الاثنين، 2 أكتوبر 2023

السيرة المحمدية العطرة ..121- 125

 الحبيب المصطفى  « ١٢١ »


(( وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى أطراف المدينة "بئر عذق" ))

____________________

وصل صلى الله عليه وسلم ، عند قدومه للمدينة إلى بئر يسمى : 

{{ بئر عذق }} .. هذا البئر على أطراف المدينة يقع في مزرعة المستظل ، تبعد عن المدينة مسافة حوالي {{ ١٠كم }} ..

استراح صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ، وشرب من ماء البئر فكان أول ماء يشربه في المدينة من ذلك البئر ، صلى الله عليه وسلم .. 

____________________

فلما جلس النبى يستريح ، قدٌَرَ الله عز وجل مع وصول نبيه إلى ذلك الماء ، أن يمر فى نفس التوقيت رجال من تجار قريش ، كانوا قادمين من الشام عائدين إلى مكة .. والقادم من الشام يمر أولاً بالمدينة ، ثم يكمل مسيره إلى مكة ..  

التجار من قريش مرّوا بالمدينة ، 

فاستراحوا على أول ماء بعد المدينة ، وتوافق ذلك مع وصول النبي صلى الله عليه وسلم {{ لبئر عذق }} ، فالتقوا هناك .. 

وكان مع هؤلاء الرجال الصحابي الجليل ، {{ الزبير بن العوام رضي الله عنه }} .. وكان مسلما وخرج في تجارة لقريش ، فلما التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وعلم أنه مهاجر ، نشر بضاعته ، وأخرج ما فيها من ثياب ، وكسا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق ثياب بيض جديدة ، 

حتى يدخلا بها المدينة .. 

واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يتم تجارته إلى مكة ، ثم يعود مهاجرا إلى المدينة .. 

فأراد الله ذلك كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى يستقبله أصحابه وهو بثياب حسنة .. فاغتسل صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء ، ولبس الثياب الجدد البيض .. 

____________________

أهل المدينة كانوا قد بلغهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه في طريقه إليهم .. 

وقدروا مسافة الطريق ، قالوا : سبعة أيام إلى ثمانية ، وبلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من مكة لهلال ربيع الأول ، 

وما كان في حسابهم ذهابه إلى الغار ، وإقامته به ثلاث أيام بلياليها ، وأيضا لم يكن في حسبانهم أنه سلك طريق لا تسلكه القوافل ، لذلك توقعوا وصوله خلال سبعة أو ثمانية أيام من بداية الرحلة .. 


يقول أصحابه والحديث مشهور ، 

عندما توقعنا وصوله صلى الله عليه وسلم ، كنا نخرج كل يوم بعد صلاة الفجر إلى طرق المدينة ، ونظل نرقب وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى تغلبنا الشمس على الظلال ، [[ أي تصبح حرارة الشمس عالية ولا يوجد شيء يستظلوا به ، فيضربهم حر الشمس ]] ..

فندخل بيوتنا ، [[ لأن موعد وصوله تأخر ، ولا يعرفون سببا للتأخير ]] ..

وهكذا كل يوم نكرر ما فعلناه ، حتى مضت أربعة أو خمسة أيام ، وهم على هذه الحال .. 

____________________

وذات يوم ، [[ يوم وصول النبي صلى الله عليه وسلم ]] .. خرجنا كعادتنا حتى غلبتنا الشمس ، فدخلنا بيوتنا ، فما أن دخلنا بيوتنا حتى سمعنا صارخاً يصرخ ، (( يهودي كان على سطح حصن لهم )) .. واليهود عندهم علم كما يعلم أهل المدينة ، أنهم يترقبون وصول النبي صلى الله عليه وسلم .. 

صرخ اليهودى قائلا : يا بني قيلة [[ نسب أهل المدينة كما ذكرنا من قبل ، إلى أمهم الكبرى جدتهم "قيلة" وهو ما يخص الأنصار أوس وخزرج ، أخوة أمهم واحدة ، ثم كان منهم العشيرتين الأوس والخزرج ، وصار بينهم قتال وحروب فأصبحوا أعداء ، فألف الله بين قلوبهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ]] ..

صاح اليهودى : يا بني قيلة ، هذا جدكم الذي تنظرون قد أقبل ، [[ الجد يعني الحظ ]] .. أى هذا حظكم قد أقبل .. 

يقول الصحابة : فأخذنا سلاحنا وخرجنا نستقبل النبي صلى الله عليه وسلم ، [[ من باب الاعتزاز وشدة الترحيب بالنبي ]] ..

خرج بعض الرجال من الأوس والخزرج ، لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو ما زال لم يدخل المدينة بعد ..

قالوا : أخذنا سلاحنا وظللنا ننظر ونراقب الطريق ، وإذا به صلى الله عليه وسلم مع صحبه الثلاث ، يخفيهم السراب مرة ويظهرهم مرة أخرى ، مبيضين مقبلين ، [[ معنى مبيضين : هو أن المسافر فى العادة ، عندما يصل من السفر ، لا تكون ثيابه نظيفة .. فهى إما أن تكون قد اتسخت بحكم السفر ، أو على الأقل عليها غبار الطريق .. قالوا : وإذا بهم مبيضين ، أي يظهرون عن بعد ، بثياب بيضاء نقية ]] .. 

____________________

يقول أصحابه رضي الله عنهم :

كان معظمنا لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يعرفه منا إلا من بايعه في مكة ، وقد دخلت يثرب تقريبا كلها فى الإسلام ، ونحن لا نعرف النبي ولم يسبق لنا أن رأيناه ، وكان هو وأبو بكر في سن واحدة متقاربة ، [[ النبي صلى الله عليه وسلم يتقدم أبو بكر فى العمر بسنتين وأربعة أشهر ]] ، فعندما سيأتى صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضى الله عنه ، لن يستطيع معظمنا التمييز أيهما يكون النبى عليه الصلاة والسلام ..

فى هذه الأثناء ، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقفا ليستريحا في بستان يعرف ببستان المستظل ، وذلك بجانب بئر "عذق" الموجود داخل البستان ، حيث رفع سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه رداءه ، ليظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أشعة الشمس الشديدة ، ولكي يعرفه الأنصار .. فأقبلوا عليه ليسلموا عليه ويصافحوه ، وجاءوه بالرطب والماء من أم جرذان ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما هذا؟.. قالوا : عذق أم جرذان (( قطع سعف النخلة يسمى عذق )) ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : اللهم بارك في أم جرذان ، فدعا هناك بالبركة ..

________________________

ثم  مضى بهم صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ، حتى وصلوا إلى بساتين قباء .. [[ أراد صلى الله عليه وسلم ، ألا يدخل المدينة المنورة مباشرة ]] ..

وكانت قباء في ذلك الوقت قرية منفصلة عن المدينة المنورة ، تبعد عن المدينة حوالي {{ ٥كم }} ..

لماذا لم يدخل النبى المدينة المنورة مباشرة ، واتجه نحو قباء؟؟.. 

الجواب : كأن النبي صلى الله عليه وسلم ، يستأذن أهل المدينة في الدخول إلى مدينتهم ، خاصة أن أهل المدينة لم يكن كلهم مسلمون ، بل كان منهم مشركون لم يدخلوا فى الإسلام بعد ، وكان هناك أيضا يهود ..

ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم  بدخوله المدينة ، ستكون هناك بداية لمرحلة جديدة من تاريخهم ، وستتغير حياتهم تغييرا شاملا .. فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، يترك لهم فرصة لمراجعة أنفسهم ، وحتى يتأكدوا أنهم قادرون على تحمل تبعات هذه المرحلة الجديدة ،

وهي مرحلة في غاية الصعوبة ؛ لأنهم سيقفون ليس فقط أمام قريش ، وهي من أقوي القبائل العربية ، بل سيقفون كذلك ، ويعلنون التحدى في مواجهة كل العرب ..

الحبيب المصطفى « ١٢٢ »

السيرة المحمدية العطرة .. 

(( الوصول الى قباء ))

___________________

وصل صلى الله عليه وسلم إلى بساتين قباء ، فنزل على بني {{ عمرو بن عوف }} ، وهم سكان قباء ..

وكان شيخهم وزعيمهم ، {{ كلثوم بن الهدم  }} .. وقيل أنه كان مازال مشركا وأسلم فيما بعد ، ولكنه استقبل النبي معهم ، فقيل أن النبى صلى الله عليه وسلم في قباء ، اختار أن يكون ضيفا على شيخهم كلثوم بن الهدم ، مع أنه مشرك ، وعرضوا عليه أن ينزل على غيره فرفض ، إلا أن ينزل على شيخ القوم ، فنزل عنده ضيفاً .

ومما قيل أيضا ، أن كلثوم بن الهدم ، كان قد أسلم قبل قدوم النبى إلى المدينة ..

وكان النبى أثناء النهار ، يجلس صلى الله عليه وسلم في مكان يجتمع فيه بأصحابه .. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يبنى مسجد وعمل فيه بيده ، وهو ما يسمى الآن بمسجد قباء ، المعروف بالقرآن الكريم ، قال تعالى : 

{{ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }} ..

 

وانقسم رأى المفسرين والعلماء فى المقصود بما جاء : {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} ، إلى ثلاثة أقوال :

الأول : أنه مسجد قباء ..

الثاني : أنه مسجد المدينة – أي مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم ..

الثالث : أن المراد به كل مسجد بني في المدينة .. والله أعلم ،،

____________________

وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء ، ومدة إقامته بها ، اختلف فيهما العلماء ورواة السيرة اختلافا كبيرا .. وبعد مطالعتى لكل هذه الروايات ، أستطيع أن أرجح أن وصوله صلى الله عليه وسلم إلى قباء وافق يوم الإثنين {{ ٨ ربيع الأول }} ، أى فى اليوم الثامن من خروجه من غار ثور ، ((خروجه صلى الله عليه وسلم من غار ثور ، وافق يوم الإثنين غرة ربيع الأول)) .. وكان ذلك فى العام الرابع عشر من البعثة ، (( سيتم حساب التقويم الهجرى فيما بعد ، على اعتبار هذا العام هو العام الأول الهجرى ، وسأوضح ذلك فى نهاية الحلقة )) .. فأقام في قباء بقيّة يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس ،  وخرج منها متوجها للمدينة يوم الجمعة .. 

مدة إقامته فى قباء ، تعد أكثر ما اختلف فيه العلماء منذ بداية السيرة ، فمنهم من قال أقام بها أربعة أيام ، ومنهم من قال أربعة عشر يوما ، ومنهم من قال عشرة أيام ، وقيل مدة لم تتجاوز أسبوعا ، وقيل غير ذلك .. لكن لم أجد اختلافا فى يوم خروجه متوجها إلى المدينة ، أنه وافق يوم الجمعة ..     

____________________

مدة إقامة النبى بقباء ، لم يشغلها صلى الله عليه وسلم [[ بالعزائم والاستراحة من السفر والترحيب والسلام ]] .. بل قام يعمل فيها ببناء المسجد حتى أسس مسجد قباء .. وقيل أنه أتم العمل بإنشاء هذا المسجد ، في اليوم الرابع صباح يوم {{ الجمعة }} .. فخرج ليكمل سفره إلى المدينة المنورة ، 

{{تبعد قباء عن المسجد النبوي كما ذكرنا خمسة كيلو مترات  تقريبا }} .. وقيل أن المسافة بين مسجد قباء والمسجد النبوى فى المدينة ، ثلاثة كيلومترات تقريبا ..


 خرج صلى الله عليه وسلم صباح يوم الجمعة ، ليصل المدينة المنورة ، وأرسل إلى أهل المدينة من يخبرهم بقدومه ، فخرج إليه في الطريق رجال من بني النجار ، ومعهم بعض الأنصار من أهل المدينة (( فكان عددهم ٥٠٠ رجل )) ، حاملين أسلحتهم .. [[ بنو النجار  هم أخوال جده عبد المطلب ، تذكرون فى البداية ، حيث ذكرت لكم قصة عبد المطلب جد النبي ، {{ شيبة الحمد }} ..  عندما ترك أباه هاشم ، زوجته كى تلد عند أهلها بني النجار فى يثرب ، ومضى هاشم إلى الشام فى تجارة ، فأدركته الوفاة في غزة ، ثم كان ميلاد شيبة الحمد جد النبى ]] ..  

_________________________

خرج الرجال من بني النجار أخوال جده عبد المطلب ومعهم الأنصار ، فأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم ، وقالوا : 

يا رسول الله ، نحن أهل العدد والحلقة ، [[ أي نحن أصحاب العدد الكثير وأصحاب السلاح ]] .. أدخل مدينتك آمناً مطمئناً مطاعاً ، فمشى القوم من حوله ، يحفونه بين ماشي وراكب ، لا يحصي عددهم أحد ..

فلما كان بين قباء والمدينة ،

حان وقت الظهر وكان يوم جمعة .. ولم يكن النبى ، صلى صلاة جمعة بأصحابه من قبل ، ولم تفرض صلاة الجمعة بعد ، فلما جاء وقت صلاة الظهر ، نزل صلى الله عليه وسلم ، وعلمهم صلاة الجمعة ، وصلى بهم الجمعة فى الطريق ، [[ الآن يوجد مسجد بين قباء والمسجد النبوي ، اسمه مسجد الجمعة ، فيه صلى رسول الله ، أول صلاة جمعة بأصحابه ]] .. نزل صلى الله عليه وسلم ، وقام يخطب فيهم ، فاتكأ  على رحل ناقته القصواء ، وخطب هذه الخطبة ، (( أنظروا إلى خطبته ، كم كانت قصيرة لكن فيها بلاغة )) .. وقف صلى الله عليه وسلم وخطب بهم ،

فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : 


« أما بعد : أيها الناس فقدموا لأنفسكم ، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه - ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه - ألم يأتك رسولى فبلغك ، وآتيتك مالا ، وأفضلت عليك ، فما قدمت لنفسك؟.. فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ، ثم ينظر قدَّامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام على رسول الله ورحمة الله وبركاته » ..

ثم خطب مرة أخرى فقال : 

《إن الحمد لله أحمده وأستعينه ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ..

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إن أحسن الحديث كتاب الله ، قد أفلح من زينه الله فى قلبه وأدخله فى الإسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس ، إنه أحسن الحديث وأبلغه ، أحبوا من أحب الله ، أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم ، فإنه من يختار الله ويصطفى فقد سماه خيرته من الأعمال ، وخيرته من العباد والصالح من الحديث ومن كل ما أوتى الناس من الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ، إن الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته》..


وجاء فى رواية أخرى ، أنه صلى الله عليه وسلم حين خطب هذه الخطبة ، قال : 

《الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره ، وأعادي من يكفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة وقرب من الأجل ، من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا ، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم ، ثم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله ، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرا ، وإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة ، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله ، يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم ، وما كان من سوء ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا ، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد》..

________________________

هذه كانت خطبته صلى الله عليه وسلم ، التى وافقت أول جمعة يخطبها في أصحابه ، رضي الله عنهم أجمعين ..

ثم توجه إلى المدينة ، وكان كل أهل المدينة ، شباب ورجال ونساء وأطفال وشيوخ ، ينتظرون قدومه صلى الله عليه وسلم وهم باشيتاق تام لرؤيته ، عليه الصلاة والسلام .. 


والجدير بالذكر .. أن المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، اعتمدوا التقويم الهجري ليكون تقويم الدولة الإسلامية .. ونظرا لاعتماده الهجرة النبوية الشريفة بداية له فقد سمى بالتقويم الهجري ، وقد اعتمد بعد سنتين ونصف السنة من خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، في ربيع الأول من عام ١٦ للهجرة ، واستشار الخليفة عمر بن الخطاب اثنين من الصحابة ، هما « عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب » ، فأقراه .. وبذلك انطلقت السنة الهجرية من هجرة الرسول التي توافق سنة ٦٢٢ للميلاد ، لتصبح السنة الأولى في التاريخ الهجري ، وكان يوم ١ المحرم من عام ١٧ للهجرة بداية أول سنة هجرية ، أطلق عليها سنة ١٧ هجرية ، بعد اعتماد  التقويم الهجري ..



 الحبيب المصطفى « ١٢٣ »

    السيرة المحمدية العطرة .. (( استقبال أهل المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم  ))

________________________

كما ذكرنا فى الحلقة السابقة ، أنه عندما قرّر النبى عليه الصلاة والسلام دخول المدينة المنورة ، أرسل إلى زعماء بني النجار ، فقدموا إليه متقلّدين سيوفهم ، وعند دخول النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، دخل يحيط به خمسمائةٌ رجل من بنى النجار  والأنصار ، فدخل المدينة بموكبٍ عظيم ..


عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، لا أحد يستطيع أن يصف روعة ذلك الاستقبال الكبير ، والحب الذي لقي به أهل المدينة من الأنصار هذا الضيف الكريم الذي وفد إليهم بأمر الله ، وأكرمهم الله سبحانه وتعالى به ، فكانوا أنصار الدعوة ولقبوا بالأنصار ..

[[ جميع الذين كتبوا السيرة ، تعجز أقلامهم عن وصف هذا الاستقبال ، كما لا يستطيع أي مخرج تلفزيوني أو سينمائي ، أن يصور مشهد ذلك اليوم ]] ..

_________________________

الكل كان فى اشتياق كبير ، لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم عند وصوله ، {{ المهاجرين والأنصار }} .. فاجتمعوا كى يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عند دخوله المدينة بعد عناء {١٣ عام في مكة }

ولعلكم تذكرون كم تحمل صلى الله عليه وسلم في مكة ، وما كان من المعاناة أثناء الحصار ، وما لاقاه فى الطائف ، وأذى قريش ، واستهزاء وتشويه إعلامي به وبالدعوة ، حتى أطلقوا عليه اسم ساحر مكة ، مما يوضح بجلاء ، كم الإيذاء الذى تعرض له في دعوته إلى الله صلى الله عليه وسلم ..


ولنا أن نتصور ، مدى السعادة التى أحس بها المهاجرون ، بعد عناء {{ ١٣ عام }} فى مكة ، وهم ينتظرون هذه اللحظة ، لحظة الخلاص من أذى قريش ..

وأيضا لنا أن نتصور ، شعور الأنصار من {{ أهل المدينة }} ..

خاصة وأن الغالبية العظمى منهم ، سمعوا فقط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنهم لم يتشرفوا برؤيته من قبل .. 

_________________________

وكانت المدينة فى هذا الوقت {{ ١٣ محلة }} ، أي ما نسميه في أيامنا هذه بالحي ، [[ أى ١٣ حي ]] .. وكان يسكن كل حي منهم عشيرة من الأنصار ، كلهم خرجوا عن بكرة أبيهم ، فضجت كل طرقات المدينة بالناس ، كلهم خرجوا من بيوتهم مشتاقين لرؤية وجهه صلى الله عليه وسلم .. فكانت المدينة قد تهيأت لهذا اللقاء قبل قدومه صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق بيت من بيوت أهل المدينة رجال ونساء ، إلا وقد أسلم معظم من فيه ، وكان هؤلاء الذين أسلموا ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم فى أشد الشوق إلى رؤيته ، كما كان أيضا الذين رأوه وبايعوه ، اشد شوقا لرؤيته ، فلما سمعوا أنه خرج من قباء متجها إليهم ، عاشت المدينة  أفراحها التى لا توصف .. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبوابها يوشك أن يدخلها .. فخرجت المدينة برجالها ، ونسائها ، وشيوخها ، وولدانها ، وجواريها لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم يتلهفون للنظر إليه ، وأحاط أخواله من بني النجار ، ورجال آخرون من المهاجرين والأنصار بناقته القصواء ، وبأيديهم سيوفهم تحميه من كل من تسول له نفسه أن يصيبه بأذى ، وكان أبو بكر جالسا على الناقة خلف النبى عليه الصلاة والسلام ..

_________________________

فلما أطل عليهم صلى الله عليه وسلم ، ورأوا من بعيد {{ النور المحمدي }} .. صاح الغلمان والأطفال والخدم بأعلى صوتهم :

 الله أكبر .. الله أكبر .. جاء رسول الله .. الله اكبر ، هذا محمد رسول الله قد أطل علينا ، 

الله اكبر هذا محمد رسول الله .. 

حتى أن المعوٌِقين من أهل المدينة ، جلسوا فوق أسطح البيوت يتساءلوا أين هو؟ .. فلما أقبل صلى الله عليه وسلم وأطلّ عليهم ، يقول أنس رضي الله عنه عن المدينة : 

{{ أضاء منها كل شيء }} ، من نور وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم .. 

ويقول الصحابى البراء بن عازب : 

{{ ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء ، كفرحهم برسول الله }} .. وأخذ النساء والصبيان يضربون على الدفوف ، وينشدون أبيات الشعر :

طلع البدر علينا .. من ثنيات الوداع ،

وجب الشكر علينا .. ما دعا لله داع ،

أيها المبعوث فينا .. جئت بالأمر المطاع ،

جئت شرفت المدينة .. مرحبا يا خير داع ،،

____________________

والرسول صلى الله عليه وسلم على ناقته ، فى موكب مهيب بين تلك الحشود ، ومن حوله {{ ٥٠٠ رجل }} من الصحابة ، يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم ، حاملين سلاحهم تعظيما وإجلالا ،  لحبيب الله {محمد صلى الله عليه وسلم} .. والناس من حوله ، وقد قدٌَم أهل المدينة صبيانهم وبناتهم ، وجعلوهم في مقدمة المستقبلين ..

فلفت نظر النبي صلى الله عليه وسلم ، عندما رأى بنات صغيرات فرحات بقدومه ، وهن يردّدن هذه الأهازيج .. 

وبدا السرور على وجهه ، وهو يرى هذه القلوب الصغيرة المؤمنة المشرقة المستبشرة ، تستقبله حتى صار صلى الله عليه وسلم ، كأن وجهه القمر .. 

وسأل النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء البنات الصغيرات فقال : أتحببنني؟؟.. 

فقلن : نعم يارسول الله .. 

فقال : الله يعلم أن قلبي يحبكن كثيرا ..

____________________

فكان هذا اليوم التاريخي العظيم ، من أعظم الأيام التى مرت على الإسلام والمسلمين ..

الحبيب المصطفى « ١٢٤ »

  السيرة المحمدية العطرة ..

(نزوله صلى الله عليه وسلم 

بالمدينة المنورة)

___________

أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ، يسير على الناقة بين الجموع ، وكانت  عشائر {{ الأوس والخزرج }} .. تقف على أبواب البيوت على جانبي الطريق ، تنتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستقبله فرحة مستبشرة 

وكان رئيس كل عشيرة ورب كل بيت ، يطمع أن يقبل النبى فينزل عليه ضيفا فى بيته .. فجاء رجال العشائر  إليه يأخذون زمام الناقة ويقولون :  

يا رسول الله ، انزل فينا نحن أهل الحلقة ، نحن أهل العز ، ((أهل الحلقة أى أهل القوة والمنعة والسلاح)) .. وكلهم يريدون أن يكون النبي ضيفهم ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم : دعوها فإنها مرسلة ، خلّو سبيلها فإنها مأمورة ، ويرخي زمام الناقة لا يمسكه .. دعوها إنها مأمورة ، [[ أي أن الله هو الذى يأمرها أين تبرك ، حيث يريد سبحانه أن يكون مكان منزلي ، لست أنا الذي أختار ]] ..

____________________

والسؤال الآن : لماذا ترك النبى صلى الله عليه وسلم ، تحديد مكان نزوله ، للناقة تبرك حيث تشاء؟؟..  

الجواب : لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، يتعامل مع الموقف 

بطريقة دبلوماسية ، فهو يعلم الحساسية المفرطة الموجودة بين {{ الأوس والخزرج }} ، وما كان بينهم من خلافات وحروب طاحنة فى الماضى .. فمن مكارم  أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، ومن أجل أن يؤلف بين قلوبهم ، تصرف هكذا ، [[ لأنه لو اختار عائلة أو قبيلة منهم بنزوله ضيفا عليهم ، وفضلها على الأخرى ، لترك فى نفوس القبيلة الأخرى أثرا وشيئا من الغيرة ، لتفضيله القبيلة التى نزل عندها عليهم ، وهو لا يريد أن يبدأ تعامله معهم بأى نوع من التمييز ]] .. لذلك ترك مكان نزوله لاختيار الله سبحانه وتعالى ، فلا يمكن لأحد منهم ، أن يعترض على ذلك .. 

فترك زمام الناقة تسير حيث تشاء ، ولم يأخذ به أبداً .. فما زال على ظهرها صلى الله عليه وسلم ، وقد أردف معه على الناقة أبا بكر من قباء إلى المدينة ، (( أردف معه أى أركبه خلفه على الناقة )) .. حتى يعلم الجميع ، مكانة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. 

____________________

وما زال على ظهرها حتى تجاوزت كل هذه الطرق ، فما زالت تمشي ، حتى أتت إلى موقع مسجده المعروف الآن .. 

كيف كان موضع الأرض قبل بناء المسجد؟؟..

كان بالأرض مربد تمر لغلامين يتيمين من بني النجار ، [[ مربد التمر ، هو الأرض السهلة التى عندما يقطف التمر من النخيل ، يوضع بهذه الأرض لغرض التجفيف ]] ، وكان إلى جانب مربد التمر هذا ، أرض فيها مقبرة قديمة ، وحول الأرض قليل من البيوت ، [[ لأن هذا المكان مربد للتمر وبجانبه مقبرة ، والناس لا تفضل السكن بجوار مقبرة ]] ..

وإذا بالناقة تمشي إلى أن بلغت هذا الموقع ، ثم وقفت والتفتت برأسها يمينا ويسارا ، ثم بركت في موقع منبره الموجود في مسجده الآن ، صلى الله عليه وسلم .. 

يقول الصحابة رضي الله عنهم : 

اتخذ صلى الله عليه وسلم منبره على {{ مبرك الناقة }} ، أى جعل المكان الذى بركت فيه الناقة ، هو موضع منبره بعد بناء المسجد النبوى ، الموجود حتى الآن فى المدينة المنورة ..

وبقي النبي جالسا على ظهرها ، وكأنه (أو كما يبدو عليه) ، كأنه يوحى إليه .. 

فبقي جالسا ينتظر ، ثم قامت الناقة فطافت فى جولة ، وهي حدود المسجد الذي بناه الرسول والصحابة ، [[ وكأنها ترسم لهم مخطط المسجد ]] .. ثم رجعت إلى موقعها الأول فبركت فيه ، 

فلما بركت هذه المرة ، يقول الصحابة : فتحلحلت [[ أي هزت جسدها وتمكنت من الجلسة ]] ..

 فتحلحلت ثم أرزمت [[ أرزمت أي أخرجت صوتها ]] ، ثم مدت عنقها إلى الأرض وأرزمت ، واستراحت ولم تعد تتحرك .. 

فعلم النبي أن المنزل ها هنا ، فقال : ها هنا المنزل إن شاء الله .. فتعجب الصحابة ، كيف ها هنا المنزل ، الأرض صحراء وبجانبها مقبرة .. أين سينزل الرسول؟؟..

 ثم وقف صلى الله عليه وسلم وقال : أي دور أهلنا أقرب إلى هذا المكان؟؟..

____________________

قال {{ أبو أيوب الأنصاري }} وهو من الخزرج (( من بنى النجار )) : أنا يا رسول الله ، فهذا الباب الذي أمامك هو باب داري .. فقال له صلى الله عليه وسلم : احمل متاعنا إليه .. 

فنزل صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب ، فقال له البعض من الناس : تنزل عندنا يا رسول الله ، فإن بيوتنا أكثر اتساعا .. 

فقال لهم : المرء مع رحله ، ( أى المرء  مع متاعه ، الذى كان قد حمله أبو أيوب الأنصارى ، وأدخله إلى بيته )

فجاء أسعد بن زرارة أحد النقباء الاثنى عشر ، (( الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد عينهم يوم بيعة العقبة الثانية ، وكان أصغر النقباء سنا )) ..   وكان سيد الأنصار في ذلك الوقت ، وقال : 

يا رسول الله .. فاز بها أبو أيوب ، فهل تأذن لي أن تكون ناقتك في ضيافتي؟؟.. 

[[سبحان الله ، ما أجمل أخلاقهم ومعرفتهم بقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أنت أيها النبى ستنزل ضيفا في دار أبي أيوب الأنصارى ، فأنا أستأذنك كى أستضيف الناقة عندي ، لأقوم برعايتها وخدمتها ]] .. 

فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له : 

لك ذلك .. فأخذ ناقته القصواء ، واستضافها في داره ، يقوم على خدمتها ، حتى إذا احتاج النبي إليها ، يحضرها له .. 

[[ تأملوا معى : أسعد بن زرارة سيد قومه ، يعتبر ذلك من دواعى الشرف له بين قومه ، أن يستضيف ناقة النبي في داره ]] !

____________________

نزل النبى فى دار أبي  أيوب الأنصارى ، وتصوروا معي هذا المشهد .. دار أبي أيوب تتكون من غرفتين ، عبارة عن طابقين .. 

والسؤال هنا : هل كانت توجد  طوابق بديارهم في هذه الأيام؟؟..

 نعم كان هناك طوابق ، كما جاء من أحاديث الصحابة ، والحديث رواه البخاري .. 

وكانوا يطلقون على الطابق الثاني : {{ العلّيّة }} ..

فأراد أبو أيوب أن ينزل النبي صلى الله عليه وسلم ، في الطابق العلوى ، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزل في الطابق الأرضى ، وقال له : 

لك بيتك ، فهذا أسهل وأرفق علينا ، وعلى من يأتينا ضيفا من الناس .. 

فنزل النبي في الطابق الأرضى ، وكان أبو أيوب كل يوم يلح على الرسول ، فيقول : 

يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي نخاف من مشينا ، أن يتساقط عليك شيء من تراب ، أو في الليل أن نتحرك فنزعجك ، اصعد للطابق الثاني .. فيقول له النبي : لا ، لك بيتك يا أبا أيوب .. 

____________________

حتى كانت ليلة باردة ، فوقع الحَب من يد زوجته وانكسر ، [[ الحَب ، أي جرة الماء الفخار ]] .. فأسرع أبو أيوب وزوجته يجففوا الماء بالبطانية التي يتغطوا بها لتقيهم من البرد عند نومهم ، [[ لأن السقف ليس من أسمنت مسلح ]] ، فهو مبنى مثل بيوت الفلاحين فى القرى ، ولو شرب السقف الماء ، لنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم .. فجففوا الماء بسرعة بالغطاء ، وناموا تلك الليلة بلا غطاء ، يرجفان من البرد .. 

وسبحان من أخبر نبيه عن حال أبي أيوب تلك الليلة ، فلما كان الصباح ، قال له النبى : 

كيف كانت ليلتكم يا أبا أيوب؟؟.. 

فقال له : وقع من أمرنا كذا وكذا ، فقال له صلى الله عليه وسلم ، نصعد نحن إلى الأعلى ، وتنزلوا أنتم إلى الأسفل .. لأنه وجد بها مشقة عليهم ، وهو صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله ، {{بالمؤمنين رؤوف رحيم }} ..


يقول أبو أيوب : كنا نرسل للنبي صلى الله عليه وسلم كل ليلة عشائه ، فإذا رد علينا القصعة ، تلمسنا مواضع أصابعه فنأكل من مكانها تبركاً .. 

قال أبو أيوب : وفي يوم من الأيام ، رد علينا القصعة وإذا ليس لأصابعه فيها أثر ، [[ أي لم يأكل منها شيئا ]] .. 

يقول أبو أيوب : ففزعت وقلت للنبي ، بأبي وأمي يا رسول الله ، رددت إلينا قصعتك وليس ليدك فيها أثر ، {{ فإنا كنا نلتمس أثر أصابعك أنا وزوجتي ، فنأكل منه تبركاً }} ..

____________________

اسمحوا لى أن أتوقف هنا عند هذه النقطة .. 

لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم ، ما هذه البدعة يا أبا أيوب الذى أقدمت عليها أنت وزوجتك؟؟.. ولم يقل له :

يا أبو أيوب ، هذه بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ..

أبو أيوب هكذا يوقر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتبرك بمواضع أصابعه فى الطعام ، هل هذا الفعل جائز أم أنه بدعة وحرام؟؟..

والسؤال أيضا لنا الآن : هل يجوز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ، كيفما كانت؟؟.. 

الجواب : نعم يجوز ، لأن سكوته صلى الله عليه وسلم بعد سماعه لأبى أيوب ، يعد بمثابة إقرار وعدم ممانعة لهذا الفعل .. وهو رسول الله ، فلا يجوز له ، كما أنه لن يحدث منه أن يسكت عن شيء يغضب الله .. [[ والتبرك هو طلب حصول الخير بمقاربته وملامسته .. فسكت النبي ، ولم يعلق على فعل أبي أيوب ، أنه يتلمس مواضع أصابعه تبركاً ]] ..


نحن جميعا ، نعلم أن رسول الله عبد من عباد الله ، وهو من آدم وآدم من تراب .. ونحن أيضا لا نعبد إلا الله ، ولا نسأل إلا الله ، ولا نتوكل إلا على الله .. 

ولكننا أيضا نحب رسول الله ونوقره ، فلا يجوز مثلا أن نعتبر  زيارة غار حراء بدعة .. 

المعنى هنا : أننى لا أعبد الغار ولا حجارته ولا الرسول عليه الصلاة والسلام الذى نزل به ، أنا أعبد الله جل في علاه وحده لا شريك له .. ولكن من حبي لرسول الله ، أتلمس 

مواضع قدميه تبركا .. وهنا يهمنى أن أوضح نقطة فى منتهى الأهمية : وهى أن الأفعال التى يرتكبها بعض الجهلاء ، من زيارة أضرحة أولياء الله ، والتمسح بها وطلب الشفاء أو أى طلبات دنيوية أخرى منهم .. هذا الفعل قمة فى الجهل وحرام بيٌِن ، فلا يجوز اللجوء إلا لله ولا الدعاء أو طلب أى شيء إلا من الله ، ولكن لا بأس من زيارة أضرحة أولياء الله وقراءة الفاتحة للتبرك بهم فقط ..

____________________

فتوجه أبو أيوب الأنصارى بالسؤال للرسول عليه الصلاة والسلام : 

لما لم تأكل عشاءك يا رسول الله؟.

فقال له صلى الله عليه وسلم ، أحسب أن فيها من هذه الشجرة ، [[ كانوا قد وضعوا له الثوم في الطعام ]] .. وأنا رجل أناجي ، [[ أي أناجي الله عز وجل ]] ،

أما أنتم فكلوا منها .. 

يقول أبو أيوب : فلم نعد نضع له الثوم في طعامه مرة أخرى ، صلى الله عليه وسلم .. 

كم من الزمن أمضى النبي في دار أبي أيوب؟؟.. 

في حديث البخاري ، {{ أمضى فى دار أبى أيوب سبعة أشهر ، حتى تم بناء المسجد وحجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم }} ..

____________________

قبل أن ننهى حديثنا عن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم ، في دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، نقول أن النبى فيما بعد ، آخى بينه وبين الصحابى مصعب بن عمير من المهاجرين (( مصعب بن عمير ذكرناه من قبل ، فهو الذى كان  مبعوثا للنبى للدعوة إلى الإسلام فى يثرب ، بعد بيعة العقبة الأولى )) .. وأن هذا الصحابي الجليل أبا أيوب الأنصارى ، كان يحب الجهاد ، وشهد بيعة العقبة وجميع المشاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم .. ولما حدث فيما بعد ، القتال بين {{ علي بن أبى طالب  ومعاوية بن أبى سفيان }} رضي الله عنهما ،  كان أبو أيوب يقف في صف علي رضي الله عنه ، ضد معاوية رضي الله عنه ..

ومع ذلك ، فبعد مقتل علي رضي الله عنه ، واستقر الأمر لمعاوية رضي الله عنه .. كان أبو أيوب في جيش معاوية ، ثم كان فى جيش يزيد بن معاوية بن أبى سفيان ، الذي توجه لفتح القسطنطينية [[ أي اسطنبول حاليا فى تركيا ]] ..

وهذا موقف عظيم جدا ويحسب له ، لأنه يحارب من أجل الله تعالى ، فلا يحارب من أجل {{ علي أو معاوية أو يزيد }} .. وكان عمره قد تجاوز {{ ٩٠ عاما }} رضي الله عنه ، وحدث أن مرض {{ أبو أيوب الأنصاري }} ، وهو في حصار {{القسطنطينية }} .. فطلب أن يدفن عند وفاته في أقرب مكان للعدو ، فمشوا بجنازته حتى دفنوه عند أسوار القسطنطينية ، وظل قبره مطمورا ، حتى تم فتح القسطنطينية بعد ذلك بمئات السنين ، فبنوا على قبره مسجدا ، وهو موجود إلى الآن فى اسطنبول ، واسمه مسجد {{ أيوب سلطان }} ..

____________________

معلومة تاريخية خارج السيرة ، (لمن أراد أن يستزيد من المعرفة) :

- إسطنبول كانت مدينة يونانية قديمة ، تقع على مضيق البوسفور بتركيا ، (( مضيق البوسفور هو المضيق الذى يصل بين بحر مرمرة والبحر الأسود )) ..

- فى عام ٣٣٥ من الميلاد ، جعلها الإمبراطور قسطنطين الأول عاصمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية (( الإمبراطورية البيزنطية )) ، وأصبح يُطلق عليها القسطنطينية  نسبة للإمبراطور قسطنطين مؤسس الإمبراطورية ، (( العاصمة الغربية للإمبراطورية الرومانية كان مقرها روما )) ..

- تغيرت إلى بيزنطا وتم فصلها تماما عن الإمبراطورية الرومانية الغربية فى القرن السابع الميلادى فى عهد الإمبراطور هرقل .. 

- منذ تولي الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان الحُكم ، راحت الحملات العسكرية تتوالى على أسوار القسطنطينية.. نحو ١١ حملة كبيرة لمحاولة فتح المدينة العتيدة ، وأشهرها كانت تلك التي شنها كل من الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك ، والخليفة العباسي هارون الرشيد .. لكن كل تلك الحملات كانت تبوء بالإخفاق بسبب حصانة المدينة .. وإن كان توالي الضربات الإسلامية زعزع ثبات البيزنطيين في معقلهم الأخير ..

- خلال الحملة الصليبية الرابعة ( عام ١٢٠٤ من الميلاد ) ، احتلها الصليبيين وتغير إسمها إلى الإمبراطورية اللاتينية ، قبل أن يستردها البيزنطيين مرة أخرى عام ١٢٦١ من الميلاد ..

- استمرت الإمبراطورية البيزنطية حتى عام ١٤٥٣ من الميلاد ، إلى أن فتحها القائد الإسلامى محمد الفاتح العثمانى فى ٢٩ مايو سنة ١٤٥٣ ميلادية ، وأطلق عليها ( إسلام بول ) ، ثم أطلق عليها العثمانيون ( الأستانة ) ، واستمرت عاصمة للإمبراطورية العثمانية ..

- فى عام ١٩٣٠ من الميلاد تغير اسمها إلى ( اسطنبول ) ، ضمن إصلاحات مصطفى كمال أتاتورك القومية ، وظلت تعرف بهذا الاسم حتى الآن ..



الحبيب المصطفى « ١٢٥ »

  السيرة المحمدية العطرة .. 

    ((بناء المسجد النبوي ))

___________________

بعد أن ذكرنا كل ما يتعلق بإقامة  النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب الأنصاري ، وبعد أن استراح صلى الله عليه وسلم من عناء السفر ، فأصبح شغله الشاغل اعتبارا من اليوم الثاني ، هو دراسة الأوضاع داخل المدينة ..   

كان أهل المدينة من مؤمنين صادقين ، أو منافقين فى الخفاء ، أو من المشركين الذين لم يدخلوا فى الإسلام بعد ، أو القبائل الثلاثة من اليهود من سكان المدينة : بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير ، كلهم ينتظرون برنامج عمل النبي ، بعد أن اختار المدينة ورحل عن مكة؟؟.. فالبعض يتوقع أن يجهز جيشا لغزو مكة ، والبعض يتوقع أن يخرج ويعلن خطاب العرش ويذكر فيه سياسة الدولة ، والبعض الآخر يتوقع أن يعين مساعديه ونائبه الذى سيتولى الأمور فى غيابه ..

وكان صلى الله عليه وسلم قد خرج من مكة ، وترك بها زوجته السيدة سودة ، وكذلك زوجته عائشة التى لم يكن قد دخل بها بعد ، كما ترك أيضا هناك ، ابنتاه أم كلثوم وفاطمة .. 

وكان أبو بكر أيضا ، قد ترك ابنه وزوجته وابنتاه في مكة .. 

فماذا فعل صلى الله عليه وسلم اعتبارا من اليوم الثاني له فى المدينة؟

___________

تحدثنا في الحلقة {{ ١٢٠ }} عن مشاكل المدينة ، فكان أول عمل قام به صلى الله عليه وسلم ، هو الشروع فى حل مشاكل المدينة ،

وبرغم تراكم المشاكل المعقدة جدا بها ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع في فترة قياسية ، أن يجعل المجتمع الإسلامي مجتمع شديد التماسك ..

كيف استطاع صلى الله عليه وسلم تحقيق هذا؟.. ، وكيف تغلب على كل هذه المشاكل؟

الجواب .. قام بثلاثة أمور :

١ - بناء المسجد ..

٢ - تشريع الأخوة بين المهاجرين والأنصار ..

٣ - وضع وثيقة المدينة .. 


واليوم سنتناول بالحديث البند الأول ، وهو كيف بني صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي .. 

___________

السؤال الآن .. لماذا كان قراره أن يبدأ ببناء المسجد ، كخطوة أولى بعد دخوله المدينة مهاجرا؟؟.. 

عندما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، كان همّه الأول أن يوطّد دعائم الدولة الإسلامية الناشئة ، فكان عليه أن يعمل على تأمين مستقبل المدينة وحماية أرضها ،وتنظّيم العلاقات بين أفرادها .

فقرر النبى ، أن تكون أولى نسمات الخير التي أتت بها الهجرة المباركة ، بناء المسجد النبوي ، فبعد أعوام عديدة من حياة الخوف والقلق ، والمعاناة من الشدّة والتضييق ، والحرمان من المجاهرة بالشعائر التعبدية ، والاضطرار إلى الصلاة بعيداً عن أعين الناس في الشعاب والأودية ، أو خفيةً في البيوت .. إذا بهم سيجدون حريّتهم الكاملة في أداء صلاتهم وإقامة شعائرهم دون خوفٍ أو وجل ، وفي بيوت الله تعالى بعد إنشائها ..

لذلك جاء إنشاء المسجد النبوي ، فى المقام الأول بالنسبة للنبى صلى الله عليه وسلم ، فاختار المكان ، وكان كما ذكرنا سابقا ، عبارة عن مربد ، (وهو الموضع الذي يُجفّف فيه التمر ) .. كان ملكاً لغلامين يتيمين في المدينة يعيشان عند أسعد بن زرارة رضي الله عنه ، فوقع اختيار النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك المكان عندما بركت راحلته فيه عند دخوله المدينة ، وقال حينها:(هذا إن شاء الله المنزل)، 

رواه البخاري .. 

فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم رمح من أحد الصحابة ، وغرسه فى المكان وقال : {{ هنا نبنى المسجد إن شاء الله }} ..

ثم طلب النبي صلى الله عليه وسلم من سادات بني النجار ، الحضور ومعهم الغلامين ليعرض عليهم شراء تلك الأرض (( كان بالأرض مزرعة لبنى النجار ومربد التمر للغلامين ومنطقة قبور قديمة )) ، وقال لهم : يا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم هذا (( أي اطلبوا له ثمنا ، والحائط أى مزرعة كانت لبنى النجار )) ، فقالوا : " لا والله لا نطلب ثمنه " ، وقال الغلامان : " بل نهبه لك يا رسول الله " ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبى لعلمه بحاجة الغلامين ، وعوّضهما بالثمن المناسب ،  (رواه البخاري) .. ودفع صلى الله عليه وسلم للغلامين من مال أبى بكر ، وأمر ببناء المسجد ..

___________

وقبل الشروع في البناء كان على المسلمين تسوية الأرض ، وقطع النخيل ؛ حتى يتمكّنوا من صفّ الحجارة في قبلة المسجد التي كانت تتجه نحو بيت المقدس آنذاك ، ثم كان عليهم نبش القبور القديمة الموجودة بالموقع ، وإخراج ما بها من عظام ، ودفنها فى مكان آخر ..

وما أعظم سرور الصحابة وهم يعملون جنباً إلى جنب ، بهمّة عالية ، وإرادة صلبة ، وعزيمة لا تلين ، ويروّحون عن أنفسهم بأبيات من الشعر تزيد من نشاطهم ، وتخفّف عنهم مشقّة العمل .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، يشاركهم في نقل الحجارة وإنشاد الأشعار ، فثبت في صحيح البخاري أنه كان يردد هذه الأبيات :  

اللهم إن الأجر أجر الآخرة ..            

فارحم الأنصار والمهاجرة ،،

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صحابيّاً من اليمامة ، فأعجب بمهارته في خلط الطين وتجهيزه ، فقال : 

قدموا اليمامي من الطين ، فإنه من أحسنكم له مسّاً ، وفي رواية : قربوا اليمامي من الطين فإنه من أحسنكم له بناء . (رواه ابن حبان و البيهقي) ..

 وخلال فترةٍ وجيزة ، استطاع الصحابة رضوان الله عليهم أن ينتهوا من بناء المسجد ، وقد جعلوا سواريه من جذوع النخل ، وأعلاه مظلل بالجريد وسعف النخيل واستغرق بناؤه اثني عشر يوماً .. 

___________

وأثناء عملية بناء المسجد ، وقعت بعض الأحداث نأخذ منها ، {{ على سبيل المثال لا الحصر }} ما يلى : 

 

كان عمار بن ياسر الذي كان من الرقيق في مكة ، [[ عمار ذكرنا قصته من قبل ، هو الذي قُتِل أبواه على يد أبي جهل تحت التعذيب ، وقد مر علينا قصتهم في السيرة ، أبوه ياسر وأمه سمية ، وكان عمار أيضا تحت التعذيب ]] ..

 عمار الذي قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه : 

{{ مُلئَ عمار إيماناً إلى مشاشه }}

[[ أي امتلأ بالايمان وفاض حتى وصل لمشاشه أي لرؤوس عظامه ]] ..

كان عمار رضي الله عنه يعمل مع الصحابة فى بناء المسجد ، وكان هناك موقف ، أغضب النبي صلى الله عليه وسلم من أجل عمار .. 

فالنبي لم يكن يتعامل مع الناس على حسب ثرواتهم أو أنسابهم ، 

وإنما كان يعامل الصحابة على منهج الله عز وجل : {{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }} .. 

كان عمار يعمل بجد واجتهاد فى بناء المسجد .. يحفر ، يحمل الطوب ، يضرب الأرض بالمعول ،يعجن الطين .

وكان الصحابى الجليل ، {{ عثمان بن مظعون }} رضى الله عنه ، أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة ((أرضعتهما ثوبة جارية أبى لهب)) .. وكان عثمان من الأوائل الذين أسلموا ، فكان ترتيبه {{١٣}} ممن أسلموا ، [[ وكان أول رجل يموت في المدينة من المسلمين ، ودفن بها ، وعندما مات دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقبَّله ، وقال : 

رحمك الله يا عثمان ، ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك ]] .. 

كان عثمان رجلا أنيقا ، يهتم بنظافة ثوبه ، فكان إذا مس ثوبه التراب أزاحه بيده ، وكان إذا حمل شيء يبعده عن ثوبه كي لا يتسخ .. وأثناء العمل ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه  شعرا [[ كان لا يقصد به عثمان بن مظعون ]] رضي الله عنهما ..

فقال في شعره :

لا يستوي من يعمر المساجدا ..    

يدأب فيها قائما وقاعدا .. 

ومن يرى عن التراب حائدا .. 

فسمع هذه الكلمات عمار بن ياسر ، فأعجبته أبيات الشعر ، وأخذ يردد هذه الأبيات .. 


فلما قال عمار هذه الأبيات ، سمعه عثمان بن مظعون ، وظن أن عمار يقصده .. وكان بيده جريد من نخل ، فقال لعمار : 

يا ابن سمية بمن تعرض؟؟.. [[ يعنى من تقصد ، يا ابن سمية؟!! ]] .. (( أى نسبه لأمه سمية ، وسمية أم عمار من أفضل نساء المسلمين ، فهى أول شهيدة في الإسلام )) ..

 فنسبه إلى أمه احتقاراً ؛لأنها كانت من الرقيق في مكة !!!..

والصحابة أحيانا يقعون بالخطأ ، وسيمر معنا في السيرة مواقف كثيرة ، النبي صلى الله عليه وسلم هو فقط المعصوم من الخطأ ، فقال له : 

يا ابن سمية بمن تعرض؟.. والله إن كررتها لأضربن وجهك بهذا الجريد !!.. 

فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ، كلام عثمان بن مظعون .. يقول الصحابة : فغضب النبي غضباً لم نره من قبل قط ،  ثم قال : [[ موجها الكلام لأخيه في الرضاعة عثمان بن مظعون ، وهو أقرب إلى النبي من عمار .. وعثمان بن مظعون ابن السادة من قريش وعمار من الرقيق ]] ..

قال له الرسول وقد غضب غضباً شديداً : {{ إن عمار جلدة ما بين عيني وأنفي ، وإذا بلغ الرجل منه هذا فقد أبلغ }} ..

يعني [[ إذا ضربت وجهه يا عثمان ، فكأنك تضرب ما بين عيني وأنفي ]] .


ثم مضى صلى الله عليه وسلم يعمل ، وهو غاضب .. 

فجاء عدد من الصحابة إلى عمار 

وقالوا : يا عمار لقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجلك ، ونخشى أن ينزل فينا قرآن ، فقال عمار : أنا أسترضيه لكم ، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله مالي ولأصحابك ، [[ يمازح النبي ]] ..

 فقال له : مالك ولهم؟.. 

قال : يريدون قتلي .. 

قال : كيف؟..

فقال عمار : يحمل كل رجل منهم لبنة لبنة ، [[ أي طوبة ]] ، وإذا جئت حملوا علي لبنتين .. 

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم لأنه علم أن هذا أسلوب ترضيه ، (( لأنه كان يعلم من قبل ، أنه في الوقت الذي كان الصحابة يحملون فيه الحجارة لبنة لبنة ، كان عمار بن ياسر رضي الله عنه يحمل لبنتين في كلّ مرّة برضاه متطوعا ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم  وهو على هذه الحال ، جعل ينفض التراب عن رأسه وقال له : ( يا عمار ، ألا تحمل لبنة لبنة كما يحمل أصحابك؟ ) ، فردّ عليه قائلاً :"إني أريد الأجر عند الله " )، رواه البخاري .. 

 فضحك صلى الله عليه وسلم ، وأخذ ينفض التراب من على شعر عمار وهو يضحك ، ثم أخذ بيده وطاف به بين الذين يعملون في صحن المسجد ، وهو يقول : 

إن أصحابي لا يقتلونك يا عمار ، إنما تقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الحق ويدعونك إلى النار ..


وسمع الصحابة من المهاجرين والأنصار العاملين في بناء المسجد هذا الكلام ، وأخذوا يترقبون .. من الذي سيبتليه الله في قتل عمار؟؟.. فهذه نبوءة النبي ، وبشهادة النبي أن من يقتل عمار باغي ، وعمار يدعوه إلى الحق ، وهو يدعوه إلى النار ، فمن هو؟؟..

_________________________

وتمضي الغزوات والسنين ، وعمار لم يُقتل .. ويرحل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ويليه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، وعمار لم يُقتل ..  

حتى كانت خلافة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ووقعت فتنة معاوية بن أبى سفيان ، والتقى الجيشان في معركة {{ صفين }} فى شهر صفر سنة ٣٧ هجرية ، ونظر الناس فإذا عمار في جيش علي بن أبي طالب ، أخذ يناديهم :

يا أصحاب معاوية ، نحن أصحاب محمد رسول الله .. نحن ضربناكم على تنزيله * ((يقصد القرآن)) ، فاليوم نضربكم على تأويله ((أى تأولتم القرآن فى غير محله)) ، ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله ، أو يرجع الحق إلى سبيله .. أنا عمار بن ياسر [[ وقيل كان عمره ٩٣ عاما ]] ..

يقول أصحابه كان يقفز من تل إلى تل ، ويقفز من جواد إلى جواد ، ويضرب بالسيف ويرمي بالنبال ويرمي بالرمح ، وهو شيخ طاعن فى السن ، وظل ينادي بهذا النداء .. فقال معاوية لعمرو بن العاص قائد جيشه ومستشاره :

هل عندك دواء لهذه المصيبة؟؟..

 عمار يلهب الجيش كلما بردت المعركة ألهبها ، ولكلماته تأثير فى نفوس جندنا .. 

قال عمرو بن العاص : لا عليك ، فأرسل عمرو رجلين تسللوا من خلال الجند ، حتى إذا أدركوا عمار ، قتلوه غدراً .. 

 فسقط عمار شهيدا ، فلما سقط ، التفت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عدد كبير منهم في جيش علي ، وقالوا : 

هذا عمار قد قتل ، وكان فيهم ممن شهد بناء المسجد ، وسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم {{ إن أصحابي لا يقتلونك يا عمار ، إنما تقتلك الفئة الباغية ، تدعوهم إلى الحق ويدعونك إلى النار }} ..

فقال الصحابة : الله أكبر ، الله اكبر ، الله اكبر .. هذه نبوءة رسول الله ، تبين لنا اليوم أننا على الحق ، وأنهم على الباطل .. فصاح الناس كلهم : [[ علي هو الذى على الحق ، ومعاوية هو الباغي ]] ..

 فانسحب ثلث جيش معاوية رضي الله عنه ، وانضم إلى جيش علي رضي الله عنه .. 

فقال معاوية : ويحك يا عمرو ، كنا بمصيبة وأصبحنا بمصيبتين ، رضي الله عن صحابة رسول الله أجمعين .. 

إنها نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

________________________

والآن نعود إلى بناء المسجد : 

فكانت الخطوة الأولى للنبى هي بناء المسجد ، وببناء المسجد استطاع إذابة الخلافات بين الأوس والخزرج ، واستطاع أيضا إذابة الخلافات بين طبقات المجتمع .. 


ذلك لأن المسجد لم يكن فقط لأداء للصلوات الخمسة ، بل كان له دور أعمق من ذلك بكثير .. 

المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان مقرا للحكم والشورى والمعاهدات والقضاء ، ولاستقبال الوفود وإعلان الأفراح ، ومكان للترفيه ، ومكان لتربية الاطفال ، ومداواة المرضى ، ومأوى للفقراء وعابري السبيل ..

وكان صلى الله عليه وسلم ، بعد أن قال : ((هنا المسجد  إن شاء الله)) .. قال :

إليّ يا معشر المهاجرين ، إليّ يا معشر الأنصار .. حتى اقترب منه كل الصحابة واجتمعوا إليه ، فقال : فلتتآخوا في دين الله ، أخوين أخوين .. 

((سنؤجل الحديث عن المؤاخاة إلى الحلقة القادمة)) .. 

________________________

وكانت أبعاد المسجد النبوي وقت بنائه كالآتى : 

جعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، طول المسجدِ خمسةً وثلاثين متراً ، أمّا عرضُه فقد قارب الثّلاثين متراً ، في حين بلغ ارتفاعُه مترين تقريباً ، فكانت المساحةُ الإجماليّةُ للمسجد قد ناهزت ألفاً وخمسين متراً مربعاً تقريباً ، هذا وقد احتوى المسجد النّبويُّ الشّريف في بادئ الأمر على أبوابٍ ثلاثة هي : الباب الجنوبيّ ، والبابُ الشّرقيّ المعروف بباب جبريل أو باب النّبي ، والبابُ الغربيُّ أو ما يُعرف بباب الرّحمة ، وقد أُغلِق الباب الجنوبي لاحقاً بعد تغيُّر القِبلة ، ليُفتَح بدلا منه بابٌ آخر من الجهة الشّماليّة للمسجد .. 

_________________________

وكان بناء المسجد يتسم بالبساطة والتواضع ، ولكن في هذا المسجد تعلم الصحابة دينهم ، فكان أشرف وأرقى جامعة عرفها الإنسان على هذه الأرض ، وخرج منه رجال أميين ، أصبحوا أساتذة تفوقوا على العالم بأسره فى الأخلاق والسلوك .. ومن هذا المسجد تخرجت السرايا والكتائب ، وفيه تعلم الصحابة الجهاد .. 

 مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، تخرج منه خير أمة أخرجت للناس ، فكانت شهادتهم عند التخرج من الله عزوجل ، وهذا نص الشهادة من القرآن :

{{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }} صدق الله العظيم ،،،

أرأيتم ، ما أجملها من شهادة من الله عز وجل .. 

________________________

والجدير بالذكر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، صلى ومعه المسلمون في مسجده بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا إلى جهة بيت المقدس ، ثم نزل الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة ، فحوَّل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة من الشمال إلى الجنوب ، وأمر بإغلاق الباب الجنوبي الذي أصبح في جهة القبلة ..


ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر في السنة السابعة من الهجرة ، وكان عدد  المسلمين قد زاد كثيرًا ، فقال الصحابة : يا رسول الله ، لو نزيد في بناء هذا المسجد .. فلبّى النبى طلبهم ، وأمر بتوسعة مسجده ، فزاد في طوله ١٥ مترًا وفي عرضه ٢٠ مترًا ، حتى أصبح مربعًا بطول وعرض ٥٠ مترًا ، وبمساحة ٢٥٠٠ متر مربع ..


يتبع بإذن الله ..

الأنوار المحمدية 

 صلى الله عليه وسلم

ليست هناك تعليقات:

المتابعون

أرشيف المدونة الإلكترونية