلك ، أن أسماء ماتت مباشرة ، بعد أن قتل الحجاج ابنها ، {{ عبد الله بن الزبير }} .. وحدث ذلك في عام {{ ٧٣ للهجرة }} ..
وكل المصادر الموثوقة أيضا ، تقول : أن عمرها عندما قتل الحجاج ابنها كان {{ ١٠٠ عام }} ..
وهذا يعني ان وقت الهجرة عمر أسماء كان {{ ٢٧ عاما }} .. أى : ( ١٠٠ - ٧٣ ) ، كما أن كل المصادر التاريخية تؤكد ، أن أسماء أكبر من أختها عائشة بـ ١٠ سنوات ..
فإذا كان عمر أسماء وقت الهجرة ٢٧ عاما ، فهذا يعني أن عمر عائشة كان ١٧ عاما ..
وقد خطبها النبي في السنة العاشرة من نزول الوحي ، أى قبل هجرته للمدينة بثلاث اعوام ، يعني عمرها كان {{١٤ سنة}} .. ثم دخل بها في بداية السنة الثانية للهجرة بعد أن نضجت ، يعني بعد أربع سنوات من الخطوبة ..فيكون عمر عائشة قد أصبح ١٨ سنة ..
وتوافق هذه الرواية ، ما ذكر فى كتاب "أفلا يتدبرون القرآن" للدكتور محمد ناصر قطبى ، أن السيدة عائشة هى الزوجة البكر الوحيدة للنبى عليه الصلاة والسلام ، ولم تنجب للنبى أى ذرية ، وكان عمرها وقت الهجرة ١٧ عاما ، فهى تصغر أختها أسماء بعشرة سنوات ، ويوضح المؤلف أن النبى دخل بها ، بعد الهجرة إلى المدينة وهى بنت ١٨ سنة ..
أما فى كتاب "الصدِّيقة بنت الصدِّيق" .. للأديب الكبير عباس محمود العقاد ، فالروايات تختلف فى سن السيدة عائشة يوم زفت إلى الرسول ، لكن الأرجح كما يؤكد صاحب "العبقريات" ، أن السيدة عائشة كانت لا تقل عند زفافها بالنبى عن الثانية عشرة ولا تتجاوز الخامسة عشر بكثير ، فقد جاء فى بعض المواضع من طبقات ابن سعد ، أنها خطبت وهى بنت التاسعة أو السابعة ، ولم يتم الزفاف كما هو معلوم إلا بعد فترة بلغت خمس سنوات فى أشهر الأقوال ، ويؤيد هذا الترجيح أن السيدة خولة اقترحتها على النبى وهى فى السن المناسبة للزواج .. ويؤيد هذا الترجيح أيضا ، أن السيدة عائشة كانت مخطوبة لجبير بن مطعم قبل خطبتها إلى النبى ، وأن خطبة النبى لها ، كانت فى نحو السنة العاشرة للدعوة ..
___________
أما أنا عن نفسي ، لا ألتفت لهذا الخلاف ، لأنه لا يوجد لدي مشكلة بهذا الموضوع ..
يكفيني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُخطئ ، وهو معصوم صلى الله عليه وسلم ..
إن كان ست ولا تسع ولا ثماني عشرة ... هذا لا يهم فى شيء ..
خاصة وأن فارِقُ السنِّ الكبير بين الزوج والزوجة ، كان أمرا طبيعيا في ذلك المجتمع .. إذ لم يكُن المجتمع العربي في ذلك الوقت ، يَستنكِر أن يكون الزوج أكبر مِن الزوجة بكثير ، أو الزوجة أكبر مِن الزوج بكثير ، كحال المجتمعات المعاصِرة ، بل كان هذا شيئًا طبيعيًّا ، بدليل أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم نفسَه تزوَّج بعددٍ مِن النساء أكبر منه سِنًّا كالسيدة خديجة والسيدة سَوْدَة والسيدة زينب بنت خُزَيمة ، وبعض الصحابة تزوَّجن ممَّن يصغرن عنهم بأعوامٍ كثيرة ، كسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تزوَّج بالسيدة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضِي الله عنها ، وكان هو أمير المؤمنين ، وكان عمر أكبر من على بن أبى طالب والد السيدة أم كلثوم بعشر سنوات ، وكانت هي فتاة صغيرة قد بلغت الحُلُم ..
وهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، كان قد عرض ابنته (حفصة) للزواج ، قبل أن يتزوجها النبى .. عرضها على أبي بكر ، ثم عرضها على عثمان بن عفان ، فى حين كان عمر ، أصغر سنا من أبي بكر ومن عثمان ، أى عرض ابنته للزواج بمن هم أكبر من أبيها ..
وجاء في الكتاب المقدَّس ، أن السيدة مريم وهي بنت الثانية عشرة مِن عمرها ، كانت مخطوبة ليوسف النجَّار وكان قد بلغ تسع وثمانون سنة ، أي : أن فارِق السن بينهما كان سبع وسبعون سنة .. في حين أن فارِق السنِّ بين نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم وبين السيدة عائشة رضي الله عنها فى حال زواجهما وهى فى التاسعة .. كان أربع وأربعين سنة ، فلِمَ التعجُّب إذًا؟!..
__________
وممَّا لا شكَّ فيه ، أنَّه لو كان زواج النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، بالسيدة عائشة رضِي الله عنها ، ممَّا يمكن أن يكون مَطْعَنًا في شخصيَّة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، أو سيدنا أبي بكر الصديق ، أو السيدة عائشة رضي الله عنهما .. لكان المشركون مِن قريش وأعداؤه مِن اليهود وغيرهم ، وما أكثرَهم في ذلك الوقت في مكَّة والمدينة ، أقاموا الدنيا ولم يقعدوها ، ولكانوا أوَّل مَن يَستنكِرون عليه ذلك ، ويَعدُّونه مَنْقَصَة وعيبًا كبيرًا يُشِيعونه ، ويَتندَّرون به في المجالس ليَصُدُّوا الناس به ، عن الإيمان بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ورسالته ، أمَا وإن ذلك لم يحْدُث .. فهذا مِن أكبر الأدِلَّة على أن فارِق السنِّ لم يكن له أدنى تأثير في الزواج في المجتمع العربي في ذلك الوقت ..
خطب النبي صلى الله عليه وسلم عائشة ، وهي لم تنضج بعد ..
وترك الأمر إلى ما بعد الهجرة ، في المدينة المنورة حتى بلغت الحيض ، ومعنى النضوج :
[[ أن يحتمل الجسم الزواج وما يتبعه ]] .. والذى لا يعلمه الكثيرين ، ومَن يُمارِي ويُكابِر في بلوغ السيِّدة عائشة في سنِّ التاسعة ، ويَقِيسها على بنات التاسعة اليوم ، إنسانٌ لا عِلم له بالتطوُّر الجسدي للإنسان عبر التاريخ ، ولا عِلم له بالفُرُوق الفرديَّة بين الناس في وقت بُلوغهم ، ولا علم له أيضًا بأثر الظروف المناخية والبيئية في بلوغ الإنسان .. فقد مرَّ بالإنسان فترات تاريخية قديمة كان جسده مِن حيث البنيَة والطُّول أضعاف ما عليه الآن ، والناس ما زالوا يتناقَصُون في هذا جِيلًا بعد جيل حتى يومنا هذا ..
فلا يجوز أن نقارن بين حالة الفتاة الجسدية ، من حيث النضج فى سن معين الآن ، وما كانت عليه فى الفترة الزمنية التى نتحدث عنها ..
___________
ولننتقل إلى موضوع آخر ..
إذ كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة وهي صغيرة بالسن ، له هدف هام جداً وهو ، {{ نقل وإبلاغ سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى الأمة الإسلامية }} .. وذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، فكلنا نعلم أن البنت الصغيرة سنا ، تكون قدرتها كبيرة على الحفظ ، والعمر أمامها طويل ، فى حال إذا كتب الله لها ذلك ..
فقال صلى الله عليه وسلم : {{ خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء }} .. أي عائشة رضي الله عنها ، وكان في لون شعرها بعض الأحمرار رضي الله عنها ..
إذاً فمن فوائد ومَنافِع هذا الزواج المبارَك :
أولًا : علمها رضِي الله عنها ، فلقد انتفعَت الأمَّة بما تميَّزت به السيدة عائشة رضي الله عنها مِن قُدرات علمية وذهنية فائِقة لم تتوفَّر في العادة لمثلها ..
وقد قال بعض العلماء : "إن ربع الأحكام الشرعيَّة عُلِم منها".
أى أنَّ ربع الأحكام الشرعيَّة التي عرَفناها من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، إنما عُرِفَت مِن أحاديثَ روَتْها السيِّدة عائشة رضِي الله عنها .. فزوجة النبي أم المؤمنين ، لها دورٌ خطيرٌ جدًّا في الدعوة ، لأنها يمكن أن تختصَّ بالنساء ، فمِن المعلوم أن النساء كُنَّ يسألن النبي عليه الصلاة والسلام عن موضوعاتٍ تَخُصُّ حالَهنَّ ، وأفضَلُ إنسانة تُعَبِّر عن الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمرأة ، زوجة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فكان لها دورٌ في الدعوة كبيرٌ ، وفي هذا دليلٌ على رفْع الإسلام لقَدْر المرأة ..
ويقول العلماء أيضًا : "ما رأَوْا أحدًا أعلمَ بمعاني القرآن ، وأحكامِ الحلال والحرام مِن السيِّدة عائشة ، وما رأى العلماء أحدًا أعلمَ بالفرائض .. (( أي : عِلم المواريث )) ، والطب والشِّعر والنسَب مِن السيدة عائشة" ..
ومع أنها كانت صغيرةٌ ، إلا أنها كانت شيئًا نادِرًا في الذكاء ، وشيئًا نادرًا في الحفظ ، وشيئًا نادرًا في الوفاء للنبي عليه الصلاة والسلام ..
مِن هنا أَيْقَنَ العلماء والعقلاء والمنصِفون أن زوجات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، قد اختارهنَّ الله جلَّ جلاله له ، لما سيكون لهن من دورٍ في الدعوة مُستَقبَلًا ..
ثانيا : هذه السيدة الجليلة السيدة عائشة روَتْ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألفَيْ ومائتين وعشرة أحاديث .. فكان ترتيبها الرابع فى كثرة الرواية ، (( بعد أبو هريرة وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك )) ، وحفِظَت القرآن الكريم كلَّه في حياة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ..
فكان هناك حكمةٌ إلهيَّةٌ بالغة مِن أن الله سبحانه وتعالى ، هيَّأ لرسوله الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم ، هذه الزوجة العاقلة المتَّقِدة في الذهن والذكاء والفِطنَة ، كثيرة الملاحَظة ، ذات النفسيَّة الطيِّبة ..
___________
يقولون : "ولو لم تكن السيِّدة عائشة رضِي الله عنها في تلك السنِّ التي صَحبَتْ بها رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهي السنُّ التي يكُون فيها الإنسان أفرغَ بالًا ، وأشدَّ استِعدادًا لتلقِّي العِلم ، لَمَا تهيَّأ لها ذلك" ...
قال الإمام الزُّهري : لو جُمِع عِلم عائشة إلى عِلم جميع أمَّهات المؤمنين ، وعِلم جميع النساء ، لكان عِلم عائشة أفضل ..
ولقد بلغ من فقهها وعلمها ،
أن كثير من الصحابة كانوا يرجعون إليها ويستفتونها ..
يقول أبو موسى الأشعري : {{ما أشكل علينا أصحاب رسول الله حديث قط ، فسألنا عائشة ، إلا وجدنا عندها منه علماً }} ..
ويقول عروة بن الزبير : {{ ما رأيت أعلم بفقه ، ولا طب ، ولا شعر من عائشة }} ..
كانت هذه بعض من صفات ، أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها ..
ي الحبيب المصطفى « ١٠٣ »
السيرة المحمدية العطرة ..
( بداية الهجرة ، أبو سلمة وأم سلمة )
__________
كان أول من هاجر من الصحابة إلى يثرب : {{ أبو سلمة وأم سلمة رضي الله عنهما }} ..
تقول أم سلمة كما روى البخاري :
ما أعلم أهل بيت من المؤمنين أدخل الله عليهم ، من البلاء ما أدخل علينا ..
ولكى نعرف قيمة هذا الدين ، يا عشاق النبي صلى الله عليه وسلم ، ولتعرفوا عزة هذا الدين ، وكم كان غاليا في قلوب الصحابة والتابعين ، رزقنا الله الاقتداء بهم .. سأتناول بعض القصص لهجرة الصحابة رضوان الله عليهم ..
ونبدأ مع قصة : {{ أبو سلمة وأم سلمة رضي الله عنهما }} ..
___________
قال ابن إسحاق : أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ : أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ بْنِ مَخْزُومٍ .. وَاسْمُهُ : عَبْدُ اللهِ ، هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثانية بحوالى سَنَةٍ .. وَكَانَ قد قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى مَكَّةَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَلَمَّا آذَتْهُ قُرَيْشٌ وَبَلَغَهُ إسْلاَمُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الأَنْصَارِ ، بعد بيعة العقبة الأولى ، خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا ..
وكما ذكرنا من قبل ، أن بيعة العقبة الثانية ، كانت في ذي الحجة من العام الثالث عشر من البعثة ، فى حين كانت بيعة العقبة الأولى ، فى ذى الحجة من العام الثانى عشر من البعثة .. أما هجرة أبي سلمة رضي الله عنه ، كانت بعد بيعة العقبة الأولى مباشرة ، أي في المحرم من العام الثالث عشر من النبوة .. لأن العائدين من المهاجرين إلى الحبشة ، عادوا بعد سماع أخبار بيعة العقبة الأولى ، وكان أبو سلمة رضي الله عنه وزوجته أم سلمة رضي الله عنها من ضمن العائدين من الحبشة في هذا التوقيت ، ولقد وجدا عنتًا شديدًا من قادة مكة ، خاصة من قومهم بني مخزوم .. حيث أن زعيم القبيلة كان أبو جهل ، وهو أعتى المشركين وأشدُّهم ضراوة على المسلمين ، وكان أبو سلمة رضي الله عنه قبل ذلك يدخل في إجارة خاله أبي طالب .. ولكن بعد وفاته ، لم يجد مَنْ يُجيره من أهل مكة ، فقرَّر الرحيل إلى يثرب ، حيث علم بوجود عدد من المسلمين اليثربيين هناك ..
كانت يثرب اختيارًا أفضل لأبي سلمة رضي الله عنه من اختيار العودة إلى الحبشة ، وذلك لعوامل عدَّة .. منها قرب المسافة نسبيًّا من مكة والرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنها سكنى العرب فيها ، مما يجعل الطباع متقاربة ، واللغة واحدة ، ومنها وجود مسلمين من أهل البلد يُعينوه على الطاعة ، ومنها صحبة مصعب بن عمير رضي الله عنه (( الداعية الذى أرسله النبى إلى يثرب )) ، ومساعدته في مهمَّته التي أوكلها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نقول هذا الكلام مع العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف حتى هذه اللحظة أن الهجرة الجماعية المرتقبة ستكون إلى يثرب ، ومن ثَمَّ كان المجال مفتوحًا لعموم المسلمين بالتوجُّه إلى الحبشة أو إلى يثرب ، لكن بعد قليل من الوقت ، وعندما تتضح الرؤية ، وتنشط الدعوة في يثرب ، ويكثر المسلمون هناك ، سيُصبح الاختيار الأَوْل هو الهجرة إلى يثرب ، ثم بعد ذلك ستأتي مرحلة لاحقة تصدر فيها الأوامر صريحة بالهجرة إلى يثرب دون غيرها .. وهذا ما حدث بعد بيعة العقبة الثانية ..
___________
أراد أبو سلمة الخروج ، فجاء ببعير وأركب زوجته ، وكان معهم ولدهم سلمة صبيًاصغيرًا دون التميز ، [[ يعني بين الرابعة والخامسة من العمر ]] ..ثم قام يمشي يقود بعيره ، فرآه أهل أم سلمة ، [[ أهل زوجته ]] ..
فقالوا : يا أبا سلمة ، أما نفسك فقد غلبتنا عليها ..
وأما ابنتنا هذه ، فلا واللات لا ندعها لك ، تذهب بها في الأرض مشرقا ومغربا .. [[ تريد أن تهاجر أنت حر ، أما ابنتنا فلن ندعها تهاجر معك ]] ..
بالأمس هاجرت بها إلى الحبشة ، واليوم لا ندري أين تذهب بها ، فأنت حر في نفسك ..
فأخذوا حبل البعير من يده ، ثم أخذوا أم سلمة بنتهم وولدها ، ولم يلتفت أبو سلمة .. [[ لأن المقاومة لا تصلح في ذلك الوقت ، ولم يؤمر الصحابة بالدفاع عن أنفسهم بعد ]] ..
فترك زوجته والولد ، ومضى في طريقه يمشي على قدميه متجها إلى يثرب ..
[[ أم سلمة ، هي أم المؤمنين وزوجة النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد ، لما استشهد زوجها أبو سلمة بعد أحد في غزوة حمراء الأسد متأثرا بجراحه ((سنأتى إليها فى السيرة فيما بعد)) ، فتزوجها صلى الله عليه وسلم ، وضمها تحت رعايته في بيت النبوة ]] ..
تقول أم سلمة : انطلق أبو سلمة إلى يثرب مهاجرا ، فلما رأى أهل زوجي أبو سلمة ، ما فعل أهلي ،
أخذتهم الحمية .. فقالوا :
أنتم أخذتم ابنتكم من ابننا ،
فو اللات والعزة لا ندع لكم الولد عندكم ، نحن أولى به ..
تقول : فأخذوا ولدي مني ، فصرخت وآ ولداه .. فهمّ أهلي أن يأخذوا الولد لي ، فتجاذبته العشيرتين .. أهلي يريدونه لي ، وأهل أبي سلمة يريدون أن يأخذوه ، لأنه ابنهم ..
فهؤلاء يجذبونه ، وهؤلاء يجذبونه .. حتى خلعوا يد الصبي والأم تنظر !!..
خلعت يد سلمة وهو بين الرابعة والخامسة من العمر ، [[ لم يحتمل شد الرجال ]] ..
قالت : وغلب أهل أبي سلمة فأخذوه ، فأصبح ولدي مخلوعة يده عند أهل أبيه ، لا أعلم من يرعاه .. وأنا محجوزة عند أهلي ،
وزوجي قد هاجر إلى يثرب ، لا يعلم من أمرنا شيئا ، فأصبحت أذهب كل صباح إلى أبطح مكة أبكي ولدي وزوجي !! (( الأبطح أرض مستوية يمر بها السيل ، فيترك فيها الرمل والحصى الصغيرة ، وأبطح مكة تقع بين مكة ومنى )) ..
وقد أمضيت على ذلك بضعة أشهر ، [[ وبعض الروايات تقول قرابة سنة على هذا الحال ]] ..
___________
قالت أم سلمة : حتى وقف يوما مقابلي ابن عمٍ لي، فبكى لبكائي [[ لأنه بكاء صادق ، من امرأة مفجوعة بولدها وزوجها ]] ..
فقال : إلى متى هذا؟!..
لا بد من مخرج ، ومضى واثق الخطوة إلى قومه .. وقال :
ألا تشفقون على هذه المسكينة ، إلى متى تحرمونها من ولدها وزوجها؟؟!!..
فغلبهم على الأمر حتى سمحوا لي بالخروج ، فلما علم أهل أبي سلمة ، أن أهلي سمحوا لي بالخروج ، ردوا علي ولدي ..
قالت : فوضعت ولدي في حجري ، وأخذت بعيري وجلست عليه .. فقالوا لي :
مهلاً حتى تجدي قافلة وتصحبيها .. فقلت لا ، قد ليٌَن الله قلوبكم اليوم ، فلا أدري ماذا يكون غدا ، أرحل إلى زوجي اليوم قبل الغد ..
قالت : وانطلقت لا أدري أين تقع يثرب؟؟!!.. ولا يرافقني أحد لا من أهلي ، ولا من أهل زوجي ، حتى إذا كنت بالتنعيم ، [[ الذي يعتمر منه الناس ، مسجد السيدة عائشة ، من ذهب حج أو عمرة يعرفه ]] ..
قالت : حتى إذا كنت بالتنعيم ، قابلني {{ عثمان بن أبي طلحة}} .. وسبحان الله ، عثمان هذا ، [[ قُتل أبوه وأخوته الأربعة وعمه يوم غزوة أحد ، وكانوا في صف قريش .. ولم يقتل هو ، ورزقه الله الإسلام بعد ذلك ؛ لأن له سابقة خير ، فمن صنع معروف كافأه الله به ]] ..
قالت : لقيني عثمان بن أبي طلحة ، فقال :
إلى أين يا بنت زاد الركب؟؟..
[[ وأم سلمة اسمها {{ هند بنت زاد الركب }} .. وقد لُقب أبوها بزاد الركب ، لكرمه الزائد على القوافل ، كان إذا خرج في قافلة لا يسمح لأحد أن يأكل من الزاد الذى أحضره معه ، أو ينفق على نفسه أبداً .. فكان مصروف الركب كله والزاد عليه هو ، لذلك سمي زاد الركب ، وهند هذه هى ابنته أم سلمة ]] ..
___________
قال : إلى أين يا بنت زاد الركب؟؟..
قالت : ألحق بزوجي حيث يسكن في يثرب ..
فقال : ألا يصحبك أحد؟
قالت : إلا الله ، [[ أنظروا ، ما أجمل الإيمان ]] ..
فقال : مالي بهذا مترك ..
[[ يعني ما بيصير أتركك ]] .. ليعرف العرب كيف كانت شهامة من قبلنا وأخلاقهم ، مع أنه كان مشركا ..
قال : مالي بهذا مترك ..
قالت : فتقدم وأخذ حبل البعير ، ومشى على رجليه يقود بعيري ، {{ فلا والله .. ما رأيت رجلاً كان أكرم منه في صحبه ، ولا أجَلَّ خلقا }} ..
قالت : كان يمشي بي بالبعير ، حتى إذا رأى وقت الراحة قد وجب .. أجلس البعير عند شجرة ، ثم ابتعد عني حتى أنزل عن البعير ، فإذا نزلت ، رجع وأخذ البعير إلى بعيد ، وربطه في شجرة .. ثم ابتعد عني واضطجع ، وأعطاني ظهره حتى آخذ راحتي .. [[ لأنها هي أيضا تريد أن تضطجع وترتاح ]] ..
قالت : حتى إذا رأى أننا استرحنا وحان وقت الرحيل ، صفق بيده
وقال : يا ابنة زاد الركب ، أقدم لكِ البعير ، [[ يعني استعدي ]] ..
ثم أخذ البعير وقدٌَمه ، [[ هو من يحضر لها البعير ]] ..
قالت : حتى إذا جلست ووضعت ولدي بحجري ، جاء وأنهض البعير ومشى ..
فما زال يصنع بي ذلك حتى أوصلني من مكة إلى يثرب ..
قالت : فلما اقتربنا ورأى نخيل يثرب .. قال :
يا أم سلمة ، إن زوجك في هذه القرية وقد أبلغتك مأمنك .. فانطلقي راشدة ، فترك بعيري ثم وقف ينظر ، حتى دخلت في نخيل قباء .. ثم رجع ماشيًا على قدميه ..
___________
تقول أم سلمة : فلما وصلت ، وعلم أبو سلمة من أوصلني أثنى عليه بخير ..
ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد ، بعد هجرته إلى المدينة ، وعلم بأمرنا وما حدث معنا .. وكانت ما زالت يد الولد مخلوعة ، [[ مخلوعة ليس معناها أنها مقطوعة ، مخلوعة من مفصل الكتف أى متدلية ]] ..
فأمسك صلى الله عليه وسلم يد الصبي ، ووضعها مكانها .. وبل يده بريقه صلى الله عليه وسلم ومسح عليها .. فعادت يد الصبي أفضل مما كانت ..
فكانت تقولُ أمُّ سَلمةَ : ما أعلمُ أهلَ بيتٍ في الإسلامِ أصابهم ما أصاب آلَ أبي سَلمةَ ، وما رأيتُ صاحبًا قَطُّ كان أكرمَ مِن عُثمانَ بنِ طلحةَ ..
___________
ولنا بعض التعليقات على قصَّة هجرة آل أبي سلمة :
أولاً : كانت لغة أم سلمة رضي الله عنها في هذه القصة حزينة للغاية ، ليس فقط لأن الأحداث مأسوية ، ولكن لعاملين رئيسين زادَا من إحساسها بالألم ، أما العامل الأول : فهو أنها كانت عائدة لتوِّها من الحبشة ، وقد رأت هناك حُسن الاستقبال ، ونعمت هي وزوجها بعدل النجاشي رحمه الله ، فكانت المقارنة بين الموقفين صعبة ، خاصة أن العائلة رجعت بمحض إرادتها ، وكان من الممكن أن يستمرُّوا في هجرتهم الآمنة إلى الحبشة ، لكن قدَّر الله وما شاء فعل .. ولا شكَّ أن الذي يحوز النعمة ثم يُسلبها يكون أشدَّ ألمـًا من الذي لم يُعْطَ النعمة أصلاً ، ومن هنا ظهر في كلامها رضي الله عنها الحزن الشديد ..
وأما العامل الثاني : فهو أن الإيذاء هنا يأتي من أقرب الأقرباء ، فبينما يتوقَّع المرء من بعض الناس أن يقفوا معه في أزمته ، أو يساعدوه في حلِّ مشكلته ، إذا هم الذين يتعرَّضون له بالإيذاء ، ويتعاونون على العدوان عليه ..
ثانيًا : أوضحت القصَّة مدى الشقاق الذي حدث في مكة ، نتيجة إسلام بعضهم وبقاء بقية أفراد البيت على الكفر ، فالصراع الذي دار في القصة بين عائلة أم سلمة رضي الله عنها وعائلة زوجها أبي سلمة رضي الله عنه ، هو في الواقع صراع في عائلة واحدة - هي عائلة بني مخزوم - إنشقَّت على نفسها ، فأم سلمة رضي الله عنها هي أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وزوجها أبو سلمة رضي الله عنه هو أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، فأبو أمية - أبو أم سلمة - هو ابن عمِّ عبد الأسد - أبو أبي سلمة - وكان أبو أمية كما ذكرنا سابقا ، من الرجال المرموقين في مكة ، وأصحاب المكانة الرفيعة في بني مخزوم ، وكان واسع الكرم ، حتى إنه كما ذكرنا ، كان يُسَمَّى "بزاد الركب" .. ومع ذلك لم يشفع كلُّ ذلك لأم سلمة رضي الله عنها ، فدار الصراع الأليم الذي أدَّى إلى تفريق الأسرة بهذه الصورة التي رأيناها ، ولا شكَّ أن هذه الفرقة كانت تزيد من حنق الكافرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن الدين الجديد - في منظورهم - كان هو السبب في هذه الفرقة بين أبناء العائلة الواحدة ..
ثالثًا : من الممكن أن يتصوَّر البعض ، أنه ما دام فُرِّق بين أفراد أسرة أبي سلمة رضي الله عنه ، فإنه كان لزامًا عليه أن يبقى في مكة مع أسرته ، ولكن الحق غير ذلك .. فأبو سلمة رضي الله عنه كان سيتعرَّض للإيذاء حتمًا في مكة ، بل وقد يُقْتَل ، فليس له مجير من بني مخزوم ، وقد مات أبو طالب - خاله - الذي كان يُجيره قبل ذلك ، فبقاء أبي سلمة رضي الله عنه يُعَدُّ إهدارًا للطاقة الإسلامية لا طائل من ورائه ، خاصة أن العمل الدعوي في مكة مع أهلها يكاد يكون متوقِّفًا تمامًا ، بينما فرصة الدعوة مفتوحة في يثرب ، وبالتالي يمكن لأبي سلمة رضي الله عنه أن يكون عنصرًا فاعلاً هناك ، خاصة أنه من قدامى المسلمين ، وحصيلته من الإيمان والعلم كبيرة ، هذا كله بالإضافة إلى أنه لم يكن معتادًا أن تتعرَّض النساء من العائلات الكبيرة للإيذاء البدني .. ومن ثَمَّ فإنه ستكون أم سلمة رضي الله عنها في أمان إلى أن يتيسَّر لها أن تهاجر إلى زوجها، وهذا - في الحقيقة - يُعطينا رؤية للطريقة الواقعية التي كان يتعامل بها المسلمون مع الأحداث بعيدًا عن تحكيم العاطفة ، الذي يمكن أن يُؤَدِّيَ إلى عواقب وخيمة ، فلم يكن هناك مانع أن يغادر الرجل وحده البلد - مع كل التداعيات السلبية لهذا الأمر - إذا كانت المصلحة الأعلى للأسرة وللدعوة تتطلَّب ذلك ، وقد كان ذلك بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته ، مما يُعطيه سنداً شرعيًّا مهمًّا ..
رابعًا : رأينا في القصة بعض مظاهر النخوة الجميلة ، وهي أخلاقيات بقيت في بعض رجال الجاهلية ، وذلك على الرغم من الجوِّ القاسي العام الذي كانت تُعاني منه مكة والجزيرة العربية في هذه الأوقات ، وكانت مظاهر النخوة في القصة متمثِّلة في موقفين ، أما الأول فكان لابن عم أم سلمة رضي الله عنها ، ولم يكن على دينها ، ومع ذلك فقد رقَّ قلبه لحالها ، وتوسَّط عند أهل أم سلمة رضي الله عنها ليُعيدوها إلى زوجها بعد فرقة سنة كاملة ، وهذا الرجل الشهم هو أحد رجال بني المغيرة ..
أما الموقف الثاني فكان أعجب!! وكان بطله هو عثمان بن طلحة من بني عبد الدار ، ووجوه العجب في هذا الموقف كثيرة :
أولها أن عثمان بن طلحة ، ليس من ذوي رحم أم سلمة رضي الله عنها حتى يُضَحِّيَ من أجلها .. وثانيًها أنه هو على خلاف عقائدي كبير معها ومع زوجها ، بل هو في معسكر وهما في معسكر معادٍ له .. وثالثًها يتمثل فى أن الجهد الذي بذله ليس جهدَ وساطةٍ أو كلمات ، إنما فرَّغ الرجل من وقته وراحته ما يسع رحلةً طويلة من مكة إلى قباء ، أي ما يقرب من مسيرة خمسمائة كيلو متر! وهذا يعني غياب ثلاثة أسابيع تقريبًا عن مكة ليقطع الطريق ذهابًا وإيابًا ماشيا على قدميه ، مع تعرُّضه لكل مخاطر السفر وحيدًا في الصحراء!!.. ورابعًها ، أن عثمان بن طلحة ، لم ينتظر كلمة شكر واحدة من زوج المرأة ، أو من المسلمين ، إنما أوصلها سالمة ثم قفل راجعًا ببساطة إلى مكة ..
وخامسًها ، التفاني الأخلاقي في رعاية أم سلمة رضي الله عنها أثناء الرحلة ، وإبراز مظاهر العفَّة والاحترام بصورة لفتت نظر أم سلمة رضي الله عنها ، لدرجة أنها علَّقت على ذلك قائلة : "فَوَ اللهِ مَا صَحِبْتُ رجلاً مِنَ الْعَرَبِ قَطُّ ، أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ" ، وكأنها لم تجد هذا كافيًا لمدحه فعادت في نهاية قصتها وقالت : "وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ"!!..
إنها صورٌ من النخوة والشهامة تستقيم بها حياة الناس على ظهر الأرض ، وذلك على الرغم من مظاهر الظلم الفاحشة التي نراها هنا وهناك ، ويكفي لكي نُدرك عظمة هذا الموقف أن نُقارنه بما حدث من قبيلة بني مخزوم ، سواء من أقارب أبي سلمة رضي الله عنه ، أو أقارب زوجته أم سلمة رضي الله عنها ، الذين قبلوا - في بساطة عجيبة - أن ترحل ابنتهم وطفلها بمفردهما إلى يثرب ، في هذه الصحراء القاحلة .. والحمد لله الذي مَنَّ على عثمان بن طلحة بعد ذلك بالإسلام ، فقد صار من رجال وأبطال هذا الدين في العام السابع من الهجرة ، بعد صلح الحديبية ..
___________
لقد كانت هجرة أم سلمة رضي الله عنها بابنها على ذلك ، في أواخر العام الثالث عشر من البعثة ، وأعتقد أنها كانت في شهر ذي القعدة تقريبًا ، لأن زوجها أبا سلمة رضي الله عنه هاجر في أول العام الثالث عشر من البعثة بعد رجوعه من الحبشة ، بعد بيعة العقبة الأولى مباشرة ، وهاجرت هي كما تقول : "حَتَّى أَمْسَى سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا" .. والواقع أن السنة لم تكتمل ، لأن بيعة العقبة الثانية كانت في ذي الحجة من العام الثالث عشر من النبوة ، ولو كانت هجرة أم سلمة رضي الله عنها بعد بيعة العقبة الثانية ، لهاجرت في رفقة الوفد اليثربي ، وما فكَّرت في الهجرة وحيدة ..
وهذا كل ما حدث فى هجرة آل أبي سلمة رضي الله عنهم ..
الحبيب المصطفى« ١٠٤ »
السيرة المحمدية العطرة ..
هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
___________
تحدثنا عن هجرة أبو سلمة وأم سلمة رضى الله عنهما .. وذكرنا صور مما عانته أم سلمه رضى الله عنها ، وقلنا أن هجرتها كانت بعد هجرة زوجها بفترة أقل من العام ، وكانت قبل بيعة العقبة الثانية مباشرة ..
وبعد بيعة العقبة الثانية .. رجعت قريش تنهال على المستضعفين من المسلمين في مكة بالتعذيب ، بعد أن اكتشفوا ، أنه تم عقد اتفاق ومبايعة ، بين الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأهل يثرب [[ المدينة المنورة ]] ..
فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، وقد رأى رؤيا في المنام : أن أصحابه قد هاجروا إلى أرض سبخة [[ والسبخة هي أرض بها نسبة عالية من الملوحة ]] .. بين حرتين ذات نخيل ، [[ النبي رأى رؤيا في المنام ، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ]] ..
فخرج إلى أصحابه مسرورا ،
وجاء فى صحيح البخارى ، عن عائشة رضى الله عنها ، أن النبى قال لأصحابه : قد أٌوريت دار هجرتكم ، أرض سبخة ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان ، لا أرها إلا يثرب فانطلقوا إليها .. (( اللابة أو الحَرٌَة ، أرض ذات حجارة سوداء على مشارف المدينة المنورة بين جبلين ، وتدخل ضمن حرم المدينة )) ..
فأخذ أصحابه ، يهاجرون جماعات وأفراد ، إلى [[ المدينة المنورة ]] ..
___________
والأن نتحدث عن هجرة {{ عمر بن الخطاب رضي الله عنه }} ..
يقول الإمام البخاري ومسلم في الصحيح ، من حديث علي بن أبي طالب أنه قال :
ما هاجر أحد جهارًا نهارًا إلا عمر ، وكان قد أخذ الناس يتسللون ، خَشية أن تمنعهم قريش ، ولقد منعت من قدرت عليه ، إلا عمر ..
يقول علي بن أبي طالب : عندما أراد عمر الهجرة ، تنكّب قوسه وتوشح سيفه ، وأمسك بيده الأسهم ..ثم تخنصر بعنزة [[ أي عصا يكون في رأسها حديدة ]] أى وضعها على خاصرته ..
ثم أتى فى وضح النهار ، وقد ارتفعت الشمس ، وقريش في أنديتها ، وطاف بالبيت سبعة ، طواف متمكن لا يلتفت إلى أحد .. حتى إذا فرغ ، ركع في المقام ركعتين ، صلاة مطمئن لا يلتفت إلى أحد .. ثم وقف واستقبل أندية قريش بوجهه ، واقترب منها واثق الخطوة ، ثم وقف عمر على أندية قريش وقال : شاهت الوجوه [[ يعني قبحها الله ]] ..
شاهت الوجوه ، والله لا يرغم الله إلا هذه المعاطس ، [[ المعاطس أي الأنوف ، يرغمها أي يدسها بالتراب مخزية ]] ..
ثم قال عمر : يا معشر قريش .. إني راحل إلى يثرب [[ أي مهاجر ]] ، فمن أراد منكم أن تثكله أمه ، أو ترمل زوجته ، أو ييتم أولاده ، فليتبعني إلى بطن هذا الوادي ..
يقول علي بن أبي طالب : فو الله ما تحرك قريشي من مجلسه ، ثم قال عمر : يا معشر المستضعفين [[ المسلمين الضعفاء ]] ، من أراد أن يصحبني إلى الهجرة فليتبعنى ..
قال : فما تبعه إلا قوم من المستضعفين ، علمهم وأرشدهم ، ومضى لوجهه ، وما تجرأ قريشى أن يرد أحدا من المستضعفين ..
___________
فكان مع عمر رضي الله عنه ، من المسلمين المستضعفين ، {{ ١٧ مهاجرا والبعض قال ٢٧ }} ..
خرجوا مع عمر ، فهاجر عمر علناً ..
وهنا درس يجب ان نقف عنده ،
كثير الناس تتسائل :
لماذا يهاجر عمر علنا لا يخاف من أحد ، معتمداً على الله؟؟.. ويهاجر النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد سراً ، ويجلس في غار ثور ثلاثة أيام ، فهل كان إيمان عمر ، أكبر من إيمان النبى؟؟..
والجواب : لا طبعاً ، فإيمان النبي صلى الله عليه وسلم ، كان {{ يعم الصحابة جميعاً }} ، وهو الذي كان يمدهم بالإيمان ، وهو خير من توكل على الله ، ولكن دائماً نقول ، كما قال تعالى :
{{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }} ..
فهو الأسوة الحسنة وسيرته ، {{ للتأسي والاقتداء }} ..
فلو هاجر النبي علناً لكن من المستحب ، أو الواجب على جميع المؤمنين ، أن يقتدوا بنبيهم
ويعتمدوا على الله بغير الأخذ بالأسباب ، ويهاجروا علناً ، ولا يهابوا قريش .. وكان هذا لا يناسب الكثير من الصحابة المستضعفين ، وكان سيتسبب فى إلحاق الضرر بهم ..
أما عمر رضي الله عنه ، فليس قدوة ، لم يضع الله عمر أسوة للمؤمنين في حياة رسول الله .. لكنه وضع النبي في هذه المكانة ،
فعمر رضى الله عنه ، تصرفه يمثل نفسه ، ولا يلزم الآخرين الاقتداء به ..
أما النبي فهو {{ مشرع وقدوة }} .. لذا هاجر عمر علناً ، وهاجر صلى الله عليه وسلم سراً ، أخذا بالأسباب والحيطة ، ورفقاً ورحمة بالمستضعفين من أمته ، الذين سيقتدون به ..
جاء رجل من الأعراب ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [[ الأعراب هم البدو ]] .. ووقف عند خيمته ، وأمسك البعير وصاح : يا رسول الله ، أأعقلها أم أتوكل؟؟..
[[ يعني أربط رجل الجمل بالحبل ، ولا أتركها وأتوكل على الله ]] ..
فقال له صلى الله عليه وسلم : {{ إعقلها وتوكل }} .. يعني كلا الأمرين معا ، خذ بالأسباب وتوكل على الله ..
___________
ومن المهم التأكيد هنا ، على أن هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، على هذه الصورة .. لم تكن مخالفة شرعية ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُنكر عليه هذه الطريقة في الهجرة ، وكانت هذه الطريقة وسيلة من وسائل إرهاب أهل الباطل وردعهم ، وقام بها الذي يملك من البأس والقدرة ما يُرهب به أعداء الله .. وإرهاب أعداء الله أمر مطلوب شرعًا ، ونتائجه عظيمة على الدعوة ..
فالطريقة التي هاجر بها سيدنا عمر حققت مغزاها ، فقد أوقعت الرهبة فعلاً في قلوب الكافرين ، فلم يخرج خلفَ عمر رضي الله عنه أحدٌ ، بل أكثر من ذلك لقد هاجر معه رضي الله عنه ، حوالى عشرون من ضعفاء الصحابة رضي الله عنهم ، وما استطاع أحد من المشركين أن يقترب منهم ..
وليس أدل علي مشروعية هجرة عمر ، من تعليق الصحابي الجليل عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ، علي إسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه ، ثم هجرته وإمارته بالقول : "إنَّ إسْلاَمَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا ، وَإِنَّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا ، وَإِنَّ إمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً" .. رضى الله عنهم وأرضاهم ،،،
__________
ولأمانة القول وصدق الحديث .. أجد لزاما علىٌ ، أن أذكر ما جاء على لسان الكثير من العلماء ورواة السيرة ، حيث قالوا :
إن عمر ابن الخطاب أُوذِى كثيرا من قريش بعد إسلامه ، حتى قيل فيما بعد ، أن العاص بن وائل ((من زعماء قريش)) ، كان يجيره من أذى قريش .. وأنه حينما شرع فى الهجرة ، هاجر سرًا.. حيث قيل :
أن الصحيح في خبر هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ما رواه ابن إسحاق .. قال :
" ثُمَّ خَرَجَ عُمر بْنُ الْخَطَّابِ ، وعَيَّاش بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ ، حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ ، فَحَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، قَالَ : اتعَدْتُّ ، لَمَّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إلَى الْمَدِينَةِ ، أَنَا وعَيَّاش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ التَّناضِبَ مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ ، فَوْقَ سَرِف وَقُلْنَا : أَيُّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبِس فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ .. قَالَ : فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التَّناضِب ، وحُبس عنا هشام ، وفُتن ، فافتتن ..
شرح المعانى :
اتعدت : اتعد القوم أى تواعدوا فيما بينهم ..
أضاة بنى غفار : الأضاة أرض زراعية تحتجز الماء فيكون فيها الطين ..
التناضب : شجيرات فى هذه الأضاة ..
فوق سرف : أى فوق وادى سرف (اسم الوادى) ، والوادى أرض منخفضة إنخفاض طبيعى عن سطح الأرض ..
فتن : تحول عن رأيه ومال عنه ..
افتتن : معناها استهواه الأمر ..
ومعنى الحديث : أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، عندما شرع فى الهجرة .. اتفق مع اثنان من الرجال ، وتواعدوا ثلاثتهم عند الشجيرات فى أرض أضاة بنى غفار ، فوق وادى سرف ، (( على مسافة عشرة أميال من مكة )) .. واتفقوا أن يكون اللقاء سرا فى هذا المكان ، ولو تأخر أى منهم ، سيمضى الرجلان الآخران فى طريقهما إلى يثرب .. فوصل عمر وعياش فى الموعد ، ولم يصل هشام الذى غيٌَر رأيه ، وقرٌر ألا يهاجر ، (( تحدث معه أحد من قريش فحاد عن رأيه واستهواه الأمر )) ، فانطلق عمر وعياش فى طريقهما ، مهاجرين إلى يثرب ..
والآن .. دعونا نلقى نظرة على يثرب [[ المدينة المنورة ]] .. نستطلع أمر المسلمين ، وما يحدث هناك فى هذا التوقيت ، ثم نعود إلى مكة وهجرة الصحابة .. ثم هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ،،،
الحبيب المصطفى « ١٠٥ »
السيرة المحمدية العطرة .. قصةإسلام الصحابى الجليل
"عمرو بن الجموح"
__________
أخذ الإسلام ينتشر في {{ المدينة المنورة }} .. وبقي بعض القوم من سادة المدينة ، لم يدخلوا فى الإسلام بعد ، وكانت قد بدأت هجرة الصحابة من مكة إلى المدينة ..
وكان سيد من سادة الأنصار ، اسمه : {{عمرو بن الجموح }} ، وسيأتي له مواقف معنا بالسيرة ، ونعرف منزلة هذا {الصحابي الجليل رضي الله عنه}
عمرو بن الجموح ، هو سيد من سادة بني سلمة ، وكان موقعهم بين قباء والمدينة ..
( قرية قباء أحد أحياء المدينة المنورة ، وتقع جنوبي المدينة المنورة في السعودية .. وقد كانت من قبل قرية مستقلة على طريق القوافل القادمة من مكة إلى المدينة ، ثم امتد العمران إليها فاتصلت ببقية أنحاء المدينة .. تتميز قباء بكثرة المياه الجوفية وخصوبة تربتها ، لذا تكثر فيها مزارع النخيل والعنب وا…
[٨:٥١ م، ٢٠٢٢/١١/١] عادل الجوهري: ✍️وبينما بلال يؤذن للظهر، كان أبو محذورة المشرك يؤذن لغنمه بصوته الجميل ليستهزئ بالمسلمين.
فأمر النبي ﷺ علياً والزبير أن يحضروه، فطوقوه وأتوا به للنبي ﷺ .
فقال النبي ﷺ لأبي محذورة ومن معه وكانوا يرعون غنمهم:
من منكم الذي أذن أذان المسلمين؟!
فخافوا جميعهم ولم يتكلموا،
فأمرهم النبي ﷺ جميعاً أن يؤذن كل واحد منهم بمفرده
حتي تبين له صاحب الصوت الجميل الذي أذن لغنمه.
فسأله النبي ﷺ عن إسمه،
فقال: أنا إسمي أبو محذورة.
فقال النبي: أنت من أذنت بهذا الصوت الجميل...؟!
فسر بذلك أبو محذورة الذي كان مشركاً لأن بالكلام الطيب تمتلك القلوب، والنفس مفطورة على المدح.
(انظر إلى رحمة سيدنا النبي ﷺ عندما جبر خاطر المشرك صاحب الصوت الجميل ليدخل الإسلام).
فوضع النبي ﷺ الكريم الرحيم حتى بالكافرين، يده الشريفة على رأس أبي محذورة ..
ونزع عمامته ومسح بيده الشريفة على رأسه داعياً لأبي محذورة بقوله:
اللهم بارك فيه، وفي ذريته، وفي صوته، واهده للإسلام
فخرجت منه الشهادة سريعة مدوية أمام أصحابه رعاة الغنم ..
وعينه النبي مؤذناً لأهل مكة المكرمة، وهذا شرف لا يعلوه شرف.
فأقسم أبو محذورة من يومها ألا يحلق شعر رأسه الذي وضع النبي ﷺ يده الشريفة عليه إلى أن مات.
وظلت ذرية أبي محذورة يؤذنون قرابة ال ٣٠٠ عام.
بفضل دعاء النبي ﷺ له ولذريته، فقد كانوا أصحاب حنجرة ذهبية ربانية.
سلام على مؤذن مكة أبو محذورة في الخالدين.
...............................................................................................................................................................
الحبيب المصطفى « ١٠٦ »
"السيرة المحمدية العطرة"
هجرة الصحابي الجليل
(صهيب بن سنان الرومي)
___________
حدث آخر نقف عنده ، وكان بين يدي هجرة النبى صلى الله عليه وسلم ، سأختم به هجرة الصحابة ..
نحن لم نتحدث بعد عن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن دعونا نستبق الأحداث قليلا ، لكى تكتمل الصورة ، ثم نتفرغ لهجرة النبى صلى الله عليه وسلم ..
___________
لما خرج النبي في هجرته مع أبي بكر الصديق ، كان في مكة رجل اسمه {{صهيب الرومي}} ..
وصهيب الرومي ، صحابي جليل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، أسلم مبكراً في دار الأرقم ، هو وعمار بن ياسر فى يوم واحد ، بعد بضعة وثلاثين رجلا .. وجهر بإسلامه ، وكان من المستضعفين ، فلقي في ذلك تعذيبا من قريش ، وحارب إلى جوار النبي في كل غزواته وحروبه .. وسمي بصهيب الرومي ، لأن قوات من جيش الروم سبوه صغيراً ، وكان والده حاكم الأبلة ، «بلدة بالعراق» ، فقد ولاه عليها ملك الفرس كسرى ، فهو من العرب الذين نزحوا إلى العراق قبل الإسلام بعهد طويل ، فعاش صهيب طفولة ناعمة سعيدة ، إلى أن سبي بهجوم رومي على بلدته ، وقضى بقية طفولته وصدر شبابه في بلاد الروم ، وأخذ لسانهم وتكلم لهجتهم ، وباعه تجار الرقيق لعبد الله بن جدعان في مكة ، وأعجب سيده الجديد بذكائه ونشاطه وإخلاصه ، ونتيجة لذلك ، أعتقه وحرره وجعله شريكا له فى تجارته .. فأخذ يتاجر معه حتى أصبح لديه المال الكثير .. وأقام صهيب بمكة إلى أن مات عبد الله ابن جدعان ، وبُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فأسلم ..
___________
روى لنا أصحاب السنن واللفظ للبيهقي والإمام أحمد ، كلهم بسنده عن صهيب قال :
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج معه أبو بكر ، وكنت قد هممت أن أرافقهما ، [[ أي أراد أن يلحق بالنبي فى الطريق ليكسب شرف الصحبة ]] ..
والآن ، دعونا نترك نص الحديث ونأخذ ما حدث بلغتنا نحن :
أراد صهيب الرومي أن يكون الصاحب الثاني لرسول الله في الهجرة ، وسمع من قريش أن النبي قد هاجر ، وأعلنت قريش عن جائزة كبرى مقدارها :
[[ ١٠٠ ناقة من حمر النعم ، لمن يرد محمد علينا ، حياً كان أو ميتاً .. فإن رد الاثنين ، ((الرسول وأبا بكر الصديق)) .. فله بكل واحد ١٠٠ ناقة .. الناقة الواحدة من حمر النعم في أيامنا هذه ، تعدل جائزة كبرى .. والدليل على ذلك ، كان مما قال صلى الله عليه وسلم : {{ فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ، خير لك من أن يكون لك حمر النَّعَم }} ..
لما سمعت قريش عن الجائزة ، انتشرت قريش في كل مكان ، لا حباً في أن يردوا النبى وصاحبه ، ولكن طمعا فى الجائزة ..
فلما سمع صهيب بالخبر ، أراد أن يلحق النبي بطريق الهجرة ، وأن يكون مدافعا عنه إذا تعرض لأى خطر .. وصهيب كانت تعترف له مكة كلها ، بأنه أرماهم فيها ..
[[ يعني كان إذا شد قوسه ، ووضع السهم فيه لا يخطئ سهمه ولو كان في خاتم ، يعني لو أراد أن يدخل السهم من حلقة خاتم يدخله .. كان بارعا جداً فى الرماية ، وتشهد له قريش كلها بذلك ]] ..
قال : فهممت أن ألحق بالنبي ..
فأمسكني فتيان قريش ، [[ والكثرة تغلب الشجاعة ]] وحبسوني أيام عندهم يتناوبون حراستي .. فقمت ليلة أتظاهر أني مريض ، فقال بعضهم لبعض : لقد شغله اليوم بطنه (أى وجع بطنه) ، واطمأنوا أنه لا يقدر على السفر ، فناموا ..
___________
قال صهيب : ولم يكن بي شيء ، ولكن تصنعت ذلك لعلهم يطلقون سراحي ، فلما ناموا تسللت وركبت بعيري ، وخرجت ولم أتمكن من أن آخذ معي مالي فتركته تحت أسكفه [[ أي عتبة الدار ]] .. وشعر بي القوم ، فلحق بي الرجال عند أطراف مكة ،
ونادوني من بعيد :
انتظر يا صهيب .. لقد جئتنا صعلوكا حقيرا لا مال لك ، وعملت عندنا في مكة بالتجارة ، حتى أصبحت من أكثرنا مالاً ..
[[ وكانوا يعرفون أن صهيب قد أصبح من أثرياء مكة ، ويملك من الذهب الكثير ]] ..
قالوا : ثم ندعك تذهب بالمال إلى يثرب ، لا واللات لا يكون هذا أبدا ..
قال صهيب : فعلمت مطمع القوم ، وأنهم يطاردونى من أجل ما أملك من المال ..
فقلت لهم : لقد اتضح الأمر ، وناديتهم من بعد :
يا أهل مكة .. كلكم تعلمون بأني أرماكم ، فو الله الذي لا إله إلا هو ، لا أترك سهم في كنانتي إلا وضعته في قلب رجل منكم .. [[ وكان معه الكثير ]] ، فإن أردتم مالي دللتكم عليه .. أما أن تحولوا بيني وبين الهجرة فالموت دون ذلك ، فإن انتهت سهامي وبقي منكم أحد ، أخذت سيفي وما زلت أضربكم حتى لا يبقى بيدي إلا قائمه [[ يعني حتى ينكسر السيف ]] ..
كل هذا ، من أجل أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبإخوانه المؤمنين ..
فقالوا له : قد رضينا ، دلنا على مالك ..
فقال لهم : هو في مكان كذا وكذا ، تحت الأسكفة ، [[ يعني اخلعوا عتبة الباب تجدون المال مدفون تحتها ]] ، ثم قال لهم : اذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين (( طاقمين من الملابس )) ..
وكان صادقا ، وهم يعلمون يقينا أنه صادق ، لأن من دخل دين محمد لا يكذب ..
أسمعتم يا أمة محمد :
قريش كلها كانت تعلم ، أن من تبع دين محمد لا يكذب أبدا ، لأن الإيمان والكذب ضدان لا يجتمعان .. قال تعالى :
{ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ }
فالكذب من أول الكبائر ، قال تعالى : {{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }} صدق الله العظيم ،،
فالمؤمن لا يكون كذابا أبدا ..
________
فعلموا أنه صادق ، فتركوه ورجعوا .. قال :
وكان ذهبا كثيرا ، فقلت : {{ الحمد لله الذي صرفهم عني بحطام دنيا }} ..
ثم مضيت ألحق برسول الله ، وكان صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى قباء ..
قال : فلما اقتربت ، استقبلني رسول الله وهو يضحك ويقول : بخٍ بخٍ ، ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى ، ثلاث مرات ..
[[ كانت كنية صهيب ، أبا يحيى ]] .. فقلت :
بأبي وأمي يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لم يسبقني إليك أحد .. [[ كى يخبرك بما كان بينى وبين قريش ]] ..
ما أخبرك إلا جبريل عليه السلام .. قال : نعم ،
يقول : فبكيت وقلت ، الحمد لله الذى جعل جبريل يذكرني ..
فنزل جبريل من فوق سبع سماوات ، بأمر من الله ، وصهيب مازال واقفاً امام النبي صلى الله عليه وسلم ..
ونزل فيه قرآن يتلى إلى قيام الساعة :
{{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد }} صدق الله العظيم ،، ..
للذين لا يعرفون (( كلمة يشرى معناها يبيع ، وهى عكس معنى كلمة يشترى )) ..
قال عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ في تفسيره لقول الله تعالى من سورة البقرة : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } : " نزلت في صهيب بن سنان وأصحابه ، إشترى نفسه بماله من أهل مكة ..
لأنه ألقى من قلبه حطام الدنيا وهو المال ، فيا عبيد الدرهم والدينار ، إجعلوا الدنيا في أيديكم لا في قلوبكم ، يسهل عليكم الخلاص منها ..
وقد سئل الإمام علي بن أبي طالب عن الدنيا للمؤمن ، فقال : نعم المال الصالح للرجل الصالح ، أخرجها من قلبك وضعها في يدك فإنها لا تضرك .. أما إذا سكنت بالقلب ، فمثلها مثل الماء للسفينة .. السفينة لا تجرى على الأرض ، بل تجرى على الماء ..
ولكن إذا دخل الماء للسفينة (إلى قلبها وداخلها) .. كان سبب هلاكها وغرقها ، فالمال للمؤمن كالماء للسفينة ، إذا كان تحتها وحولها فهو وسيلة لكى تتحرك ،
أما إذا دخل الماء فى قلبها ، أغرقها ..
___________
فهذه هى التجارة الرابحة .. لذلك عنما رآه الرسول عليه الصلاة والسلام ، كان أول ما قال له : ربح البيع أبا يحيى .. ومن هنا نأخذ العبرة :
لقد حدَّث صهيبٌ رضي الله عنه نفسه قائلاً : ما قيمة المال ولو كان كل مال الدنيا ، إن أنا خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو تخلَّفْتُ عن صحبة المؤمنين؟!.. لقد كان الثمن الذي دفعه صهيب رضي الله عنه - في رأيه - زهيدًا جدًّا بالقياس إلى ما سيُحَصِّله ، لهذا لم يكن اختبارًا صعبًا على نفسه رضي الله عنه ، فقد قرَّر أن يشتري الجنَّة منذ زمن ، وكلَّما مرَّ عليه الوقت ازداد إصرارًا على قراره ، لهذا تنازل التاجر صهيب رضي الله عنه عن كل ماله في لحظة واحدة دون تردُّد!!..
هكذا في بساطة ، ترك صهيب رضي الله عنه كل ثروته ، وكل تعب السنين السابقة!!!.. فكانت تلك حقًّا هي التجارة الرابحة ، ولهذا عندما عَلِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف ، جاء تعليقه عليه متوافقًا مع هذا المعنى حيث قال : "رَبِحَ صُهَيْبٌ رَبِحَ صُهَيْبٌ" .. وعندما رأى صهيبًا رضي الله عنه في المدينة كرَّر المعنى نفسه قائلاً: "يَا أَبَا يَحْيَى ، رَبِحَ الْبَيْعُ" ..
بل إن صهيب الرومي رضي الله عنه ، عَبَّر عن صدق إيمانه عندما رأيناه يُحَفِّز المشركين على قبول أخذ ماله كله ، وذلك عندما هدَّدهم بالرمي ، وخوَّفهم من بأسه في القتال ، وكأنه بذلك لا يجعل أمامهم إلا خيارًا واحدًا هو أخذ المال ، بل أكثر من ذلك فقد دلَّهم على حُلَّتين كانتا له عند أهل مكة ، فكأنَّه لم يكتفِ بشراء نفسه بالمال ، بل فعل ذلك أيضا بالثياب!!.. وهذا كله دلالة على قمَّة إخلاصه وإيمانه ، مما يُفَسِّر لنا تعليق رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما فعله صهيب رضي الله عنه ..
___________
{{ ألا إن سلعة الله غالية }} ..
هذه أحداث أحببت أن أذكرها بين يدي هجرته صلى الله عليه وسلم .. والآن سنفتتح هجرته وبكل تفاصيلها ، لأن هجرته كانت أكثر ما جاء بالسيرة ، من العبر والمواعظ ، وسنقف عند كل حدث بالتفصيل إن شاء الله ..
الحبيب المصطفى « ١٠٧ »
السيرة المحمدية العطرة .. (( التجهيز للهجرة ، خوف قريش من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ))
___________
كما ذكرنا من قبل ، وبعدما علم النبى عليه الصلاة والسلام ، مكان هجرته ، وبايع الأنصار على النصرة والتأييد ، واطمأنت نفسه الشريفة على وجود بلد آمن يستطيع فيه هو وأصحابه - رضي الله عنهم - عبادة الله ودعوة الناس إلى عبادته وتوحيده ، وعند ذلك ، أذن صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه بالهجرة إلى يثرب ، (سميت المدينة المنورة فيما بعد ؛ لأن كلمة يثرب تعني التفرق )
والهجرة فُرضت على الأنبياء والمُرسلين ، لضمان نشر الدعوة إلى الله ، وحمايتها من بطش الظالمين .. فالنبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن أول من هاجر من وطنه .. بل كان للأنبياء من قبل هجرات ، كهجرة نوح ، وإبراهيم ، وموسى عليهم السلام ، فالهجرة مطلب دعوي تقتضيه طبيعة النبوة ونشر الرسالة ..
وبالنظر إلى الوضع فى مكة خلال هذه الفترة وما سبقها ، والمعاناة التى سببتها قريش للنبى وأصحابه ، مع الوضع فى الاعتبار ضرورة البدء فى العمل على بناء الدولة الإسلامية ، مما يتطلب وجود أمَّة إسلاميَّة متماسكة ، وأرض تكون مركزًا رئيسا لها .. فكانت المدينة المنوَّرة هي الأنسب والأصلح لذلك ، لاستقرار الوضع فيها ، وتشابُه اللُّغة والتَّقاليد ، بالإضافة إلى أن الجوُّ العامُّ فيها كان متقبِّلًا ومحبًّا للإسلام ، وكان ذلك واضحًا في استقبال الأنصار لهذا الدين ولكل من أتى مهاجرًا ، وفي استعداد للبذل والتَّضحية في سبيل الله .. وقد هيّأت هذه الأرض وهذه الرحلة المسلمين لظروفٍ أشد ، ولتكاليف أكثر ، يقوم عليها مشروع بناء الأُمة الإسلامية ..
___________
هاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :
هاجر حمزة أسد الله وأسد رسوله ..
وهاجر عمر بن الخطاب الفاروق المؤيد بالحق من فوق سبع سماوات ..
وهاجر الرجال ، الذين كان من الممكن أن يعتمد عليهم النبي لحمايته ، ولم يؤخر منهم أحد ..
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، بعد أصحابه من المهاجرين ، ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين ، إلا من حبس أو فتن من المستضعفين .. ومن أصحابه المقربين : علي بن أبي طالب ، وأبو بكر بن أبي قحافة (الصديق) ، رضي الله عنهما .. وكان بقاء الصديق بإذن من رسول الله ، فكان أبوبكر عندما جاء يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : على رسلك يا أبا بكر ( أى تأنى ولا تتعجل ) ، فإنى أرجو أن يؤذن لى .. ففهم أبو بكر الرسالة ، وهى أن النبى صلى الله عليه وسلم ، يريد بقاءه للصحبة ، وفى رواية أخرى يقول له النبى : (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً ، فيطمع أبوبكر أن يكون هو صاحبه)
___________
وقد كان هذا تكريما لأبي بكر ، لكي ينال شرف الصحبة ..
قال تعالى :
{{ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا }} صدق الله العظيم ..
فنال أبو بكر ، شرف المعية مع الله ورسوله (( المعية أى الرفقة والصحبة )) ..
ذلك لنعلم قدر أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وللأسف هناك بعض التقصير من المسلمين في تبيان منزلة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ..
أبو بكر الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليبين منزلته لهذه الأمة :
ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ، ما خلا أبا بكر .. [[ أى كل من قدٌَم لنا معروفا ، استطعنا مكافأته وزيادة على قدر معروفه ، إلا أبا بكر ، فضله ومعروفه عظيم ]] ..
فإن له عندنا يدا ، يكافئه الله بها يوم القيامة ..
[[ أى مهما فعلنا لنكافئ أبا بكر ، لا نستطيع ، فلا يستطيع مكافأته إلا الله ]] ..
رضي الله عنه وأرضاه ..
___________
{{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا }} ..
وكأنها إشارة من الله بنص قرآني ، لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أن أبا بكر هو الخليفة بعد رسول الله ..
لما قال النبى لأبى بكر : على رسلك أبا بكر فإني أرجو أن يؤذن لي .. قال أبو بكر :
بأبي أنت وأمي أترجو ذلك؟؟..
قال : نعم
قال : إذا الصحبة ..
فأشار إليه النبي برأسه ، بما يعنى نعم ..
فحبس نفسه عن الهجرة ، لكي يصحب النبي صلى الله عليه وسلم ..
ومازال النبي ينتظر .. [[ كان من الممكن أن يأذن الله له قبل أن تشتعل الأمور في مكة .. ولكن لو حدث ذلك ، لما كانت الهجرة درسا لكل المسلمين أبدا ، ولكن أنظروا كيف دبر الله له ، لتكون أعظم درس في حياة المسلمين ]] ..
وكما قلنا ، هاجر أصحابه فلم يبقى سوى أبي بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب .
وكان علي رضي الله عنه ، فتى عمره وقت الهجرة ، يقارب {{ ٢٢ عاما }} ..
وأبو بكر {{ ٥١ عاما }} ..
وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم {{ ٥٣ عاما }} ..
وبقى أيضا بمكة ، عائلة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعائلة أبي بكر .. وكان ينتظر صلى الله عليه وسلم ، أن يطمئن على هجرة كل المسلمين ، ثم يهاجر بعد ذلك ..
___________
علمت قريش أن أصحاب النبى ، قد هاجروا ، وأن يثرب أصبحت دار إسلام ، وكل أهل المدينة ينتظرون قدوم النبي إليها .. فجن جنونهم ..
لماذا جن جنون قريش؟!!..
جن جنون قريش لسببين ..
السبب الأول :
لأن هجرته أمر خطير جدا ؛ لأنه لو هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب ، فهذا يعني : [[ بداية دولة إسلامية في المدينة ]] .. وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا أصبح لديه دولة إسلامية ، لن يترك مكة تحت حكم قريش ..
والسبب الثاني :
قريش تعلم أن المدينة موقعها استراتيجي ، ذلك ؛ لأن المدينة {{ تقع بين مكة والشام }} ..
وهو طريق تجارة قريش ، وتجارة قريش هي مصدر أموالها ، وقريش كل قوٌتها بالمال الذى يأتي من تجارتها ، فإذا قطع عليهم أهل يثرب الطريق على تجارتهم ، ضاعت قريش كلها ..
فقامت العرب وللمرة الأولى في تاريخ البشرية ، بعقد {{ مؤتمر }} .. فكان أول مؤتمر يعقد للعرب {{ تحت رعاية إبليس }} ..
يتبع بإذن الله ..
الأنوار المحمدية
صلى الله عليه وسلم
[١٠:٥١ م، ٢٠٢٢/١١/٣] عادل الجوهري: الواقعه حصلت عام 1910 المكان بيروت
شخص يمشي بالسوق و لسبب ما شتم رسول الله محمد صل الله عليه وسلم فسمعه احد الماره فما كان منه الا ودخل دكانا يبيع السكاكين وسحب سكينا وضرب بها ذلك الرجل فارداه قتيلا وبعد مضي عامين وصلت القضيه الى محكمة جنايات بيروت
المتهم بالقفص
الجلسه علنيه والقاعه مكتظه بالناس
القاضي للمتهم لماذا قتلت الرجل؟
المتهم ياسيدي سمعته يشتم رسول الله وانني اعشق رسول الله وفقدت اعصابي ولا اعرف كيف تصرفت هكذا
القاضي بعد المداوله
حكمتك المحكمه بالاشغال15سنه لارتكابك جناية القتل قصدا
ولاسقاط الحق الشخصي تخفيض العقوبه الى النصف
وللاسباب المخففه التقديريه التي تراها المحكمة الاكتفاء بمدة توقيفك . انتهى القرار
وتابع القاضي ياشرطي فك قيد المحكوم واطلق سراحه وينزل القاضي من قوس المحكمه ويقترب من المحكوم يا ابني بأي يد قتلت من شتم حبيبنا رسول الله؟
المحكوم بيدي اليمنى
القاضي يا ابني مد يدك فمد المحكوم يده
فقبلها القاضي وهو يبكي
وبكى كل من كان بالقاعه
وكتبت عدلية بيروت انذاك الى وزير العدل ان رئيس المحكمه يقبل يد القاتل فصدر قرارايقضي بنقل القاضي الى المدينه المنوره وتحقق حلم القاضي المنقول واستجاب الله دعوته التي كان يدعوا بها(اللهم اجعل اخر ايامي ان اجاور نبيك في مدينته )
هل تعلمون من هو القاضي انه القاضي يوسف النبهان وله مؤلفات بمدح رسول الله.
وهو لبناني الاصل ومدفون في مقبرة الباشوره في بيروت
رحمه الله وحشره وحشرنا واياكم مع سيد الخلق محمد صل الله عليه وسلم 💫💜
[١٠:٥١ م، ٢٠٢٢/١١/٣] عادل الجوهري: الحبيب المصطفى « ١٠٨ »
السيرة المحمدية العطرة .. ( التجهيز للهجرة ، أول مؤتمر للعرب كان تحت رعاية إبليس )
___________
لما سمعت قريش باقتراب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ليثرب جُن جنونها ، فقررت قتل النبي صلى الله عليه وسلم ..
سؤال نجيب عليه قبل أن نمضي بالحديث عن مؤتمر قريش :
لماذا قررت قريش أن تتخلص من النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل هجرته بيوم واحد فقط ، ولم تفعل قبل ذلك؟؟..
فقد بقي النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ١٣ سنة يدعو إلى الإسلام .. لماذا لم يقتلوه طوال تلك الأعوام الثلاثة عشر؟؟..
الجواب :
لأن كل قبيلة من قبائل مكة ، كانت تخشى وتخاف من قبيلة {{ بني عبد مناف }} ، وهي قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم .. وكانت قبيلة عبد مناف ، [[ أقوى بطون قريش ، ولن تسكت عن الأخذ بالثأر ]] ..
والآن قرروا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فماذا استجد بالموضوع؟؟.. …
الحبيب المصطفى « ١٠٩ »
السيرة المحمدية العطرة .. ( تجهيزات النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة )
جاء جبريل إلى النبى وقت الظهر ، فأخبره بتفاصيل المؤامرة ، وطلب منه أن يكون الخروج للهجرة عند منتصف الليل ..
ولئن كان كشف المخطط الإجرامي أمرًا ربانيًّا بحتًا ، لم يتدخَّل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن تخطيط عملية الهجرة ذاتها قد تُركت له بشكل كامل ، لأن الوحي ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكر القوم ، وأمر الجريمة التي يعزمون على القيام بها ، وذكر له توقيتها ، وأمره جبريل بالخروج وألا يبيت فى مضجعه الذى يبيت فيه هذه الليلة ، لكنه لم يذكر له تفاصيل ما ينبغي أن يفعله لكي تنجح مهمَّته صلى الله عليه وسلم في الهجرة من مكة إلى المدينة ..
___________
ولقد كان أول ما سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ، قبل بداية هجرته بفترة ، هو مَنْ سيصحبه في هذه الرحلة الطويلة؟!.. فعَنْ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ :
"مَنْ يُهَاجِرُ مَعِي؟.. قَالَ :صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق" .. وهنا يتضح لنا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّم الأمة كلها ، أن الخطوات الناجحة تحتاج دومًا إلى رِفقة وإلى أصحاب ، وأنه وإن كان الرسول العظيم ، والرجل المؤَيَّد بالوحي فإنه يحتاج في سفره ورحلته إلى صاحب ، فكان حريصًا دومًا على الصحبة ، في مكة والمدينة وفي السفر والحضر ، وفي المسجد والسوق ، وفي كل موطن من مواطن حركته وحياته صلى الله عليه وسلم ، ولهذا جاء تدبير وترتيب كل خطوات الهجرة ، مشترَكًا بين الصاحبين العظيمين ، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه ..
___________
لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني رسول الله وسوف يرعاني الله ويحفظني .. بل أخذ هو وصاحبه بكل الأسباب الممكنة ، لإنجاح عملية الهجرة الخطرة ، خاصة أن هذه الهجرة تعترضها عدَّة مشكلات ، منها أنه صلى الله عليه وسلم ، بعد أن أعلمه جبريل بموعد خروجه للهجرة ، يُريد أن يذهب للصديق رضي الله عنه ليُخبره بأمر الهجرة ، ولكن دون أن يراه أحد ، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم إن كان الصديق رضي الله عنه جاهزًا لهذه الهجرة المفاجئة ، التي ستكون بعد ساعات فقط أم لا ؟. ومنها أن الكفار سيأتون بعد قليل ، لحصار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلو اكتشفوا هجرته فسيتبعونه خارج مكة ، ولو خرجوا خلفه صلى الله عليه وسلم مباشرة فسيكون احتمال اللحاق به كبيرًا ، فكيف يُؤَجِّل رسول الله صلى الله عليه وسلم حركة مطاردة المشركين له؟..
هذا ما كان يدور فى رأسه ويستحوذ على تفكيره صلى الله عليه وسلم ..
فقام صلى الله عليه وسلم وتقنع بثوب .. [[ التقنع هو وضع الثوب على الرأس والالتفاف به ، أولاً من شدة الحر ، وثانياً للتخفي وأخذه بالأسباب صلى الله عليه وسلم ]] ..
وقيل عن بعض السلف الصالح :
إن التقنع هو خلوة صغرى بين العبد وربه ، بمعنى عندما تغطي رأسك يصفو فكرك فإذا ناجيت الله تشعر أنك مع الله وحدك ..
[[ وقد أكرم الله المرأة المحتشمة بهذه الميزة دون سائر البشر ، فالتي تغطي جسدها كاملا ، وتسدل النقاب على وجهها بغية مرضاة الله عز وجل ، تشعر بقرب الله منها ، وتجلياته عليها بالرضا والرحمة ، وتكون في قمة سعادتها ؛ لأنها تخلو مع الله وتشعر بقربه ، وينظر الناس إليها باستغراب ، كيف هى تتحمل هذا الحر؟؟.. ولكن الذي بينها وبين الله ، لا يعلمه إلا الله .. حتى في قبرها لها خصوصية عند الله .. كل الناس تخاف من ظلمة القبر ونزوله ، إلا هي ، فإذا نزلت فى قبرها ، كساها الله نوراً يصل لعنان السماء ، حباً من الله لها وكرما ، لذلك نرى بعض المسلمات الصادقات تقول:سعادتي في حجابي]
___________
قام صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوب ، واتجه إلى دار أبي بكر الصديق ليخبره .
وكما أخرج البخاري في صحيحه بسنده ، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي عليه يوم إلا يغشانا [[ أي يأتينا في دار أبي بكر الصديق ]] ، إما بكرة وإما عشية [[ أى إما صباحا ، وإما مساء ]] .. ((وله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر أهل ، وهي زوجته عائشة ، التى تزوجها ولكن لم يدخل بها)) ..
قالت : حتى إذا كان اليوم الذي أُذِنَ فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، أتانا صلى الله عليه وسلم بالهاجرة ، في ساعة كان لا يأتي فيها ، [[ الهاجرة هى وقت الظهر والحر الشديد ]] ..
قالت : فلما رآه أبو بكر ، قال : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ،
ما جاء بك بهذه الساعة إلا لأمر حدث؟؟ ، [[ أمر مهم ]] ..
قالت : فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله على السرير ، وقال له صلى الله عليه وسلم :
أخرج عني من عندك [[ أي أَخرِج من عندك بالدار ، أريدك على انفراد حتى أحدٌِثك سرا ]] ..
فقال أبو بكر : فداك أبي وأمي ، إنما هم إلا أهلك [[ يعني زوجتك عائشة وأختها أسماء ]] ..
ما الخبر؟؟..
فقال : إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة ..
فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله؟؟..
فقال له النبي : نعم
تقول عائشة : فجهش أبو بكر بالبكاء ، فلا والله ما علمت أن أحد يبكي من الفرح ، قبل أن رأيت أبا بكر يبكي يومها ..
___________
وكان أبو بكر رضي الله عنه ، عندما أراد الهجرة ، وقال له النبي (كما ذكرنا من قبل) ، لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً ..
أخذ يخطط ويستعد للهجرة ،
فذهب واشترى راحلتين ((الراحلة هى الناقة)) ، وجعل الراحلتين عند رجل من المشركين ليرعاهما ، وهو {{ عبد الله بن أريقط }} ، لأنه لو أبقى الراحلتين عنده ، كان سيلفت الانتباه ..
ثم قال أبو بكر : يا نبي الله ، إن هاتين راحلتان ، قد كنت أعددتهما لهذا اليوم خذ واحدة منهما ، فقال صلى الله عليه وسلم : ولكن بثمنها يا أبا بكر ..
فقال : هي لك ..
قال : بالثمن الذي اشتريتها به ..
قال : أبو بكر نعم رضيت ..
فقال له النبي : وأنا قبلت ، كم ثمنها يا ابا بكر؟؟..
قال له : {{ ٤٠٠ درهم }} ..
فقال له : هو لك في ذمتي ..
هل تعلمون أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ، كان من اثرياء قريش؟؟..
تقول أسماء ابنته : كان أبي من أثرياء قريش يملك من الأموال الكثير ، فأنفقها على الدعوة إلى الله ، وعلى المستضعفين من المسلمين ، من العبيد الذين اشتراهم وأعتقهم .. فلما هاجر ، لم يكن معه إلا {{ ٥ ألاف درهم }} ، تقول : فو الله لما هاجر أخذها معه ، ولم يدع لنا شيئا ..
هذا هو أبوبكر الصديق حبيب قلوبنا .. فهو الذي اشترى بلال الحبشي وكان تحت التعذيب ، واعتقه .. كما فعل مع الكثيرين واعتقهم ولا يسع المقام لذكرهم الآن ، لا أدري ما أقول عن حبيب قلوبنا أبي بكر رضي الله عنه ..
عن أنس رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : {{ حب أبي بكر واجب على أمتي }} ..
ونحن يا رسول الله ، نحبه من اعماق قلوبنا ، رضي الله عنه وأرضاه ..
الحبيب المصطفى « ١١٠ »
السيرة المحمدية العطرة ..
(( رد الأمانات إلى أهلها ))
___________
كما ذكرنا من قبل ، جهز أبو بكر الصديق راحلتين ، ولم يقبل النبى منه الراحلة إلا بثمنها ..
لماذا قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، إنفاق أبي بكر كله قبل ذلك على الدعوة ، ولم يقبل منه الراحلة؟..
لأنه صلى الله عليه وسلم ، أحب أن تكون هجرته ، كاملة من ماله لله تعالى ، فرضي الصديق وتم البيع ..
وبعد أن جهز أبو بكر وسيلة النقل اللازمة للهجرة .. اتفق هو والرسول عليه الصلاة والسلام على مبدأ هام ، وهو أنه من أهم عوامل إنجاح الهجرة ، بعد معونة الله عز وجل .. هو الاختيار الصحيح للأفراد المعاونين ، الذين سيقومون بحماية مشروع الهجرة ، فبالنسبة للنبى ، كان من الأفراد من هو أساس للبناء وجزء لا يتجزء منه ، كـ ( أبي بكر ، وعلي رضي الله عنهما ) .. ومنهم من كان وجوده كوجود آلات البناء التي لا تدخل في أساسه ، كدليل الصحراء الذى يجب أن يتواجد معهم ليدلهم على الطريق ..
أما عن دور أبى بكر ، فالكل يعرفه جيدا ، وإننى مهما أوتيت من بلاغة القول وفصاحة اللسان ، لن تستطيع كلماتى أن توفيه حقه ..
وأما علي رضي الله عنه ، فقد اختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليبيت مكانه في فراشه ، وكان رضي الله عنه صاحب قوة وصلابة وجأش ، لا يخيفه مكرهم ، ولا يزعزعه تجمعهم ، وكان مستعدا للتضحية ، لا يستطيع أحد إيذاءه لأن أباه هو أبو طالب سيدهم وكبيرهم بالرغم من وفاته ، فلو لم يكن يصلح لهذه المهمة ، لاختار بدلاً عنه آخرَ ، لكن لكل مهمة رجالٌ ولكل مقام مقال ..
وأما عن الدليل ، فقد طلب النبى من أبى بكر أن يختار له دليل للطريق يكون خبيرا ، فتشاورا فوقع اختيارهما على عبد الله بن أريقط ، الذي وضع عنده أبو بكر الراحلتين ..
وعبد الله بن أريقط ، هو رجل مشرك من بني الديل ، لكن النبي انتفع منه وأستأجره ؛ ليدله على الطريق ، لماذا؟.. ، لأنه كان خبيراً بطرق الصحراء ، لم يستأجره لأنه مشرك أو لسبب آخر ، إنما أستأجره لأن مصلحة الدعوة متحققة في هذا .. وللمفسدة المنتفية في دفع الأذى عن المؤمنين والمهاجرين ، فضلاً عن الاحترام الواضح من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأهل الاختصاص ، وفعلاً سلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفى أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش .. وهنا قد يسأل سائل : الهجرة المفروض أن تكون سرا ، والنبي لما جاء إلى بيت أبي بكر قال له سنخرج من عندك وذلك لكتمان الأمر ، {{ استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان }} .. فما دام الأمر كذلك ، فما معنى أن يختار النبي صلى الله عليه وسلم دليله على الطريق ، رجلا مشركا .. أليس فى هذا إفشاء للسر؟؟..
الجواب : أولا : هذه هي نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن هذا الرجل محل ثقة وموضع للسر ، وأنه سيؤمن فيما بعد ((نبوءة النبى يجب أن تتحقق لأنها تأتى إليه عن طريق الوحى)) .. وقد كان ، فبعد أن دلهم على الطريق أسلم عبد الله بن أريقط ، ولكنه خرج معهم وهو مشرك ..
وثانيا : أيد أيضا أبى بكر اختيار عبد الله بن أريقط دليلا لرحلة الهجرة ، لأن أبا بكر كان تاجرا ماهرا ، فكان من كثرة تعاملاته ، يستطيع أن يفهم معادن الناس ، وقد كان يثق فى عبد الله بن أريقط ..
وثالثا : لأن عبد الله بن أريقط كان خبيرا بالصحراء ، محنك ومميز جدا ..
ورابعا : عبد الله بن أريقط معروف عنه أنه رجل مشرك ، فلو رآه أحد من كفار قريش يسير فى الصحراء ومعه راحلتان عندما يذهب للقاء النبى وصاحبه فى الموعد والمكان المحدد ، لن يشك فى أمره ..
وهناك من الأفراد المعاونين أيضا ، من كان له دور فى منتهى الأهمية ، ك عبد الله بن أبى بكر ، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر وراعى غنمه ، وأيضا أسماء بنت أبى بكر ، وسوف نسلط الضوء على دور كل منهم فيما بعد ..
___________
والجدير بالذكر ، أن عبد الله بن أرَيْقط ، لما رجع إلى مكة .. أخبر عبد الله بن أبي بكر الصديق بوصول أبيه إلى المدينة المنورة ، فخرج عبد الله بأهل أبي بكر ، وصحبهم طلحة بن عبيد الله ، حتى قَدموا المدينة المنورة .. [[ طلحة بن عبيد الله : هو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام ، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه (كما ذكرنا من قبل فى أول البعثة) ،وأحد الستة أهل الشورى الذين تُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ ]
ومما ذُكِر نتعلم الدرس ، فسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام كما قلنا ، تعلمنا ديننا ، فهي منهاج حياة المسلم ، ومن هنا نستنتج أنه يمكن للمسلم ، أن يستعين بمشرك إذا كان هناك ضرورة ملحة {{ فالضرورات تبيح المحظورات }} ..
فطلب أبو بكر الصديق ، من عبد الله بن أريقط ، أن يجهز الراحلتين ، وتواعد معه بعد ثلاثة أيام .. وقال له : تلقانا في مكان كذا وقت كذا ومعك الراحلتان ، (( حيث اتفق النبى وصاحبه أن يخرجا من بيت أبى بكر سيرا على الأقدام لدواعى السرية )) .
واتفق النبي مع أبي بكر الصديق في تلك الليلة (حيث وضعت الخطة) ، أن يختار غار ثور ..
___________
رجع النبي إلى بيته .. ولم يكن عنده بالبيت من أهله ، إلا علي بن أبي طالب ، وابنتا النبي أم كلثوم وفاطمة ، وسودة بنت زمعة زوجته ..
لماذا رجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته ، والوقت كان ضيقا؟؟..
لكي يرتب مع { علي بن أبي طالب }كيف يرد الودائع إلى أهل مكة ..
يقول ابن كثير في كتابه ، {{ السيرة النبوية }} :
لم يكن بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه ، إلا وضعه عند الرسول صلى الله عليه وسلم ..
أنظروا وتأملوا : كل هذا التكذيب ، وكل هذا الإيذاء ، ومع ذلك ليس هناك أحد يثقوا به في مكة كلها ، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم .. [[ لأن المال عزيز عليهم .. نعم نكذبه ، ولكن عند وضع الأمانات والمال ، نحن على يقين أنه الصادق الأمين ]] ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبى طالب :
يا علي ، إني مهاجر هذه الليلة ، وعليك أن تبقى أنت من بعدي هنا ، فإن لقريش عندي أمانات وودائع ..
والله إنها من الأمور العجيبة !
قريش كلها لا تأمن إلا النبى على ودائعها ، وفي نفس الوقت ، يعادونه ويقولون عنه كما أخبر القرآن : [[ كذٌَاب وأشرّ وساحر ومجنون ]] ..!
- هل الكذاب توضع عنده الأمانات؟!
- هل الأشر توضع عنده الأمانات؟!!! .. [[ يقال أَشِر : لمن بطر وكفر بالنعمة فلم يشكرها ]] ..
- هل الساحر ، والمجنون توضع عنده الأمانات؟!!
كانوا يقولون بألسنتهم افتراءا وكذبا ، يقولون ما لا يعتقدون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فى حين أنهم يعلمون جيدا ، أنه هو : {{ الصادق الأمين }} ..
___________
قال صلى الله عليه وسلم : يا علي ، تبقى ورائي حتى ترد هذه الأمانات إلى أصحابها ..
هكذا هو : صاحب الخلق العظيم ، صلى الله عليه وسلم ،
يا حبيبي يا رسول الله .. إنهم أعداؤك ، وأنت تعلم أنهم وضعوا يدهم على دار كل مسلم قد هاجر ، فالمسلمون الذين هاجروا ، أخذت قريش بيوتهم وأموالهم وامتلكتها ، وسيأخذون دار النبي ، وقد فعلوا بعد هجرته .. فلقد أخذها {{ عقيل بن أبي طالب }} شقيق علي رضي الله عنه ، وباعها .. ولما جاء صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وكانت قد أصبحت مكة دار إسلام ، قال أسامة بن زيد :
يا رسول الله ، أتنزل في دارك؟؟ [[ لما دخل مكة ]] ..
فقال النبى : اضربوا قبتي عند الحجون ، عند قبر خديجة ،
وهل ترك لنا عقيل من دار؟؟.. [[ كان عقيل باعها بعد أن أخذها ]] .. والذي اشتراها كان قد أسلم فيما بعد ، فجاء يعرض على النبي أن يرجع له داره ،
فقال له صلى الله عليه وسلم : {{ إنا لا نرجع في شيء تركناه لله }} ..
إذاً النبى كان يعلم ومتأكد أنهم سيأخذون داره إذا هاجر ، ومع كل هذا لم يقس الأمور بمقياسنا نحن اليوم : [[ آخذ الأمانات المودعة عندى ، فى مقابل دارى التى سيستولون عليها ]] ..
لكنه آثر إلا أن يرد الأمانات إلى أصحابها ، لأن ديننا يأمرنا أن نعامل الناس بما أمرنا الله ،
لا بما يعاملوننا به ..
فنحن المسلمين ، {{ نعامل الله }} ، ولا نلتفت لغيرنا ..
___________
جلس النبى مع {{ علي بن أبي طالب }} وقتا طويلا يشرح ويقول له : هذه لفلان ، وهذه ملك فلان ، حتى يتأكد من قيام على برد الأمانات لمودعيها ، وتأخر حتى وقت العشاء .. وفي هذه الأثناء ، جاءت قريش بشبابها الأقوياء من كل صوب ، وقاموا بحصار كامل لبيت النبي صلى الله عليه وسلم .. فأحاطوا بالدار إحاطة السوار بالمعصم ، [[ يعني لم يتركوا منفذ أو متنفس ، إلا ويقف به شاب يمسك سيفا بيده ]] .. وكان قائدهم أبو جهل ..
يتبع بإذن الله
الأنوار المحمدية
صلى الله عليه وسلم