السبت، 5 مارس 2016

عمار الموصلي .. رائد طب العيون


طبيبنا هو رجل مات منذ ألف سنة، ولكن كُتبه ظلَّت تَدرسها الجامعات الغربية حتى مائتي سنة.
هو أبو القاسم عمار بن علي الموصلي، وُلِدَ بمدينة الموصل، ولهذا سمي بالموصلي، تلقَّى تعليمه على يد كبار المفكرين بمدينة الموصل، ونبغ في طب العيون .
وكان عمار الموصلي من مشاهير الأطباء في علم الكحالة أو طب العيون -كان طبيبُ العيون يُعْرَف بالكحال- ويُشترط بمن يريد التخصُّص بعلم العيون أن يكون لديه معرفة متكاملة في تشريح العيون، ويشترط فيه - أيضًا - أن يكون ملمًّا بأنواع الأمراض التي تصيب العين، ولديه خبرة لتركيب الكحل وأمزجة العقاقير المتنوعة، وطرق العلاج .
اشتهر الموصلي في القاهرة في عصر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله  (996-1020م) ويعتبر من أكثر أطباء العيون ابتكارًا،  ويقول عنه ابن أبي أصيبعة : " كان كحَّالاً مشهورًا، ومعالجًا مذكورًا، له خبرة بمداواة أمراض العين" .

أهم إنجازات عمار الموصلي :

كان أهم إنجازات عمار الموصلي في مجال طب العيون هو اعتماده على التجارِب المختبرية في علاج مرضاه؛ لذا كان له دور عظيم في تطوير طب العيون ، حتى صار فرعًا مستقلاًّ بذاته، وبزغ نجم عمار الموصلي في هذا الفرع حتى صارت مجهوداته منهجًا لدراسة طب العيون .
وكان من أهم ما قَدَّمه عمار الموصلي للإنسانية في مجال طب العيون كتاب (المنتخب في علم العين وعللها ومداواتها بالأدوية والحديد)، ذلك الكتاب الذي طلب الحاكم بأمر الله منه أن يُؤَلِّفه .
فقام أبو القاسم الموصلي بالتنقُّل بين كثير من البلدان العربية والإسلامية ليلتقي بجهابذة الفكر، ليس فقط في العلوم الطبية ولكن في جميع فروع المعرفة، وأيضًا ليلتقي بأطباء العرب والمسلمين المتخصِّصين في طب العيون .
وكان لتنقُّل عمار الموصلي بين أقطار الدول العربية والإسلامية سببًا في نيله شهرة عظيمة في مجال طب العيون؛ حيث مارس مهنة طب العيون في كل من الموصل، وخراسان ، و سوريا، وفلسطين، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة ، و مصر .
وأثناء إقامته بمصر أجرى الكثير من العمليات الجراحية، واستفاد كثيرًا باحتكاكه بأطباء مصر، ولهذا تمكَّن من تأليف كتاب (المنتخب في علم العين)، الذي كَلَّفه به الحاكم بأمر الله، ومنذ ذلك الوقت أصبح ذلك الكتاب مرجعًا لا يمكن للباحثين وطلاب طب العيون الاستغناء
عنه .
ويتكوَّن هذا الكتاب من واحد وعشرين فصلاً في تشريح العين و فسلجتها، وذَكَرَ من أمراضها واحدًا وخمسين صنفًا، مع وصف علامات كلٍّ منها، وتداويها بالطرق الطبية والجراحية .
ويوجد بالكتاب الكثير من الأفكار التي تُعَدُّ سابقة أو اكتشافًا؛ ذلك لأن ذكرها لم يَرِدْ من قَبْلُ لدى الكحَّالين العرب، كما يوجد في (المنتخب) كثير من التفصيلات الدقيقة في وصف علامات وأعراض أمراض العين وتداويها، والتي لم يسبقه إليها اليونانيون .
وحذَّر عمار الموصلي في الكتاب من معالجة مرض الكاتاراكت (الساد) بعمليات القدح قبل نضج المرض، وشخَّص النضج حين يفقد المريض القدرة على تمييز الألوان، وقام عمار الموصلي بوصف دقيق لتقنية عملية القدح للكاتاراكت، وهذه تعتبر من أهمِّ إنجازاته الطبية، كما ذكر الموصلي استعمال المقدح الصمد بالسحب، والمقدح المجوَّف بالمصِّ .
ويُنسب إلى عمار الموصلي اختراع المقدح المجوَّف، على أن الإنصاف يقتضينا أن نذكر أن الطبيب اليوناني أنطليوس – في القرن الثاني الميلادي – قد مارس استعمال هذا النوع من المقداح، إلاَّ أنه استعمل المقداح معمولاً من الزجاج، بينما كان مقداح الموصلي معمولاً من المعدن، وتلك هي الميزة؛ إذ لا يحمل مقداح المعدن خطورة الكسر أثناء العملية .
كما أن الموصلي مارس استعمال مقداحه بكثرة وتفنُّن، وسجَّل عملياته وما حدث أثناءها من الاختلاطات والغرائب، كما يفعل الممارس الحاذق المتّبع في الطب السريري .
وكان للموصلي الكثير من الإنجازات الطبية؛ منها الطرق الجديدة التي استخدمها في إجراء العمليات الجراحية للعين، والتي لم تكن معروفة من قَبْلُ، فمثلاً كانت العملية السائدة عند البابليين لقدح الماء النازل في العين دفع العدسة المعتمة إلى داخل العين بواسطة إدخال إبرة حادَّة في العين، وعند وصولها إلى العدسة تدفع الأخيرة بلطف إلى أسفل، لتستقر داخل كرة العين بعيدة عن منطقة البؤبؤ، واستمرَّت هذه الطريقة في الحضارة وطوَّرُوها وحوَّرُوا بها، فقد ذكر الرازي أنه من الممكن استخراج الماء الأبيض من العين بعد قصِّ قسم من قزحية العين. وعملية قصِّ القزحية لتوسيع البؤبؤ هي الخطوة الأولى في العمليات الحديثة لهذا المرض .
وعندما جاء عمار الموصلي ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير حيث استعمل أنبوبًا زجاجيًّا دقيقًا ليُدْخِلَه في مُقَدِّمة العين ويُفَتِّت العدسة المعتمة، ثم تُمْتَصُّ هذه العدسة المتفتِّتَة، وكانت هذه العملية أول عملية حديثة للساد، وهي تشبه إلى حدٍّ كبير العملية الحديثة للساد وعلى نفس القاعدة، ولكن بآلات حديثة، وظلَّت هذه العملية سائدة في الشرق ولم تنتشر في الغرب في القرون الوسطى، حتى انتقلت بواسطة العرب إلى أوربا، فمارسها برسفال بوث بانجلترا عام (1194هـ/ 1780م) .
ويتَّضح هنا ما قدَّمه أبو القاسم الموصلي من خدمة عظيمة للباحثين وطلاب طب العيون؛ من خلال ما قَدَّمه من إنجازات طبية، وأيضًا بتصنيفه كتاب (المنتخب في علم العين) الذي لا يمكن لأي أحد يريد أن يكتب عن طب العيون أن يستغني عنه، ولهذا قام داود هيرمانوس بترجمته من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية ، وظلَّ هذا الكتاب يُدرس في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر .

المصدر:

 للدكتور راغب السرجاني .

ليست هناك تعليقات:

المتابعون

أرشيف المدونة الإلكترونية