الجمعة، 4 مارس 2016

الإمام الطبري

الإمام الطبري



إمام المؤرخين والمفسرين

كان أكثر علماء عصره همة في طلب العلم وتحصيله وفي تأليف أمهات الكتب حتى روي أنه كان يكتب أربعين صفحة في كل يوم، إنه الإمام محمد بن جرير الطبري صاحب أكبر كتابين في التفسير والتاريخ، قال عنه أحمد بن خلكان صاحب وفيات الأعيان:"العلم المجتهد عالم العصر صاحب التصانيف البديعة كان ثقة صادقا حافظا رأسا في التفسير إماما في الفقه والإجماع والاختلاف علامة في التاريخ وأيام الناس عارفا بالقراءات وباللغة وغير ذلك"
فإلى صفحات من سيرته ومواقف من حياته .


 بدأ الطبري طلب العلم بعد سنة 240هـ وأكثر الترحال ولقي نبلاء الرجال، قرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد ثم ارتحل منها إلى المدينة المنورة ثم إلى مصر والري وخراسان، واستقر في أواخر أمره ببغداد.
 سمع الطبري من العديدين من مشايخ عصره وله رحلات إلى العديد من عواصم العالم الإسلامي التي ازدهرت بعلمائها وعلومها ومنها مصر.


كان الطبري من أكثر علماء عصره نشاطا في التأليف، أشهر مؤلفاته تفسيره المعروف بتفسير الطبري، وكتاب " تاريخ الأمم والملوك " روي عنه أنه قال: استخرت الله وسألته العون على ما نويته من تصنيف التفسير قبل أن أعمله ثلاث سنين فأعانني.
قال الحاكم وسمعت أبا بكر بن بالويه يقول قال لي أبو بكر بن خزيمة بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير قلت بلى كتبته عنه إملاء قال كله قلت نعم قال في أي سنة قلت من سنة ثلاث وثمانين ومائتين إلى سنة تسعين ومائتين قال فاستعاره مني أبو بكر ثم رده بعد سنين ثم قال لقد نظرت فيه من أوله إلى آخره وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير.
قال أبو محمد الفرغاني تم من كتب محمد بن جرير كتاب التفسير الذي لو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب كل كتاب يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل وتم من كتبه كتاب التاريخ إلى عصره وتم أيضا كتاب تاريخ الرجال من الصحابة والتابعين وإلى شيوخه الذين لقيهم وتم له كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام وهو مذهبه الذي اختاره وجوده واحتج له وهو ثلاثة وثمانون كتابا وتم له كتاب القراءات والتنزيل والعدد وتم له كتاب اختلاف علماء الأمصار وتم له كتاب الخفيف في أحكام شرائع الإسلام وهو مختصر لطيف وتم له كتاب التبصير وهو رسالة إلى أهل طبرستان يشرح فيها ما تقلده من أصول الدين وابتدأ بتصنيف كتاب تهذيب الآثار وهو من عجائب كتبه ابتداء بما أسنده الصديق مما صح عنده سنده وتكلم على كل حديث منه بعلله وطرقه ثم فقهه واختلاف العلماء وحججهم وما فيه من المعاني والغريب والرد على الملحدين فتم منه مسند العشرة وأهل البيت والموالي وبعض مسند ابن عباس فمات قبل تمامه، قلت هذا لو تم لكان يجيء في مائة مجلد، قال وابتدأ بكتابه البسيط فخرج منه كتاب الطهارة فجاء في نحو من ألف وخمسمائة ورقة لأنه ذكر في كل باب منه اختلاف الصحابة والتابعين وحجة كل قول وخرج منه أيضا أكثر كتاب الصلاة وخرج منه آداب الحكام وكتاب المحاضر والسجلات وكتاب ترتيب العلماء وهو من كتبه النفيسة ابتدأه بآداب النفوس وأقوال الصوفية ولم يتمه وكتاب المناسك وكتاب شرح السنة وهو لطيف بين فيه مذهبه واعتقاده وكتابه المسند المخرج يأتي فيه على جميع ما رواه الصحابي من صحيح وسقيم ولم يتمه ولما بلغه أن أبا بكر بن أبي داود تكلم في حديث غدير خم عمل كتاب الفضائل فبدأ بفضل أبي بكر ثم عمر وتكلم على تصحيح حديث غدير خم واحتج لتصحيحه ولم يتم الكتاب.
 وقال بعض العلماء: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا.


 يقول أحمد بن خلكان لأبي جعفر في تأليفه عبارة وبلاغة فمما قاله في كتاب الآداب النفيسة والأخلاق الحميدة القول في البيان عن الحال الذي يجب على العبد مراعاة حاله فيما يصدر من عمله لله عن نفسه قال إنه لا حالة من أحوال المؤمن يغفل عدوه الموكل به عن دعائه إلى سبيله والقعود له رصدا بطرق ربه المستقيمة صادا له عنها كما قال لربه عز ذكره إذ جعله من المنظرين {لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم} (الأعراف: 16-17) طمعا منه في تصديق ظنه عليه إذ قال لربه{لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا} (الإسراء:62) فحق على كل ذي حجى أن يجهد نفسه في تكذيب ظنه وتخييبه منه أمله وسعيه فيما أرغمه ولا شيء من فعل العبد أبلغ في مكروهه من طاعته ربه وعصيانه أمره ولا شيء أسر إليه من عصيانه ربه واتباعه أمره فكلام أبي جعفر من هذا النمط وهو كثير مفيد.
وروي عن أبي سعيد الدينوري مستملي ابن جرير أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بعقيدته فمن ذلك وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر وهذا تفسير هذا الإمام مشحون في آيات الصفات بأقوال السلف على الإثبات لها لا على النفي والتأويل وأنها لا تشبه صفات المخلوقين أبدا.


 قال أبو سعيد بن يونس: محمد بن جرير من أهل آمل كتب بمصر ورجع إلى بغداد وصنف تصانيف حسنة تدل على سعة علمه.
 وقال الخطيب البغدادي: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب كان أحد أئمة العلماء يُحكم بقوله ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة والتابعين عارفا بأيام الناس وأخبارهم. وكان من أفراد الدهر علما وذكاء وكثرة تصانيف قل أن ترى العيون مثله.


 قيل إن المكتفي أراد أن يحبس وقفا تجتمع عليه أقاويل العلماء فأحضر له ابن جرير فأملى عليهم كتابا لذلك فأخرجت له جائزة فامتنع من قبولها فقيل له لا بد من قضاء حاجة قال اسأل أمير المؤمنين أن يمنع السؤال يوم الجمعة ففعل ذلك وكذا التمس منه الوزير أن يعمل له كتابا في الفقه فألف له كتاب الخفيف فوجه إليه بألف دينار فردها.

******
 وروي عن محمد بن أحمد الصحاف السجستاني سمعت أبا العباس البكري يقول جمعت الرحلة بين ابن جرير وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني بمصر فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم وأضر بهم الجوع فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام فخرجت القرعة على ابن خزيمة فقال لأصحابه أمهلوني حتى أصلي صلاة الخيرة قال فاندفع في الصلاة فإذا هم بالشموع ورجل من قبل والي مصر يدق الباب ففتحوا فقال أيكم محمد بن نصر فقيل هو ذا فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه ثم قال وأيكم محمد ابن جرير فأعطاه خمسين دينارا وكذلك للروياني وابن خزيمة ثم قال إن الأمير كان قائلا بالأمس فرأى في المنام أن المحامد جياع قد طووا كشحهم فأنفذ إليكم هذه الصرر وأقسم عليكم إذا نفذت فابعثوا إلي أحدكم.

***
 وقال أبو محمد الفرغاني في ذيل تاريخه على تاريخ الطبري قال حدثني أبو علي هارون بن عبد العزيز أن أبا جعفر لما دخل بغداد وكانت معه بضاعة يتقوت منها فسرقت فأفضى به الحال إلى بيع ثيابه وكمي قميصه فقال له بعض أصدقائه تنشط لتأديب بعض ولد الوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان قال نعم فمضى الرجل فأحكم له أمره وعاد فأوصله إلى الوزير بعد أن أعاره ما يلبسه فقربه الوزير ورفع مجلسه وأجرى عليه عشرة دنانير في الشهر فاشترط عليه أوقات طلبه للعلم والصلوات والراحة وسأل استلافه رزق شهر ففعل وأدخل في حجرة التأديب وخرج إليه الصبي وهو أبو يحيى فلما كتبه أخذ الخادم اللوح ودخلوا مستبشرين فلم تبق جارية إلا أهدت إليه صينية فيها دراهم ودنانير فرد الجميع وقال قد شرطت على شيء فلا آخذ سواه فدرى الوزير ذلك فأدخله إليه وسأله فقال هؤلاء عبيد وهم لا يملكون فعظم ذلك في نفسه.

***
 وكان ربما أهدى إليه بعض أصدقائه الشيء فيقبله ويكافئه أضعافا لعظم مروءته. وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد فأما أهل الدين والعلم فغير منكرين علمه وزهده في الدنيا ورفضه لها وقناعته رحمه الله بما كان يرد عليه من حصة من ضيعة خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة، و كان ينشد لنفسه:

إذا أعسـرت لم يعلم رفيقي وأستغني فيستغنـي صديقـي
حيائـي حافظ لي ماء وجهي ورفقي في مطالبتـي رفيقي
ولو أني سمحت بماء وجهي لكنت إلى العلى سهل الطريق
وله خلقـان لا أرضى فعالهما بطـر الغنى ومذلـة الفقـر
فإذا غنيت فلا تكـن بطرا وإذا افتقرت فتـِهْ على الدهــر

***
 قال أبو القاسم بن عقيل الوراق: إن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا قالوا كم قدره فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة فقالوا هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه فقال إنا لله ماتت الهمم فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوا من ذلك ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ.

***
وكان الطبري لا يقبل المناصب خوفا أن تشغله عن العلم من ناحية ولأن من عادة العلماء البعد عن السلطان من ناحية أخري، فقد روى المراغي قال لما تقلد الخاقاني الوزارة وجه إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير فامتنع من قبوله فعرض عليه القضاء فامتنع فعرض عليه المظالم فأبى فعاتبه أصحابه وقالوا لك في هذا ثواب وتحيي سنة قد درست وطمعوا في قبوله المظالم فذهبوا إليه ليركب معهم لقبول ذلك فانتهرهم وقال قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه قال فانصرفنا خجلين.


 قال أبو محمد الفرغاني حدثني أبو بكر الدينوري قال لما كان وقت صلاة الظهر من يوم الاثنين الذي توفي في آخره ابن جرير طلب ماءً ليجدد وضوءه فقيل له تؤخر الظهر تجمع بينها وبين العصر فأبى وصلى الظهر مفردة والعصر في وقتها أتم صلاة وأحسنها، وحضر وقت موته جماعة منهم أبو بكر بن كامل فقيل له قبل خروج روحه يا أبا جعفر أنت الحجة فيما بيننا وبين الله فيما ندين به فهل من شيء توصينا به من أمر ديننا وبينة لنا نرجو بها السلامة في معادنا فقال الذي أدين الله به وأوصيكم هو ما ثبت في كتبي فاعملوا به وعليه وكلاما هذا معناه وأكثر من التشهد وذكر الله عز وجل ومسح يده على وجهه وغمض بصره بيده وبسطها وقد فارقت روحه الدنيا.
قال أحمد بن كامل توفي ابن جرير عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاث مئة ودفن في داره برحبة يعقوب يعني ببغداد قال ولم يغير شيبة وكان السواد فيه كثيرا وكان أسمر أقرب إلى الأدمة (السواد) أعين نحيف الجسم طويلا فصيحا وشيعه من لا يحصيهم إلا الله تعالى.


روي عن أبي الحسن هبة الله بن الحسن الأديب لابن دريد يرثي الطبري في قصيدة طويلة جاء فيها:

لن تستطيع لأمــر الله تعقيـبا***** فاستنجد الصبر أو فاستشعر الحوبـا

وافزع إلى كنف التسليم وارض بما***** قضى المهيمن مكروهــا ومحبوبا

إن الـــرزية لا وفر تزعزعه*****أيدي الحوادث تشتيتـــا وتشذيبــا

ولا تفـرق ألاف يفـــوت بهم*****بين يغادر حبـل الوصــل مقضـوبا

لكن فقدان من أضحى بمصرعه***** نور الهدى وبهــاء العلم مسلوبــا

إن المنية لم تتلف به رجـــلا*****بل أتلفت علمـا للديــن منصوبــا

أهدى الردى للثــرى إذ نال مهجته*****نجما على من يعادي الحق مصبوبا

كان الزمان به تصفـو مشاربه*****فالآن أصبح بالتكدــير مقطوبــــا

كــلا وأيامه الغر التي جــعلت*****للعـــلم نورا وللتقوى محاريبــا

لا ينسري الدهر عن شبه له أبدا*****ما استوقف الحج بالأنصاب أركــوبا

إذا انتضى الرأي في إيضاح مشكلة*****أعــاد منهجها المطموس ملحوبا

لا يولج اللغـو والعــوراء مسمــعه*****ولا يقارف ما يغشيه تأنيبــا

تجــلو مواعظـه رين القلوب كما*****يجلو ضياء سنا الصبح الغياهـيبا

لا يـأمن العجز والتقصـير مادحه*****ولا يخاف على الإطناب تكــذيـبا

ودت بقــاع بلاد الله لو جعلت*****قــبرا له لحباها جســمه طــيبا

كانت حياـــتك للدنيا وساكنها***** نورا فأصبح عنها النور محجوبــا

لو تعلم الأرض من وارت لقد***** خشعت أقطارها لك إجــلالا وترحيبا

إن يندبوك فقد ثلت عروشــهم*****وأصبح العلم مرثيــا ومندوبــا

ومن أعاجيب ما جاء الزمان به*****وقد يبــ،ين لنا الدهــر الأعاجيبا

أن قد طوتك غموض الأرض في لحف*****وكنت تملأ منها السهل واللوبا

وقال أبو سعيد بن الأعرابي:

حدث مفظع وخطب جليل*****دق عن مثله اصطبار الصبور

قام ناعي العلوم أجمع لما*****قــام ناعي محمد بن جرير

------------------------------------------------------------------

سلسلة المؤرخون
----------- 

الطبري .. العالم الموسوعي

------------------ 



الإمام الطبري
ميلاد الطبري ونشأته

هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وُلِدَ بطبرستان في آخر سنة 224هـ [1]، وحفظ 
الطبري القرآن وله سبع سنين، وصلَّى بالناس وهو ابن ثماني سنين، وكتب الحديث وهو في التاسعة، ثم ارتحل إلى الرَّي، ثم إلى بغداد ليأخذ العلم على أحمد بن حنبل؛ إلا أن الإمام أحمد مات قبل أن يصل الطبري إلى بغداد، فاتجه إلى البصرة فأخذ عن شيوخها، ثم انتقل إلى واسط، فالكوفة، ثم رجع إلى بغداد مرة أخرى، ثم رحل إلى مصر سنة 253هـ، واجتمع بمحمد بن إسحاق بن خزيمة، العالم المؤرخ، ثم عاد إلى بغداد بعد رحلة طويلة وانقطع للدرس والتأليف .

تلاميذ الطبري

لم يحصر الطبري نفسه بين الجدران والكتب، ولم يبتعد عن الحياة والمجتمع والأمة، وإنما كان منفتحًا على الحياة؛ يفتي الناس، ويملي على طلابه وتلامذته، ويقريء القرآن والقراءات، ويحدِّث بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي بالناس إمامًا، ويناظر الأئمة.. لذلك لا ينحصر إنتاجه في كتبه ومصنفاته، بل يشمل طلابه وتلامذته وأتباعه ومواقفه..
ومن أشهر تلامذته: القاضي أبو بكر بن كامل؛ أجلَّ أصحاب الطبري، وكان يتفقَّه على مذهب أبي جعفر الطبري [2]، وكتب عدَّة كتب على مذهبه، وهارون بن عبد العزيز (أهم رواة كتب الطبري)، وابن بشار الأحول (أستاذ ابن سريج) [3]..

ومن تلامذته في الفقه:

أبو الفرج المعافي (المعروف بابن الطرَّار) وقد شرح كتاب "الخفيف" للطبري [4]، وعلي بن عبد العزيز الدولابي، وأبو بكر بن أبي الثلج الكاتب، وأبو القاسم بن العرَّاد، وأبو محمد بن جعفر الفرغاني، وله كتاب "الذيل على تاريخ الأمم للطبري" [5].

ومن تلامذته في الحديث:

قاضي الكوفة أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة البغدادي، وسليمان اللخمي الشامي، وأبو شعيب الحراني، ومحمد بن أحمد بن سنان، والفقيه المحدّث محمد بن شعيب النيسابوري، ومخلَّد بن جعفر الباقرحي، والقاضي أبو بكر الماينجي [6].

إسهامات الطبري العلمية

كان الطبري ذكيًّا نابغة، سريع الحفظ، ذا قدرةٍ هائلة على التعلُّم؛ فقد حدَّث عن نفسه؛ فقال: "جاءني يومًا رجلٌ فسألني عن شيء في علم العروض، ولم أكن نشطتُ له قبل ذلك؛ فقلت له: إذا كان غدًا فتعال إلي"، وطلب سِفْرَ العروض للخليل بن أحمد، فجاءوا له به فاستوعبه وأحاط بقواعده وكلياته في ليلة واحدة، يقول: "فأمسيت غير عروضي، وأصبحت عروضيًّا" [7].
ولم يقتصر الطبري على فن أو علم واحد، بل جمع مختلف العلوم الشرعية واللغوية وغيرها، وكان إمامًا فيها؛ فكان إمامًا في السنة وعلوم الحديث، وعدَّه النووي من طبقة الترمذي والنسائي، وسمع الحديث من كثيرين، بعضهم من شيوخ البخاري ومسلم.
وكان الطبري –كذلك- إمامًا في القراءات وعلوم القرآن، صنَّف فيها، وتعمَّق في دارسة التفسير، وصنَّف تفسيره، وضمَّنه علوم القرآن، حتى اعتُبِرَ إمامَ المفسرين وشيخهم.
وكان إمامًا في الفقه، وعلم الخلاف، والفقه المقارن، واختلاف العلماء، وكان من الأئمَّة المجتهدين، وصاحب مذهب مستقل، وتبعه بعض الناس على مذهبه، وصنف كتبًا في الفقه العام، والفقه المقارن، والفقه المذهبي.
ويُعَدُّ إمامًا في علم التاريخ، وهو شيخ المؤرخين، وله فيه كتب عظيمة. كما كان مبرَّزًا في علوم العربية؛ من المعاني واللغة والنحو والصرف والعروض والبيان، وكان عالمًا بالفلسفة والمنطق والجدل، وكان عنده شيء من الطب والجبر والرياضيات، وله نظم وشعر. وكان عالمًا بأصول الدين والتوحيد وعلم الكلام، وله كتب في ذلك. وكان عالمًا بالحديث، فهو حافظ محدث، وصنف كتبًا في علم الحديث ومصطلحه، والتزم بمنهج المحدِّثين في معظم كتبه. وكان عالمًا بأصول الفقه وقواعد الاجتهاد والاستنباط، وصنَّف فيه وعمل به. وكان عالمًا بآداب النفس وعلم الأخلاق والتربية، وصنف فيها [8].

من مؤلَّفات الطبري [9]

تدلُّ مؤلَّفات الطبري على غزارة علمه، وسَعَة ثقافته، ودقته في اختيار العلوم الشرعية والأحكام المتعلقة بها، وطول نَفَسِه، وصبره على البحث والدرس؛ فقد ذكر الخطيب في تاريخه أنَّ محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يومٍ منها أربعين ورقة [10].

ومن أشهر هذه المؤلَّفات:

1- "جامع البيان عن تأويل القرآن" المعروف بتفسير الطبري، قال 
السيوطيعن تفسير الطبري: "وكتابه أجلُّ التفاسير وأعظمها" [11]، وقال النووي: "أجمعت الأمة على أنه لم يُصنَّف مثل تفسير الطبري" [12]، وقال أبو حامد الإسفراييني: "لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرًا [13].
2- "تاريخ الأمم والملوك" المعروف بتاريخ الطبري.
3- "اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام" المعروف بـ"اختلاف الفقهاء"، وهو في علم الخلاف.
4- "تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار"، وسمّاه القفطي: "شرح الآثار"، وهو كتاب في الحديث.
5- "آداب القضاة"، وهو في الفقه عن أحكام القضاء وأخبار القضاة.

منهجه الطبري العلمي والفكري

منهج الطبري في التفسير

لم يُقدِم الطبري على تفسير كتاب الله تعالى إلا بعد نضوج الفكر، واكتمال العقل، وتحصيل العلوم، والتزود بآلات التفسير ووسائله، ولم يكن ليفسِّر القرآن بمجرد الهوى والتَّشهِّي والرأي، بل سار على منهج واضح وخطة حكيمة، وفوق ذلك فقد رسم الخطوط العريضة لتفسير القرآن الكريم، ووضع القواعد الصحيحة، واستنَّ القوانين الحكيمة، ووضع السياج الأمين للحفاظ على مقاصد الشريعة.
وقد قدَّم الطبري مقدمة مستفيضة لكتابه، تحتوي أصول التفسير في الإسلام؛ ليلتزم بها بنفسه، ويرسم الطريق لمن يأتي بعده، ويحدد الحدود لتناول كتاب الله تعالى؛ وقد عرض الطبري منهجه بإيجاز، بعد أن بيَّن فضل محمد بالنبوة والمعجزات، وفضل الله على هذه الأمة بحفظ كتابها ومعجزة نبيها، ثم بين فضل العناية بكتاب الله، ثم قال: "ونحن في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانٍ مُنشِئون كتابًا مستوعبًا، لكل ما بالنَّاس إليه الحاجة من علمه جامعًا، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافيًا، ومخبرون في كل ذلك، بما انتهى إلينا من اتفاق الحُجَّة فيما اتفقت عليه الأمة، واختلافها فيما اختلفت فيه منه، ومبينو عِلَلَ كلِّ مذهب من مذاهبهم، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه" [14]، ثم شرع الطبري بتفصيل منهجه في أصول التفسير مع ذكر الأدلة الشرعية واللغوية، وضرب الأمثلة العملية من القرآن الكريم والسنة وكلام العرب واللغة والشِّعر [15].
وتفسير الطبري ذو منهج خاص، يذكر فيه الآية أو الآيات من القرآن، ثم يعقبها بذكر أشهر الأقوال التي أثرت عن الصحابة والتابعين في تفسيرها، ثم يورد بعد ذلك رواياتٍ أخرى متفاوتة الدرجة في الثقة والقوة في الآية كلِّها أو بعض أجزائها، بناءً على خلافٍ في القراءة، أو اختلافٍ في التأويل، ثم يعقب كل ذلك بالترجيح بين الروايات، واختيار أولاها بالتقدمة، وأحقها بالإيثار، ثم ينتقل إلى آية أخرى، فينهج نفس النهج عارضًا ثم ناقدًا ثم مرجحًا؛ وهو إذ ينقد أو يرجح، يرد النقد أو الترجيح إلى مقاييس تاريخية من حال رجال السند في القوة والضعف، أو إلى مقاييس علمية وفنية: من الاحتكام إلى اللغة التي نزل فيها الكتاب، نصوصها وأقوال شعرائها، ومن نقد القراءة وتوثيقها أو تضعيفها، ومن رجوع إلى ما تقرَّر بين العلماء من أصول العقائد، أو أصول الأحكام أو غيرهما من ضروب المعارف التي أحاط بها ابن جرير، وجمع فيها مادة لم تجتمع لكثير من غيره من كبار علماء عصره" [16].
وبعد أن بين الطبري ذلك وضع قواعد التفسير، وأصول التأويل، وحذَّر من التفسير بالرأي، والتلاعب في كلام الله تعالى بحسب الأهواء والأغراض، وأورد الأحاديث الكثيرة بأسانيدها في تحريم ذلك، وتجنَّب التفسير بالرأي المجرد، وقال: "إن ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلا بنص بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بنصبه الدلالة عليه، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه؛ لأن إصابته ليست إصابة موقن أو محق، وإنما هو إصابة خارص وظانّ، والقائل في دين الله بالظن قائل على الله ما لم يعلم، وقد حرَّم الله ذلك" [17].
ويلتزم الطبري بما اتفق عليه المسلمون في درجات التفسير؛ فيلجأ أولاً إلى تفسير القرآن بالقرآن، ثم إلى تفسيره بالسُّنة البيانية وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتبع ذلك بالآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم، وعن التابعين.

المراجع :

 [1] ياقوت الحموي: معجم الأدباء، 18/48.
[2] المصدر السابق 18/ 54.
[3] انظر: ابن قاضي شهبة : طبقات الشافعية 3/121.
[4] ابن النديم: الفهرست ص 328، 329.
[5] الذهبي: سير أعلام النبلاء 14/271، 16/132، فؤاد سزكـين: تاريخ التراث العربي 1/2/164، تاريخ الأدب العربي 3/47.
[6] (أبو بكر) يوسف بن القاسم الماينجي (ت 375هـ)، قاضي دمشق ومُسند الشام في وقته.
[7] السابق نفسه 18/56.
[8] محمد الزحيلي: الإمام الطبري ص 46، 47.
[9] لمعرفة مؤلفات الطبري؛ انظر: ياقوت الحموي: معجم الأدباء 18/42 وما بعدها، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/16، طبقات الشافعية الكبرى 3/121، تذكرة الحفاظ 2/711، مفتاح السعادة 1/416، 2/426، تاريخ التراث العربي 1/2/162، تاريخ الأدب العربي 3/45 وما بعدها، كشف الظنون 1/64، 303، إنباه الرواة 3/90، الطبري للحوفي ص89، الفهرست ص326، الطبري للمصلح ص 38، الطبري للزحيلي ص51 وما بعدها.
[10] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/ 163.
[11] السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، 2/ 186.
[12] النووي: تهذيب الأسماء 1/ 78.
[13] ياقوت الحموي: معجم الأدباء 18/ 42.
[14] الطبري: جامع البيان في تأويل آي القرآن 1/5.
[15] محمد الزحيلي: الإمام الطبري ص120.
[16] انظر: كلمة (الناشر) أ. محمد محمود الحلبي: الطبعة الثالثة، تفسير الطبري 1/4.
[17] الطبري: جامع البيان في تأويل آي القرآن 1/ 35.

ليست هناك تعليقات:

المتابعون

أرشيف المدونة الإلكترونية