أحمد ندا عبقري التلاوة الأول
==
شاب أسمر نحيف ولد عام 1852في حي البغالة، لأب يعمل مؤذنا في مسجد السيدة زينب رضي الله عنها، حفظ القرآن صغير وامتلك مفاتيح موهبة لم توجد مثلها في هذا الزمان فكان أول نجم يتلألأ في دولة التلاوة في عصرنا الحديث. عندما بدأ الشيخ الشاب أحمد ندا الحسني طريقه في دولة التلاوة ، كان المقدمون من القراء الذي طار صيتهم في البلاد ثلاثة هم: محمود القيسوني، وحسن الصواف، وحنفي برعي، لكن أولهم كان المؤذن الخاص للخديوي في ذلك الوقت، وبالتالي لم يكن يؤجر على القراء في مناسبات الناس، وسرعان ما التحق الشيخ الشاب بالاثنين، فأصبح ثالث ثلاثة، ومع الوقت ارتفع صيته بالبلاد متخطيا شهرة الشيخين كبيري السن، وتفوق عليهم.
يصف طريقته في الأداء الكاتب عبد العزيز البشري الذي عاصره في كتابه "المختار" قائلا: "أبدع الشيخ أحمد ندا في فن ترتيل القرآن بِدَعًا لا عهد للناس بها من أول الزمان، ولن يزال يترسمها القارئون إلى بعيد من الزمان، فالشيخ ندا من أحد أولئك القلائل الذين لم يَجُدْ عليهم العلم بالفن وإنما أَجْدَوْا هم على الفن بما رزقوا من سلامة الفِطَر ودقة الإحساس، وتلك المواهب العظام! وهؤلاء أشبه بالقُمْرِيِّ إذا سجع وغرد، وبالجدول إذا تعطف في الروض وتأود، وبالبدر إذا استوي فأشرق نوره، وبالورد إذا تفتح فسطع عبيره، اسأل ما شئت من هؤلاء كيف صنع، وعمن أخذ وعلى يد من بَرَع، وخبرني بعد هذا الجوابَ"
كانت قوة الصوت في ذلك الزمان أحد المعايير الهامة التي بها يكتمل جمال الأداء في عصر لم يكن ظهر به الميكروفون بعد، وكانت هذه واحدة من أهم نقاط القوة لدى "ندا"، فقد ورث الصوت القوى عن والده الذي كان يصف بصاحب الصوت الجهير، إلى جانب الموهبة التي كان الزمان يصقلها فيزداد الصوت حلاوة مع طلاوة القرآن وسحر بيانه، فيتعلق بصوت الشيخ السامعين، ويتبعه المريدين، وهو يقلب الموازين المتعارف عليها حينذاك، ويخلق خلقا جديدا على يديه مؤسسا لدولة التلاوة في العصر الحديث ويتبعه في ذلك العديد من القراء، ويصف "البشري" طريقته في الأداء بقوله: "كان يقرأ فلا يلتزم لونا واحدا، وإنما يتجول بين فنون من التنغيم ليلتمس أندر جمالياتها وأصعبها أداء، ومن ثم اكتسب شهرة في اصطياد المبتكرات، وفى الإبداع بالتجديد غير المسبوق، وتتلمذ عليه الكثيرون، حتى استحق أن يتصدر ريادة المقرئين في ذلك العصر"
كان أحمد ندا يحقق كل يوم انتصارا جديدا، وينتقل من نجاح لآخر، لا يلتفت إلى ثورة بعض المشايخ علي طريقته الجديدة في التلاوة، واخذ يواصل طريقه يحقق كل يوم انتصار جديدا, ويجمع في كل يوم المزيد من الأنصار، وهكذا قلب الشيخ العبقرى أحمد ندا الموازين كلها وأولاها أجر المقرئين، حيث وصل أجره خلال موجة الإفلاس التي ضربت البلاد عام 1915 إلى جنيه فيما كان أجر الشيخ محمد رفعت خمسين قرش حسب محمود السعدني في كتابه "ألحان السماء"، ووصل أجر الشيخ بعد ذلك إلى 5 جنيهات عن الليلة الواحدة, وجاب أقاليم مصر كلها يسهر في قصور البشوات ودور العمد والأعيان , ويهرع لسماعه الآلاف من المعجبين بصوته, ومرة أخرى ارتفع أجر الشيخ إلى 10 ثم إلى 20 ثم إلى 40 جنيه حتى وصل إلى 100 جنيه.
ووصلت شهرة الشيخ عنان السماء وكان أجره قد وصل الى مائة جنيه ذهبا عن كل ليلة، وكان الرجل كريما ينفق على سعة ويوزع النفحات والصدقات وأصبح للشيخ ندا قصر يجتمع فيه الشعراء والأدباء ورجال الحكم والسياسة في بر مصر, وكان للشيخ حنطور تجره ستة خيول، وكان نجاح الشيخ مصدر حسد الكثيرين، كما يحكي محمود السعدني في كتابه، أن الحسد جعل البعض يوغل نفس الخديوي من هذا المقرئ صاحب العربة التي تجرها 6 خيول، فكيف يجرؤ رجل مصري من طبقة فقيرة ومعمم على الظهور في موكب مثل موكب الخديوي, ليصدر الخديوي فرمانا بأن يكتفي الشيخ ندا بزوج واحد من الخيول يجر عربته وتصادر العربة والخيول إذا أصر الشيخ على الظهور في نفس الموكب وآثر "ندا" أن يتحاشى حماقة الخديوي فاكتفى بحصانين اثنين لجر عربته, ولكن فرمان الخديوي كان سبب في ازدياد شعبية الشيخ.
كان الشيخ احمد ندا من أوائل الذين التفتوا إلى موهبة المطربة الصغيرة في ذلك الوقت أم كلثوم، وكان يطرب لصوتها ويقبل على سماعها في أي وقت وقد أحيت أم كلثوم حفل زواج ابنه محمود ندا, ورفضت أن تتقاضى أي أجر.
ولسوء الحظ مستمعي القرآن أن الشيخ أحمد ندا رفض بشدة تسجيل القرآن الكريم على اسطوانات قائلا: "لا يليق أن يحمل كلام الله في أسطوانات تتداولها الناس وتحملها بأيد قذرة وتلقى بها أحيانا على الأرض".
ولقد عاش الشيخ أحمد ندا عمره لا يكاد يستريح من السهر ليلة واحدة، ولقد يسهر الليلة في أسيوط، ويسهر التالية في المحلة الكبرى مثلًا، فيُجَلْجِل في الثانية كما يُصَلْصِل في الأولى، ما ترى على صوته أثرًا لضعف ولا انخذال حتى مات وهو يقرأ من آيات الكتاب الحكيم سنة 1932، بعد أن وضع معالم للطريق للقراء من بعده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق