الأحد، 6 مارس 2016

الكندي.. الطبيب الموسوعي


لا شكَّ أن مهنة الطب من أعظم المهن على وجه الأرض؛ لأنها تهتمُّ بالإنسان خليفة الله في أرضه، وقد ساهمت الحضارة الإسلامية عبر رُوَّادها الأفذاذ في رُقِيِّ هذا العلم وازدهاره، ومن هؤلاء الأفذاذ عالم تخصَّص في علوم الطب والفلسفة والرياضيات والفلك، وغيرها من العلوم، إنه أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، الطبيب الفيلسوف، العالم الفلكي، صاحب التصانيف الكبيرة في الطب، والحساب والنجوم والفلك، وغيرها الكثير.
وُلِدَ أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي بالكوفة سنة (185 هـ/ 805م)، وتوفي في بغداد سنة (260هـ/ 873م)، ونشأ بالبصرة، وانتقل إلى بغداد، وقد تلقى تعليمه في كلٍّ منهما.
ومَن تتَّبع سيرته تبيَّن أنه نشأ في بيئة ذات حسب وشرف؛ فأبوه إِسْحاق كان أميرًا على الكوفة للمهدي والرشيد، والجدير بالذكر أن نسبه ينتهي إلى الصحابي الجليل (الأشعث بن قيس)، وقد كان قبل ذلك أميرًا على جميع كندة، وكان أبوه قيس بن معديكرب أميرًا على جميع كندة أيضًا.
وقد اتصل يعقوب الكندي بحُكَّام عصره، وكانت هناك علاقة وطيدة بينه وبين المأمون والمعتصم وابنه أحمد المتوكل، وعَمِل في بلاطهم بكل إخلاص وتفانٍ لخدمة العلم والعلماء؛ لذا أُسند إليه عمل الطبيب وديوان الخراج في قصر الخلافة مدَّة طويلة من الزمن .
ولم تكن عناية الخلفاء بالكندي إلاَّ لمنزلته وعلمه الموسوعي؛ حيث نجد له كتبًا له في الطب، والحساب، والفلك، والرياضيات، وعلم النجوم، والهندسة، والفلسفة والمنطق.
كما أجاد الكندي الترجمة؛ حيث ترجم كتاب (المجسطي) لبطليموس، وكتاب (الأدوية المفردة) لجالينوس في الطب؛ لذلك يُعَدُّ الكندي من حُذَّاق الترجمة.
أما إذا تحدَّثنا عن كتبه في المجال الطبي، فسنجد أننا أمام عالم متمرِّس في الطب كتمرُّسه في الفلك والفلسفة، وسنجد أن قيمته العلمية لا تقلُّ بحال عن أفذاذ الطب؛ كالزهراوي، وابن زهر، وغيرهما؛ وممَّا صنَّفه ما يلي:
كتاب الطب البقراطي، ورسالة في الغذاء والدواء المهلك، ورسالة في الأبخرة المصلحة للجو من الأوباء، ورسالة في الأدوية المشفية من الروائح المؤذية، ورسالة في كيفية إسهال الأدوية وانجذاب الأخلاط، ورسالة في علم نفث الدم، وفي تدبير الأصحاء، وفي كيفية الدماغ، وفي علة الجذام وأشفيته، وفي وجع المعدة والنقرس، وفي علاج الطحال، وفي الحيلة لدفع الأحزان، وجوامع كتاب الأدوية المفردة لجالينوس، ورسالة في الإبانة عن منفعة الطب، وغيرها كثير .
وعلى هذا فإن الكندي كان رجلاً فريدًا في عصره؛ فله أكثر من عشرين رسالة في العلوم الطبية وحدها، وقيل: له أكثر من ألف كتاب في كل معنى، كلها فصول من كتب أرسطاطاليس، حتى لُقِّب بفيلسوف العرب .
والناظر في الأمر قد يصيبه العجب، حتى إذا تمعَّن في الأمر، وجد ألا عجب في الأمر، فعصر عاش فيه الكندي، عصر علم وازدهار، وَجد فيه العلماءُ اهتمامًا من الخلفاء، وإقبالاً على العلم، وبناء دور لخزانة الأدب، وكثرت الترجمة والمترجمون، وتفتحت علوم الآخرين للمسلمين، فأقبلوا عليها يقرءونها، ويتدبَّرُون أمرها، فتفتَّحت لهم المدارك، فأضافوا إليها وطوَّروا مضمونها، وليس الكندي فريدَ عصره في هذا الأمر، فهناك قرينه ابن سينا وابن رشد، وكل هؤلاء نبغوا في الطب - أيضًا - مع تفرُّدهم في الفلسفة.
وتظهر عبقرية الكندي وتمرُّسه في مجال الطب، في وصيته للأطباء، إذ يقول: وليتق الله تعالى المتطبب ولا يخاطر، فليس عن الأنفس عوض. وقال: وكما يحب أن يقال له: إنه كان سبب عافية العليل وبرئه. كذلك فليحذر أن يقال: إنه كان سبب تلفه وموته. وقال: العاقل يظن أن فوق علمه علمًا، فهو أبدًا يتواضع لتلك الزيادة؛ والجاهل يظن أنه قد تناهى، فتمقته النفوس لذلك .
ويظهر من تلك الوصية ما كان يتمتع به الكندي من تواضع العلماء، فعلى الطبيب ألاَّ يتكبَّر على المريض، وأن يحمد الله على هذه النعمة التي أنعمها الله عليه، فكما يحبُّ أن يقال: إنه سبب عافية المريض. فليحذر أن يقال: إنه سبب تلفه وموته.
ومن وصاياه –أيضًا- ما ذكره ابن أبي أصيبعة في وصيته لولده، يقول الكندي: "يا بني، الأب رب، والأخ فخ، والعم غم، والخال وبال، والولد كمد، والأقارب عقارب، وقول لا يصرف البلا؛ وقول نعم يزيل النعم؛ وسماع الغناء برسام  حادٌّ؛ لأن الإنسان يسمع فيطرب، وينفق فيُسرف، فيفتقر فيغتمّ، فيعتلّ فيموت، والدينار محموم فإن صرفته مات، والدرهم محبوس فإن أخرجته فرَّ؛ والناس سخرة، فخذ شيئهم واحفظ شيئك، ولا تقبل ممن قال اليمين الفاجرة؛ فإنها تدع الديار بلاقع" .
ويُعَلِّق ابن أبي أصيبعة على هذه الوصية، ويذكر وصف ابن النديمُ للكندي: أنه كان بخيلاً. ونحن نقول: إن هذه الوصية تَظهر فيها فلسفة الكندي، واضحة جلية؛ فالأب ربٌّ؛ لأنه ربُّ الأسرة وحاميها، ومن يحميها إلاَّ صاحبها، والأخ فخ؛ إذا ساءت العلاقة بين الأخوين وراح كل منهما يكيد للآخر، ويصطنع له المكائد، والعم غم؛ إذا طمع في أموال أبناء أخيه، فسار غمًّا لهم، يجلب لهم النقم، وهكذا يمضي الكندي في فلسفته، وليس هناك ما يدلُّ على بخله، وإن كانت هناك بعض الحيطة في الأمر، خاصَّة وهو يوصي ابنه، وإلاَّ كان قد تداول الأمر عنه، فلم يقل أحد بذلك إلاَّ ابن النديم.
ومن أقوال الكندي المأثورة عنه، والتي نقلها ظهير الدين البيهقي في كتابه تاريخ حكماء الإسلام، قوله:
• اعتزل الشرَّ؛ فإن الشرَّ للشرير خلق.
• اعص الهوى، وأطع من شئت، ولا تغتر بمال وإن كثر.
• لا تطلب حاجة إلى الكذوب؛ فإنه يبعدها وهي قريبة .
هكذا كانت حياة الكندي بحرًا من العلوم، فقد ساهم في علم الطب بنصيب وافر كما ساهم في غيره من العلوم، فأصبحت مصنَّفاته في الطب متداولة في كل أرجاء العالم، تشهد على عبقريته و نبوغته.

المصدر:
للدكتور راغب السرجاني .









-- 

ليست هناك تعليقات:

المتابعون

أرشيف المدونة الإلكترونية