السموأل بن يحيى المغربي .. الطبيب المتوقد
================
هو صموئيل بن يهوذا بن آبون، يهودي وابن لأحد الأحبار الكبار من اليهود، وكذلك كانت أُمُّه، وكعادة العرب في التعريب فقد سماه والده (السموأل).
طبيب أنجبته شجرة الحضارة الإسلامية، نبغ في علوم كثيرة؛ منها: الجبر، والطب، والهندسة، وغيرها، ويتَّفق المترجمون لحياته على أنه وُلِدَ بالمغرب، وتوفي بالشرق الإسلامي في مدينة (مراغة) من أرض أذربيجان عام (570 هـ/ 1174م)، كما يذكرون أنه مات شابًّا، بما يُهَيِّئ لنا أن نتوقَّع أن مولده كان من بعد العقد الثاني من القرن السادس الهجري.
وفي سيرته الذاتية يحكي السموأل أن أباه هو الحبر اليهودي - يهوذا بن آبون- أعلم أهل زمانه بعلوم التوراة، وأقدرهم على التوسع والإنشاء. كما كانت أمه متبحِّرة في علوم التوراة والعبرية كذلك؛ فهي سليلة أب من العلماء باليهودية، ويمتدُّ نسبها إلى السبط الذي منه موسى عليه السلام.
فهو إذن سليل بيت يهودي عريق في العلم، ثم هو طفل أتى بعد انتظار طويل؛ فكان الولد الذي أفرغ فيه أبواه خلاصة علمهما وتربيتهما، إلى الحدِّ الذي أكمل فيه العلم باللغة العبرية وبعلوم التوراة عندما كان في الثالثة عشر من عمره.
وبعد اطمئنان الأب إلى هذا الوعي بالتوراة وعلومها، انتقل السموأل إلى تَشَرُّب باقي العلوم، فتعلَّم الحساب الهندي والزيجات (وهي الجداول الفلكية)، فأحكم هذين العلمين في أقل من سنة -كما يروي- ثم تعلَّم الحساب الديواني، وعلم المساحة، والجبر، والمقابلة، والهندسة.
ومن اللافت للنظر أننا نجد لروايته مع الطب طعمًا خاصًّا، فهو منذ أن بدأ تعلُّمه وهو يأخذ ما عند الشيوخ، ثم يتعلَّم الطب إلى جوارها، فبدأ تعلُّم الطب على يد الشيخ الأستاذ أبي الحسن الدسكري، ثم صار يتأمَّل ويشاهد ما يتَّفق من الأعمال الصناعية في الطب، والمعالجات التي يعالجها خاله أبو الفتوح بن البصري، وحين يكمل تعلمه في علم من العلوم ينتقل إلى غيره، لكنه يبدو حريصًا على أن يذكر أنه في تلك الفترة لا يقطع القراءة في الطب ومشاهدة علاج الأمراض، ثم يمضي بنا في رحلته العلمية ويُصِرُّ على أن يُذَكِّرَنا أن الطب كان يشغله بموازاة هذه العلوم، فيقول: "وأنا في خلال ذلك (يقصد: دراسة الجبر والهندسة) متشاغل بالطب".
إننا نلمح في حياة السموأل اهتمامًا خاصًّا بالطب؛ فهو إذ يتحدَّث عن شغفه بالعلوم الهندسية والرياضية يقول: "وكان بي من الشغف بهذه العلوم، والعشق لها ما يلهيني عن المطعم والمشرب إذا فكرت ببعضها". ثم ينقطع لها ليحلَّ معضلاتها، ويَرُدَّ على أربابها ممن سبقوه، ويُحَقِّق إنجازات ضخمة في التعديل على إقليدس في الهندسة، حتى يقول: "فتح الله عَلَيَّ كثيرًا ممَّا ارْتُجَّ على مَن سبقني من الحكماء المبرَّزين".
ولكنه في خضمِّ هذه الإنجازات بدا حريصًا على أن يذكر إنجازاته في علم الطب، فيقول: "وفي خلال ذلك ليس لي مكسب إلاَّ بصناعة الطب، وكان لي منها أوفر حظٍّ؛ إذ أعطاني الله من التأييد فيها ما عرفت به كل مرض يقبل العلاج من الأمراض التي لا علاج لها، فما عالجت مريضًا إلاَّ وعُوفِيَ، وما كرهت علاج مريض إلاَّ وعجز عن علاجه سائر الأطباء، وكفُّوا عن تدبيره (أي: توقفوا عن المحاولة) فالحمد لله على جزيل نعمته وفضله".
ثم يقول: "واتَّضح لي بعد مطالعة ما طالعته من الكتب التي بالعراق والشام وأذربيجان وكوهستان الطريقَ إلى استخراج علوم كثيرة، واختراع أدوية لم أعرف أني سُبقت إليها؛ مثل: الدردياق الذي وسمته بالمخلِّص ذي القوة النافذة، وهو يُبرئ من عدَّة أمراض عسيرة في بعض يوم، وغيرها من الأدوية التي رَكَّبتها، ممَّا فيه منافع وشفاء للناس بإذن الله تعالى".
وهكذا، نبغ السموأل في كل هذه العلوم، وظلَّ الطب صُلب عمله، وأحد فروع نبوغه، حتى عمل لبيت البهلون أمراء أذربيجان.
ومن العلوم التي شُغِف بها وأحبَّها وتوفَّر عليها علم التاريخ، وهو الذي أكسبه بلاغة وفصاحة وبيانًا، وبعقله هذا الوقَّاد دخل من علم التاريخ إلى التفكير في الإسلام وفي اليهودية والمقارنة بينهما، وظلَّ في هذه الأيام سنينًا تتوَّق نفسه لأن يُسْلِمَ، ولكنه لا يجرؤ على هذا القرار خشية أن يَفجع به أباه، فظلَّ متردِّدًا حتى باعدت الأسفار بينه وبين أبيه، ثم حسم الأمر عنده رؤيا رآها في المنام للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فأسلم من صبح هذا اليوم.
وبعد أن كان السموأل جنديًّا في كتيبة الحضارة الإسلامية يُثبت أنها حضارة إنسانية متفوِّقة استطاعت استيعاب كل من كانوا في ظلِّها الرغيد، ووفَّرت لهم فرصة أن يتفوَّقُوا وينبغوا دون أن تنظر بحساسية لاختلاف الدين أو العرق، انتقل ليصبح جنديًّا في كتيبة الإسلام نفسه، يُثبت أنه الدين الحقَّ الذي تهتدي إليه العقول الذكية الوقَّادة.
وانطلق السموأل بعد أن أشهر إسلامه (يوم الجمعة التاسع من ذي الحجة عام 558 هـ/ 1162م)، وهو الإشهار الذي ارتجَّت له المراغة، وضج المسجد في صلاة الجمعة بالصلاة على النبي فرحة بإسلامه، ثم كانت الخطبة في مدحه والثناء عليه، وهو ما يدلُّنا على أن إسلام السموأل كان بعد نبوغه وذيوع أمره خاصة وأنه مات بعد اثتني عشرة سنة عام (570 هـ/1174م).
وألَّف السموأل بعدئذ كتابه (إفحام اليهود)، وهو الكتاب الذي صار مرجعًا في الردِّ على اليهود إلى يومنا هذا، وهو فريد في بابه، ردَّ فيه على اليهود بطريقتهم، وكيف لا وهو ابن حبر لم يكن في زمانه مثله، وأُمُّه من النجيبات العالمات، وهما معًا اهتمَّا بتعليمه علومَ التوراة، ولم يتركاه يتعلَّم شيئًا حتى استكملها، وذاع الكتاب وانتشر في حياته، وكانت له مناظرات كثيرة قوية.
ويصفه الصفدي بقوله: "وكان يتوقَّد ذكاءً". وهو الوصف الذي يُقَرِّرهالذهبي، وعامة المترجمين يُقَدِّمُون نبوغه في الرياضة والجبر والحساب، ويغلب عليه أن يُعرف بهذا، ولربما كُنَّا لم نعرف بما حقَّقه من نبوغ طبي لو لم يكتب سيرته بنفسه، فنتبين منها هذا الشغف والحرص والنبوغ الطبي، فقد ترك السموأل تراثًا علميًّا كبيرًا، وهذا ليس بمستغرب مع مَن كان في مثل ذهنه وموسوعيته؛ فقد بلغت مصنفاته خمسة وثمانين مصنَّفًا ما بين كتاب ورسالة ومقال، ومن أهم كتبه في الطب كتاب (المفيد الأوسط في الطب) صنَّفه ببغداد للوزير مؤيد الدين أبي إسماعيل الحسين بن محمد بن الحسن بن علي سنة (564هـ/1169م)، وفي غير الطب: كتاب (الباهر في الجبر)، وألَّفه في التاسعة عشر من عمره، وكتاب (إعجاز المهندسين)، وكتاب (القوامي في الحساب الهندي)، و(المثلث القائم الزاوية)، و(المنبر في مساحة أجسام الجواهر المختلطة لاستخراج مقدار مجهولها).. وغيرها .
المصدر:
للدكتور راغب السرجاني .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق