كان الشيخ السعدني ملتزماً بحسن التلاوة والأداء القرآني السليم، كما كان مدرسة قائمة بذاتها في دولة التلاوة، ولم يقلد من سبقوه من عظماء القراء من الرعيل الأول.. هذا ما ذكره القارئ الشيخ الكبير أبوالعينين شعيشع عن القارئ الشيخ أحمد سليمان السعدني ابن محافظة الشرقية الذي تشكلت شخصيته كقارئ أثناء ثورة 1919 حين سقط عشرات الشهداء وانتشرت سرادقات العزاء، فاستوعب خلالها أصول التلاوة وأحكامها حتى أصبح من العلامات البارزة في دولة التلاوة وطاف العديد من الدول العربية والإسلامية..
كان الشيخ أحمد سليمان السعدني شديد الولع بأعظم موسيقى في الكون، تلك الكامنة في القرآن الكريم متأثراً بكبار القراء في عصره، وفي مقدمتهم الشيخ أحمد ندا والشيخ علي محمود والشيخ محمد رفعت وكان صوته مزيجاً فريداً من أصوات جميلة متداخلة لا تستطيع في النهاية إلا أن تنسبه الى قارئ واحد محدد وهو الشيخ السعدني نفسه، الذي يحسب له تفرده في الصوت والأداء باعتباره شخصية قرآنية مستقلة، وصاحب بصمة لا تخطئها الآذن في ساحة القراء أهلته للوثوب إلى الصفوف الأولى جنباً إلى جنب مع رواد التلاوة، بما حباه الله من صوت متميز وأسلوب فريد في التلاوة،
حيث كان يجسم المعنى في قراءاته من خلال نبراته الخاشعة ووقفاته السليمة المتميزة. قال عنه الشيخ أبو العينين شعيشع «كان الشيخ السعدني ملتزماً بحسن التلاوة والأداء القرآني السليم ولا شك أنه كان مدرسة قائمة بذاتها في دولة التلاوة ولم يقلد من سبقوه من عظماء القراء من الرعيل الأول ويحسب له أنه كان يفهم ما يقرأ جيداً.. وأنا أقدر الشيخ السعدني لأني أميز بين الغث والسمين».
نقطة تحول عاش الشيخ أحمد سليمان السعدني 73 عاماً منذ ولادته عام 1903 بأسرة السعديين المعروفة بمدينة مينا القمح في محافظة الشرقية وحتى رحيله بالقاهرة في 30 أبريل عام 1976، حفظ القرآن بكتّاب قرية «كفر براش» القريبة من قريتهم في الخامسة عشرة من عمره وأقام بتلك القرية على امتداد عشر سنوات قبل نزوحه للقاهرة في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي،
وعندما اندلعت ثورة الشعب بزعامة سعد زغلول عام 1919 سقط عشرات الشهداء من مختلف محافظات مصر وانتشرت سرادقات العزاء تكريماً لشهداء الثورة إبان تلك الفترة التي بدأ الشيخ الصغير يستوعب خلالها أصول التلاوة وأحكامها ويستمع بشغف إلى كبار القراء الذين يشاركون في تكريم الشهداء قبل أن يشارك في إحياء المناسبات الدينية والمآتم في قريته والقرى المجاورة،
بالإضافة إلى حرصه على المراجعة من شيخ الكتاب حتى تمكن من أحكام التلاوة أو كاد وتخطى صيته حدود محافظته في منتصف العشرينيات من القرن الماضي قبل أن يعرف طريقه إلى القاهرة ليشارك مشاهير القراء ويلتحق بالإذاعة مع الشيخ عبدالعظيم زاهر عام 1936. وتعد فترة الحرب العالمية الثانية أزهى فترات المسيرة القرآنية للشيخ السعدني،
حيث تخطى صوته الحدود العربية إلى شتى أرجاء المعمورة فسافر إلى العديد من دول العالم الإسلامي كسفير للقرآن الكريم، وتلى آيات كتاب الله الكريم في العديد من المراكز الإسلامية في دول أوروبا وأميركا وزار كذلك العديد من الدول العربية، وخاصة الخليجية لإحياء ليالى شهر رمضان المبارك،
والجدير بالذكر أن الشيخين سليمان السعدني وعبدالعظيم زاهر ظهرا معاً على ساحة القراءة واشتهرا في نفس الوقت ولكن النعم التي منحها الله للشيخ السعدني من جمال الصوت وتفرد في الأسلوب الذي يخترق الآذان والقلوب جعلت كثيراً من الإذاعات العربية والمحلية تسعى للتعاقد معه، فتسجيلاته الإذاعية متوافرة في العديد من الإذاعات العربية ولندن وإذاعة الشرق الأدنى وبعض دول آسيا وأفريقيا والسعودية وسوريا ولبنان والهند والصومال.
والجدير بالذكر أن الشيخ السعدني طاف بالعديد من الدول شرقاً وغرباً حيث قرأ القرآن الكريم في باريس وكراتشي ودول آسيا الشرقية والتقى بملايين المسلمين، وبين الجاليات الإسلامية . عاش الشيخ السعدني أحلى أيامه حيث كان المسلمون في البلاد التي يزورها يستمعون اليه بالساعات من أجل الاستمتاع بآيات الذكر الحكيم وكان منهم من يصيح فرحاً ومنهم من يذرف الدموع ويبكي تأثراً واستغفاراً على الرغم من أن الكثيرين منهم لا يعرفون من العربية حرفاً.
أحمد السعدني.. المقرئ «الجاسوس» عند المخابرات البريطانية
الشيخ أحمد سليمان السعدني
أحمد السعدني.. المقرئ «الجاسوس» عند المخابرات البريطانية
لعلها المرة الأولى والأخيرة التي تعرّضت فيها تقارير إحدى أجهزة المخابرات العالمية لمقرئ متهمة إياه بأنه يتعامل مع الأعداء. حدث ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية عندما قالت إنجلترا إن الشيخ أحمد سليمان السعدني يتعاون مع دول المحور التي تقودهم ألمانيا. الحكاية رواها الكاتب الراحل محمود السعدني في كتابه «ألحان من السماء».
وكانت مصر وقتها تحت الاحتلال البريطاني التي تقود المعسكر المقابل لألمانيا المسمى بدول الحلفاء.
محطة برلين
في بداية الحرب قالت مخابرات الحلفاء إن الشيخ السعدني القارئ المعروف يذيع كل مساء من محطة برلين العربية، وقالت التقارير أيضاً إن إذاعة الأخبار باللغة العربية تكون بعد التلاوة مباشرة، وأن عدداً كبيراً من الناس يستمع إلى إذاعة برلين ليتمكن من سماع الشيخ السعدني
سمع مصطفى النحاس باشا، وكان رئيساً للوزراء، بالقصة، فأرسل في استدعاء الشيخ، وعندما دخل عليه مكتبه رفض «النحاس» مصافحته قائلاً له بلهجة حادة: لا.. ده مش كلام.. أنت راجل بتتعامل مع المحور.
وشرح «السعدني» للنحاس باشا كل شيء، واقتنع رئيس الوزراء فمد يده وصافحه، وقال له: الآن اطمأن قلبي.
وأصل الحكاية أن بعثة من الإذاعة الألمانية وصلت إلى مصر في عام 1937 لتسجيل بعض الأغاني والبرامج العربية لإذاعتها في راديو برلين، وقضت البعثة عاماً سجلت فيه كل شيء، ثم رأت أن تسجل شيئاً من القرآن، فلم يتسع وقتها لأكثر من 10 تسجيلات كلها للشيخ السعدني.
وعندما نشبت الحرب في عام 1939، استغلت برلين الفرصة فراحت تذيع شرائط الشيخ كل مساء من محطتها العربية، ومن هنا جاء اتهام المخابرات الإنجليزية له بأنه من عملاء المحور.
مشوار التلاوة
بدأ «السعدني» تلاوة القرآن الكريم عام 1925، وبأجر قدره 50 قرشاً في الليلة، في مسقط رأسه بمدينة منيا القمح بالشرقية.
وفي عام 1930 نزح إلى القاهرة حيث أصبح صديقاً للشيخين محمد رفعت، وعلي محمود وكان من أساطين القراءة آنذاك، وفي عام 1935 أصبح قارئاً لمسجد سيدي الشعراني، وبدأ نجمه يلمع خلال الحرب من محطة برلين العربية ومحطة القاهرة.
والشيخ السعدني كان فناناً يحب الاستماع إلى صوت الشيخ محمد رفعت، والشيخ علي محمود، وكان أديباً أيضاً وله كتاب «في خدمة القرآن»، عرض فيه لطريقة بعض قدامى القرّاء، وشرح فيه مذاهبهم في التلاوة وطريقتهم في الأداء.
ثورة 1919
وعندما كان «السعدني» في الـ12 من عمره، كانت ثورة عام 1919 تجتاح أرض مصر، وكانت المراكز الكبرى تقيم في كل يوم مأتم لشهدائها، وكان مركز منيا القمح يقيم في كل يوم أكثر من مأتم يقرأ فيه أكثر من قارئ شهير.
كان السعدني يقطع كل مساء 10 كيلو مترات من قريته إلى منيا القمح ليستمع إلى المشاهير الذين جاءوا ليرتلوا القرآن، وكان يجلس الساعات الطوال على الأرض خلف السرادق ليستمع بعيداً عن العيون، فلم يكن دخول السرادق مباحاً لأمثاله من الصبية الصغار.
وذات مساء بكى الشيخ السعدني وهو يستمع إلى الشيخ البربري، أحد عمالقة القراءة في ذلك الوقت، وود لو يستطيع أن يصافحه ويقبل يده، ولم تتحقق أمنيته قط، وحتى عندما أصبح «السعدني» رجلاً وجاء إلى القاهرة ليشق طريقه في عالم التلاوة كان الشيخ البربري قد انتقل إلى رحمة الله.