فى قرية"مجول" الواقعة ببنها، يلتف خفر العمدة حول منزل مبني على الطراز العثماني، يحاول كل منهم الانتباه وإحكام غلق أبواب المنزل الثلاثة، استجابة لتعليمات العمدة التي جاءت تنفيذًا لقرار الملك فؤاد الأول، فمالك هذا البيت يحظُر خروجه نتيجة مواقفة المناهضة للملك والأسرة الحاكمة، فى الداخل يجلس الشيخ منصور بدار مقرئ ثورة 1919، محاولًا إيجاد سبيل للخروج دون لفت أنظار الخفر، فاليوم مر 40 يومًا على وفاة والدة صديقه سعد باشا زغلول زعيم الثورة، ولن يُحيي هذه الليلة أحد سوى الشيخ منصور بدار، المقرئ السابق للخليفة العثماني فى تركيا.
لُقِبَ بقارئ ثورة 1919، وكان على علاقة وطيدة بالزعيم سعد زغلول، يزوره فى مكتب الوفد حتى صُنف بأنه وفدي، فكان نشاطه السياسي يتسم بالثورية، وهو ما جعله غير مرغوب فيه بالنسبة للعائلة المالكة فى مصر.
بين جدران قرية "مجول" عام 1882 كانت الصرخات الأولى له، نبغ منذ صغره وعُرف بعذوبة الصوت، التحق بالأزهر الشريف، بدأ فى إحياء المناسبات بقراءة القرآن، تهافت عليه مريديه فذاع صيته حتى سمعه الخليفة العثماني فعينه المقرئ الخاص له، وسافر إلى تركيا ضمن مجموعة من المصريين المهرة فى المجالات المختلفة.
استقر "بدار" فى تركيا قرابة الـ15 عامًا، ومع بوادر حركة "كمال الدين أتاتورك" عام 1912، قرر الشيخ العودة إلى مصر، فأخبر الباب العالي بسفره إلى أرض الحجاز لأداء فريضة الحج، والعودة إلى تركيا، إلا أنه عاد من الحجاز إلى أرض الوطن، ليستقر فى مصر، ويكون أحد المساندين والمشاركين فى ثورة 1919، وصار له عمود للتدريس فى الأزهر الشريف.
«البداية فى مصر بعد العودة»
الحافظ منصور بدار هكذا لُقب فى تركيا، حتى أنهم طبعوا اسمه بماء الذهب على بعض الكتب التي أُهديت له خصيصًا، وظل فى تركيا حتى عام 1912، وهو الوقت الذي بدأت فيه خلافات الخليفة العثماني مع الإنجليز وشهد تحضيرات الثورات.
عاد "بدار" إلى مصر، بثروة كبيرة جدًا بدأ يترجمها على شكل أراضي وسرايا، وتم عمل طريق خاص لنقل"الطوب" الذي استخدم فى بنائها، ولكن قبل البدء فى مرحلة "التشطيب" توفى والده، وهو ما غلف حياته بالغموض، يقول عامر عاشور بدار حفيد منصور بدار إن الشيخ لم يكن محبًا للظهور كثيرًا، وفى ظل مجده اعتزل تلاوة القرآن فى الثلاثينات من عمره، دون أن يعلم أحد السبب، وكان يقرأ الجمعة اليتيمة كل عام بأحد مساجد قريته، وتملأ السيارات شواع القرية فى ظل قلة السيارات.
حالت الشروط التي فرضها "بدار" على الإذاعة المصرية دون تسجيل صوته، حيث طالب بأن يسبق تلاوته تعرفة بالتلاوة، ويليها ملخص لموضوعها، إضافة إلى رأيه فى أن القرآن لا ينبغي أن يسجل فيُتلى لمن يسمع ومن لا يسمع.
رغم احترامهم لرغبته فى عدم التسجيل، إلا أن عائلة "بدار" مازالت تتشبث بأمل الاستماع لصوته ومعرفة أسراره بعدما سمعوه من روايات، يقول "عامر" إن "بدار" كان على صداقة بشخص من عائلة "زعزع" فى طوخ، وكان يزوره بصورة شبه دورية وفى أحد المرات، شاهد فى طريقه امرأة يظهر عليها رقة الحال، تبيع زوج من الحمام، فتعاطف معها الشيخ، وجلس حاملًا الحمام، وبدأ يغني له"يا حمام يا بني مين يشتريك مني؟"، فاجتمع الناس على حلاوة الصوت، فأقام مزاد علني على الحمام وباعه بجنيهات.
الشيخ محمد رفعت كان واحدًا ممن عاصروا "بدار"، ويعد أول من سجّل القرآن، ولم يختلط الشيخ "منصور" بالجيل التالي بصورة مباشرة، بينما سمعه الشيخ مصطفى إسماعيل فى إحدى المناسبات وتأثر به، فقرر التلاوة على طريقته، حتى أن بعض ممن سمعوا الشيخ منصور فى حياته أكدوا أن طريقة "إسماعيل" هي الأقرب له.
«حافظ أسراره يجعله غامضًا طوال حياته»
لكل منا حافظ لأسراره، رغم بعد المسافات لم يجد سواه، يروي له ما حدث وما صار فى أيامه، فكان والد الشيخ منصور بدار هو حافظ أسراره، لا يعلم أحد عنه شيء إلا هو، وبعد وفاته أصبح الشيخ غامضًا فى حديثه، وفى أفعاله، وفى تصرفاته.
حاول العديد التقرب منه، ليصبحوا أصدقائه المقربين، ولكنه كان دائمًا يرفض أن يقص لأحد شيء عن حياته، فعاش غامضًا، ومات غامضًا، على حد قول أحد أحفاده.
«بدار تنبأ لعبد الوهاب بالنجومية»
الأصوات مذاهب ومدارس، وهنا اجتمعت المذاهب والمدارس فى شيخًا واحد، عندما قرر والد الموسيقار محمد عبدالوهاب أن يجعله يحفظ القرأن على يد الشيخ منصور بدار، وبعد أن قضي "عبد الوهاب" شهرًا مع الشيخ إلا أنه قال لوالده أنه لا يصلح لتلعيم القرآن، وأولى به أن يهتم بالأغاني، والآلات الموسيقية، لأنه شغوف بها.
وأكد أحد أحفاد العلامة منصور بدار، أنه بعدها بسنوات قليلة بدأت شهرة محمد عبد الوهاب تجوب المحافظات إلى أن أصبح أحد المطربين العظماء، بعد ان تبنأ له الشيخ منصور بدار بهذا الأمر.
* تعددت الوقائع التاريخية التي تؤكد بما لايدع مجالا للشك علو مكانة الشيخ منصور بدار في ساحة القراء من خلال مرحلتين تمثلان نقاط تحول في مسيرته القرآنية على النحو التالي:
- المرحلة الأولى: بامتداد خمسة عشرة عاما ، وهي الفترة التي قضاها في اسطنبول قارئا خاصا للسلطان عبد الحميد ، حيث استمع إليه السلطان في الجامع الازهر أواخر القرن التاسع عشر واختاره ليكون قارئه الخاص ومنحه جواز سفر مفتوحا، قبل أن يتم اسقاطه عن عرش الدولة العثمانية عام 1909م.
- المرحلة الثانية، وامتدت عشر سنوات منذ اندلاع ثورة الشعب عام 1919 بزعامة سعد زغلول، وحرص خلالها الشيخ منصور بدار على القراءة يوميا بالازهر طوال فترة الثورة بهدف جذب آلاف المصلين والتنديد بالاستعمار الانجليزي، ولذا أطلق عليه لقب "قارئ الثورة" ليجمع بذلك بين لقبي "قارئ السلطنة وقارئ الثورة"
* انضم القارئ الشيخ منصور بدار إلى موكب السلطان فؤاد، باعتباره قارئ السورة في الأزهر منذ مطلع العشرينات وفي كتاب الشاعر "عبد الحليم المصري: بعنوان " (المرحلة السلطانية وتاريخ السلطنة المصرية). وصف تلاوة الشيخ في حضرة الملك أثناء احدى زياراته للصعيد بقوله: "هو أطرب من يسمعك كلام الله وهز النفوس خشوعا، حيث اتصل صوته باليقين وملك عليك نفسك فاسكتك حينا وانطقك حينا ، وأنت مأخوذ لا تعرف كيف تسير طربا" .. جدير الذكر أن منصور بدار قرأ في مأتم سعد زغلول عام 1924 لمدة سبعة أيام متوالية.
* لا توجد تسجيلات على الاطلاق للقارئ العبقري الشيخ منصور بدار (1884 - 1967) نظرا لرفضه التعاقد مع الاذاعة المصرية وقد أخبرني الدكتور حسين زاهر نقلا عن والده الشيخ عبد العظيم زاهر وهو من بلديات الشيخ بدار بقرية مجول في محافظة القليوبية أن الاذاعة قد حاولت مرارا وتكرارا التعاقد مع لاشيخ منصور بدار خلال النصف الثاني من حقبة الثلاثينيات لكنه اشترط عليهم عدم التقيد بالوقت ، وهو شرط مستحيل.
الشــــــيخ / منصور محمد بدار
يقول الكاتب الراحل محمود السعدني، إن الأصوات كالمعادن بعضها كالصفيح وبعضها كالفضة وبعضها لها بريق الذهب وبعضها له رنينه ويندر جدا أن يكون الصوت من الذهب. ومن هذه الأصوات الذهبية صوت الشيخ منصور بدار، الذي أعتزل القراءة وآثر الراحة في قريته حتى وافته المنية.
صاحب هذا الصوت الذهبي الذي ولد عام 1884 لم يصلنا منه في الظاهر إلا تسجيل واحد فقط لآيات من سورة المؤمنون، لكن الحقيقة أنه ترك لنا تلميذه، الذي ملأ حياتنا عذوبة بصوته الشجي وهو الشيخ مصطفى إسماعيل، إلى جانب تأثيره بالشيخ عبد الباسط عبد الصمد، لأنه كان احد أساتذته.
مكانة الشيخ لا ينازعه فيها أحد، وتظهر بشكل واضح من بداية حياته عندما كان دولة التلاوة في مقتبل حياته يدوام على
القراءة بالأزهر وهو لم يدخل بعد مرحلة الشباب، فيما كان السلطان عبد الحميد الثاني في زيارة إلى مصر وفي أثناء زيارة للأزهر للصلاة سمع صوت الشيخ الأزهري الصغير وانبهر بحلاوة تلاوته وقرر على الفور أن يستأثر بصوته الخلاب، ويصطحبه معه إلى تركيا وأن يجعله "قارئ السلطان الخصوصي" على امتداد 14 سنة،حتى قامت الثورة على يد السلطان وخلع من الحكم في 1909، ليعود بعدها الشيخ إلى مصر، وقد تغير حاله وتسيد دولة التلاوة وصاحبه الساسة والأعلام بالبلاد كافة، وبعد سنوات قليلة كان الشيخ على موعد هام مع حدث سيلعب به دورا هاما وهو ثورة 1919، حيث ظل الشيخ منصور بدار يقرأ بشكل شبه يومي ليتجمع آلاف المستمعين ويجري توزيع منشورات الثورة على أكبر عدد منهم، حتى أطلق عليه لقب "قارئ الثورة" لينضم إلى لقب " قارئ السلطان"، وخلال تلك الفترة توطدت علاقته بزعيم الثورة سعد زغلول وأصبحت صداقة متينة العروة، لذلك قرأ الشيخ في مأتم سعد زغلول لمدة أسبوع كامل كما حرص على القراءة في ذكراه السنوية ببيت الأمة، وظل وفيا للثورة بعد ذلك وتوطدت صداقته بزعيم الوفد مصطفى النحاس.
علاقة الشيخ بالقرآن الكريم يمكن تبين بعض ملامحها من خلال عدة مواقف برحلته مع كتاب الله، والتي بدأها من كتاب القرية على يد الشيخ علي جاسر قبل أن يلتحق بالأزهر الشريف ويقطع شوطا كبيرا في مراحل التعليم الأزهري واختياره قارئ للسورة بمسجد الأزهر، ثم ارتقائه إلى قمة دولة التلاوة في عصره، ومن أهم هذه المواقف، ما جاء بكتاب "عباقرة التلاوة في القرن العشرين" للكاتب شكري القاضي أن الشيخ منصور بدار خلال قراءته في مأتم الملك فؤاد عام 1936 توقف عن التلاوة فجأة، ولما سئل عن السبب أشار إلى السيجارة بيد وريث العرش الأمير فاروق وهو يدخن وطلب إطفاء السيجارة وأذعن الملك لرغبة الشيخ. كذلك عندما طلبت الإذاعة في منتصف الثلاثينيات التعاقد مع الشيخ كان شرطه أن يسبق تلاوته حديث ديني ويعقبه حديث آخر، وهو ما توافق عليه الإذاعة. وكان الشيخ منصور بدار حريصا على قراءة الجمعة اليتيمة في رمضان في مجول بمركز بنها في محافظة القليوبية سواء في مسجد الشعنة أو في مسجد الشيخ حجاج العزب، وذلك قبل أن يعتزل الشيخ التلاوة في المناسبات الخاصة عام 1936 وهو بعامه الرابع والخمسين، ويستقر ببلدته يقرأ في مساجدها آيات الله خاصة ما تيسر من سورتي الحاقة والنجم وذلك حتى وافته المنية عام 1967 عن واحد وثمانين عام قضاها صاحب الصوت الذهبي في تلاوة آيات الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق