على الرغم من شهرته التي ارتفعت مع الأيام فإنه لم ينس قريته وأهله هناك، فظل على عمله بينهم مأذونا للقرية حتى بعد إنتقاله إلى القاهرة، كانت في صوته نبرة تأخذك إلى حيث رحيق الجنة، ولما أصيب في صوته، آثر أن ينسحب من دنيا الميكرفون، ليظل صوته في ذاكرة مريديه عشرين عاما قبل وفاته.
في أغسطس من عام 1903 م، وفي قرية ( دروة ) مركز أشمون بمحافظة المنوفية، ولد الشيخ عبدالرحمن الدروي، وفي كتاب القرية أتم حفظ القرآن الكريم وهو لم يتعد التاسعة من عمره، ثم انتقل إلى القاهرة، وهناك ألتحق بالأزهر الشريف للاستزادة من العلم والثقافة.
بدأ الشيخ الدروي يسطع نجمه ويتألق في عالم القراءة، لما كان يتمتع به من صوت دافيء، وقرار سليم، ونبرة تهز الوجدان قبل الأذان، وكان يقرأ القرآن في مأتم محمود فهمي النقراشي باشا، فسمعه رئيس الحكومة في ذلك الوقت، وهو يرتل ترتيلا حسنا بصوت كله شجن ... فسأل عن اسمه، ولماذا لم يقرأ في الإذاعة؟! فدخل إليها عام 1942 م.
ولكنه برغم شهرته التي ذاعت عبر الأثير، فإنه لم ينس قريته، فقد ظل مرتبطا بها حتى وفاته، إذ كان يعمل مأذونا لأهلها حتى وفاته، وفي القاهرة نقل المأذونية من قرية ( دروة ) إلى شياخة الكردي، التابعة لمحكمة الجمالية حيث كان يسكن.
وفي عام 1948 م وأثناء أدائه لفريضة الحج، طلبته الحكومة السعودية ليفتتح أول إذاعة للمملكة، وكان معه في ذلك الوقت رئيس بعثة الإذاعة المصرية، فوافق وقام بتسجيل 4 ساعات، ورفض أن يتقاضى أجرا على التسجيلات قائلا: كيف أتقاضى أجرا عن قرآن تلوته في بلد نزل عليه وفيه القرآن، وقال سأقرأ دون شروط.
ودعي إلى المملكة الأردنية عام 1953 م، وهناك سجل 16 تسجيلا ومن حسن حظه وهذا لم يتح للكثيرين، أن قرأ سورة الكهف بالمسجد الأقصي جمعتين متتاليتين، وقتها كانت فلسطين تتبع المملكة الأردنية، وهي سابقة ليست لغيره.
وفي الأردن كتبت عنه جريدة الدفاع تقول: " تعاقدت دار الإذاعة الأردنية مع المقرىء الشهير الشيخ عبدالرحمن الدروي، من كبار المقرئين في الإذاعة المصرية على المجيء إلى الأردن لتسجيل بعض القراءات له، وقدم الشيخ وقد سجلت له 16 إذاعة، وتبرع فضيلته بتلاوة آي الذكر الحكيم في المسجد الأقصى يوم الجمعة الماضية، وسيقرأ فضيلته غدا بالحرم الإبراهيمي وسيظل يقرأ طيلة مدة إقامته هنا في المسجد الأقصى ( دون مقابل ) ".
وقالت عنه جريدة " فلسطين " تحت عنوان " مقرىء معروف من مصر " قدم إلى رام الله يوم الثلاثاء الماضي المقرىء المعروف بدار الإذاعة المصرية فضيلة الشيخ عبدالرحمن الدروي بدعوة من دار الإذاعة الأردنية الهاشمية، لتسجيل آي الذكر الحكيم، لمدة أربع ساعات، ثم يعود إلى القاهرة، وقد أدى فضيلته صلاة الجمعة أمس بالمسجد الأقصى المبارك، وقد أقام الشيخ عبد الغني كاملة، مأدبة غداء على شرف الشيخ عبدالرحمن الدروي الذي كان موضع حفاوة وتكريم الكثيرين من مقدري علمه وفضله، نرحب به ونتمنى له طيب الإقامة في الأردن بين أهله وإخوانه ".
هذا هو ما دفع إذاعة لندن عن طريق الاستديو الخاص بها بالقاهرة، والذي كان يشرف عليه الرائد السيد بدير، لأن تسجل له عدة تسجيلات، تعد من أندر التسجيلات للشيخ الدروي، وقد أرسل ابنه محمود - واحد من سبعة أبناء للشيخ - وهو مدير للإدارة القانونية بهيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء، أرسل للإذاعة في طلب تسجيلات والده، فاهتم المسئولون عن الإذاعة واخبروه بأن القسم العربي بالإذاعة قد وافق على منحه بعض التسجيلات، وأرسلوا له شريطا واحدا عليه عدة قراءات للشيخ تتراوح بين 8 و 12 دقيقة.
ظل الشيخ عبدالرحمن الدروي بارا بأهل قريته، فكان لا يتقاضى أجرا عن إحياء الليالي ولا عن الزيجات التي كان يقوم بتحريرها، وكان يقول : إن النبرة الغريبة التي في صوته، يتميز بها أهل قريته، وهي نبرة يكسوها الحزن والشجن للواقع المر الذي كانت تعيشه القرية من شاطىء الرياح المنوفي.
ومن عادة باشوات ما قبل الثورة إقامة المآدب الرمضانية التي كان يدعى لإحيائها مشاهير القراء.. فكان الشيخ الدروي يذهب للإقامة بعزبة محمد محمود جلال بك ببني مزار ومرة أخرى إلى عزبة البدراوي باشا عاشور لقراءة القرآن.
وكان من هواياته الاستماع إلى تسجيلات الشيخ علي محمود، والشيخ محمد رفعت، وكان شغوفا بحضور الليالي التي كان يقيمها الشيخ عبدالفتاح الشعشاعي الذي كان يصف صوته بأنه من أعظم الأصوات !
وللأسف لم يستطع الشيخ الدروي تسجيل القرآن مرتلا، وكان ذلك قي عام 1962 م عندما أصيب بمرض بالأحبال الصوتية، فآثر أن ينسحب من دنيا الميكرفون ليظل في ذاكرة محبيه بصوته الحسن، وإن كان هذا لم يمنعه من غحياء الليالي كلما خفت حدة المرض، ووجد نفسه قادرا على القراءة، وظل على ذلك حتى أسلم الروح إلى بارئها راضيا مرضيا بما قدم من تلاوة في 2 / 1 / 1991 م، رحمه الله . وظل قارئا للسورة بمسجد الكخيا بالقاهرة، قبل وفاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق