ابن مندويه الأصفهاني .. النجيب المتميز
كان ابن مندويه الأصفهاني من الأطباء الأجلاَّء، والعلماء البارعين الذين أثَّروا في الحياة العلمية الإسلامية والإنسانية في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي، لكن شهرته لم تصل حدَّها المرجوَّ؛ لأنه كان معاصرًا للشيخ الرئيس أبي علي الحسين بن سينا (370 - 428هـ/980 - 1037م) الذي طغت شهرته على معظم من عاصروه .
وابن مندويه هو أحمد بن عبد الرحمن الأصفهاني ، الذي لم يُعرف على وجه التحديد تاريخ مولده ومكان ذلك، لكن الواضح من نسبه أنه كان من أصفهان في بلاد فارس، وقد وصفه الصفدي في موسوعته (الوافي بالوفيات) أنه "من الأطباء المذكورين في بلاد العجم" . وهذا دليل على شهرته ومكانته التي حظي بها بين قومه العجم (غير الناطقين باللسان العربي) .
فقد تركت تربيةُ أسرته له أثرًا غير قليل في نشأته العلمية المميزة؛ فقد كان والده من العلماء الأجلاَّء؛ ومن ثَمَّ شجَّع الوالد ولده على حب العلم والتعلم، غير أن الابن سلك مسلك العلوم التجريبية، مخالفًا في ذلك والده الذي أحبَّ الأدب واللغة، وهذا ما يُؤَكِّده القفطي بقوله: "وكان أبوه من البلغاء في زمانه يقوم باللغة والنحو والشعر".
ولقد درس ابن مندويه العلوم الطبية، فبرع فيها، واشتغل بها، وذاعت شهرته بين العامة والخاصة؛ لذلك اختاره عضد الدولة البويهي ليكون أحد أطباء بيمارستانه الجديد في بغداد، والبالغ عددهم 24 طبيبًا، وهذا دليل على عِظَم مكانته العلمية المرموقة التي وصل إليها حينئذٍ .
لذلك ونتيجة لممارسة ابن مندويه العمل الطبي في بيمارستان متقدِّم كالبيمارستان العضدي؛ فقد كان إنتاجه العلمي غزيرًا، يدلُّ على خبرة أصيلة، وعلم متبحر في المجال الطبي، وقد ذكر ابن أبي أصيبعة العديد من المصنفات الرائعة التي أنتجها ابن مندويه؛ فقال: "ولأبي علي بن مندويه الأصفهاني من الكتب رسائل عدَّة، من ذلك أربعون رسالة مشهورة إلى جماعة من أصحابه في الطب" .
فهذا الإنتاج الغزير الذي ذكره ابن أبي أصيبعة في كلامه السابق يُدلل على قيمة ابن مندويه العلمية، ويمكن أن نقسِّم إنتاجه الطبي إلى قسمين:
"القسم الأول: الأمور الطبية التي عالجها ابن مندويه من خلال رسائله الطبية القيمة التي شرح فيها توصيفات بعض الأمراض، وطُرُق علاجها، ومشاوراته ورأيه في كلٍّ منها، وهي على سبيل المثال لا الحصر؛ كما ذكر ابن أبي أصيبعة: "رسالة إلى أحمد بن سعد في تدبير الجسد، رسالة إلى عباد بن عباس في تدبير الجسد، رسالة إلى أبي الفضل العارض في تدبير الجسد، رسالة إلى أبي القاسم أحمد بن علي بن بحر في تدبير المسافر، رسالة إلى حمزة بن الحسن في تركيب طبقات العين، رسالة إلى أبي الحسن الوارد في علاج انتشار العين، رسالة إلى عباد بن عباس في وصف انهضام الطعام، رسالة إلى أحمد بن سعد في وصف المعدة والقصد لعلاجها..." .
وهذه الرسائل - على ما ذكر ابن أبي أصيبعة – توضِّح مدى اهتمام ابن مندويه بالمناحي الطبية المختلفة: من أمراض المعدة والجهاز الهضمي، ووصف علاج ما يطرأ عليها من أمراض، وكذا أمراض العيون والرمد، ولعلّه كان من أوائل المهتمِّين بهذا الجانب المهم في تلك الفترة الزمنية المبكِّرة من تاريخ طب العيون والرمد .
ولم تكتفِ رسائله بهذه الجوانب فقط، بل هناك رسائل أخرى تتضمَّن علاج بعض أمراض المسالك البولية والكلى، وأمراض السكر، والجهاز العظمي، وأمراض الجلد، وبعض أمراض الأذن، ومرض الاستسقاء، وأمراض الأطفال .
وقد اهتمَّ ابن مندويه بتأثير بعض المشروبات والأعشاب على الحالة الصحية وباستخداماتها الطبية، وكان ذلك في رسائل، منها: التمرهندي، والكافور، وفي فعل الأشربة على الجسد، وفي وصف مسكر الشراب ومنافعه ومضارّه .
والذي لفت انتباهنا في هذه الرسائل التي ذكرها ابن أبي أصيبعة رسالةٌ أرسلها ابن مندويه "إلى الأستاذ الرئيس في علاج شقاق البواسير" ، وهذه الرسالة بجانب عرضها لعلاج قروح البواسير، إن دلّت فإنما تدلُّ على علاقة وثيقة بين ابن مندويه وابن سينا، ولا ريب أن كلاًّ منهما قد استفاد من الآخر؛ نظرًا للقرب المكاني بينهما، والذي أتاح لابن مندويه أن يدرس عن كثبٍ كُتبَ ابن سينا الذائعة الصيت والانتشار، وأتاح لابن سينا أن يستشير ابن مندويه - على ما يبدو من الرسالة السابقة - في علاج بعض الأمراض كمرض البواسير، وغيره .
وأما القسم الثاني: فيشتمل على إفراد ابن مندويه لمجموعة من الكتب المهمة التي تضمَّنت خبرته الكبيرة في ميدان العلوم الطبية، ومنها كتاب (المدخل إلى الطب)، وكتاب (كُنَّاش الطب) وكتاب (في الشراب)، وكتاب (الطبيخ)، وكتاب (الجامع المختصر من علم الطب)، وكتاب (الكافي في الطب) يُعرف بكتاب القانون الصغير في الطب .
وإلى جانب الاهتمامات الطبية التي عني ابن مندويه الأصبهاني فإنه كان على دراية كبيرة بعلوم اللغة والأدب والشعر، بل كان محبًّا للُّغة العربية وما يتعلَّق بها؛ وهذا ما نراه واضحًا في إحدى رسائله الطبية التي يوصي فيها الأطباء بضرورة تعلُّم اللغة العربية، وهي رسالة بعنوان: (رسالة في الردِّ على من أنكر حاجة الطبيب إلى علم اللغة) ؛ مما يُؤكِّد أن اللغة العربية كانت لغة العلم والثقافة في (القرن الرابع الهجري)، ولم تكن لغة القرآن والعلوم الشرعية فقط، كما يدلُّنا على مدى قدرة ابن مندويه في اللغة العربية ، و إلمامه بضروبها .
هكذا كان ابن مندويه أحد أكابر علماء الإسلام المرموقين ذوي المكانة العلمية الرفيعة لدى الدولة الإسلامية، والتي عيَّنَته في إحدى أكبر بيمارستاناتها في ذلك الوقت، ومن ذوي المكانة الرفيعة في إنتاجه العلمي الذي زاد على الأربعين ما بين رسالة و كتاب .
المصدر :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق