خُطَبّتي الجمعة من المسجد النبوى
مع الشكر للموقع الرسمى للحرمين الشريفين
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور سعود الشريم - يحفظه الله
خطبتى الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان :
التجرد لله تعالى في الإحرام
والتي تحدَّث فيها عن التجرُّد لله تعالى بإخلاص العبادة له وحده،
واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، مُمثِّلاً ذلك في الإحرام وسائر مناسك الحج،
كما حذّرَ من سفك دماء المسلمين وانتهاك حُرماتهم .
الحمد لله الوليِّ الحميد، ذي العرش المجيد، فعَّالٍ لما يُريد،
له الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ وهو يُبدئُ ويُعيد، وهو الغفورُ الودود،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه أفضلُ من صلَّى لربه وقام ،
وخيرُ من حجَّ بيتَه الحرام، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة،
وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، وجعلَها على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارها،
لا يزيغُ عنها إلا هالِك، فصلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين،
وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين،
وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -؛ فهي الزادُ في المسير،
والرفيقُ المُؤنسُ بعد الرحيل من تلبَّس بها سُتِر، ومن اعتصمَ بها نجا من الهلَكة
{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا }
[ مريم: 71، 72 ]
أيها المسلمون حُجَّاج بيت الله الحرام :
لقد أكرمَ الله عبادَه بمواسِم للخيرات مُترادِفة، بها تحيا قلوبُهم، وتزكُو نفوسُهم.
جعلَها الله موارِد للتزوُّد بالطاعة، وتجديد العهد مع الله،
والخُلوص من عوالِق الدنيا وصوارِفها .
فما أن ودَّعوا شهر البركات والرحمات إلا ويلُوحُ لهم في الأُفق موسِمُ الذكر والتهليل،
والتكبير والتلبية. موسِم الوقوف بعرفة، والحج الأكبر، ورمي الجِمار،
وقضاء التَّفَث، والطواف بالبيت العتيق.
موسِم تعظيم شعائر الله المُذكِية للتقوى في النفوس
{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }
[ الحج: 32 ]
أيها المسلمون :
لقد جمع الله لعباده في موسِم الحج أنواعَ العبادة الثلاثة: القولية، والبدنية، والمالية.
ولعِظم شأن هذه الأعمال الثلاثة كان من الحكمة أن يسبِقَها تجرُّدٌ من عوالِق الدنيا،
ونزعٌ لما يكون سببًا في جلب الصوارِف عنها .
فكان أول عملٍ يعملُه الحاجُّ قبل النية والتلبية أن يتجرَّد من لُبس المخيط،
وكأن في هذا التجرُّد إيذانًا بالصفاء، والخلُو من الغَشش،
وكأن فيه نزعًا لاعتبارات المظاهر على المخابِر،
وأن تقوى الله والقُرب منه - سبحانه - هما المِعيارُ الحقيقي؛
فقد قال المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -:
( إن الله لا ينظرُ إلى أجسامكم ولا إلى صُوركم،
ولكن ينظرُ إلى قلوبكم وأعمالكم )
رواه مسلم
التجرُّدُ من المخيط - عباد الله - يجعلُ الحُجَّاج على حدٍّ سواء،
مهما اختلفَت أصنامُهم شريفُهم ووضيعُهم، وغنيُّهم وفقيرُهم.
فلو كان كلٌّ منهم على لباسِه المعهود لطفِقَت الأفئدةُ والأبصارُ مُشرئِبَّةً
تتأمَّلُها وتنظرُ إليها، فيدِبُّ إليها الغيرةُ والحسد، والشحناء والبغضاء،
فتتنافرُ القلوب حتى تبتعِد عن خالقها ومولاها .
فكان التجرُّد من الثياب تجرُّدًا من الهوى، وحب الذات، والولَع بالدنيا،
وتجرُّدًا من الإحَن والضغائن، وتتبُّع العورات، وقلَّة الإنصاف،
حتى تكون النفوس مُهيَّأةً لتحمُّل أمانة العدل المُنافي للظلم والجَور،
ليبلُغ المُتجرِّدُ بعد ذلكم كلِّه درجةَ المخمُوم الذي هو أفضلُ الناس؛
حيث سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم -:
( أيُّ الناس أفضل ؟
قال: كل مخمُوم القلب، صدُوق اللسان
قالوا: صدوقُ اللسان نعرفه، فما مخمُوم القلب ؟
قال: هو التقيُّ النقيُّ لا إثمَ فيه، ولا غلَّ، ولا حسَد )
رواه ابن ماجه.
التجرُّد - عباد الله - هو خلُوص الشيء من مُخالطة غيره له؛
فالتجرُّد من المخيط هو نزعُ الثياب ليحلَّ الإحرام محلَّها،
والتجرُّد من الشرك هو ترك كل عبادةٍ سوى عبادة الله وحده،
والتجرُّد من البدعة هو تركُ كل سبيلٍ غير سبيلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -،
وألا يعبُد المرءُ ربَّه إلا بما شرَع .
ففي نزع المخيط في الحج والتجرُّد منه دلالةٌ ظاهرة على أن من أرادَ تحصيلَ
تحليةٍ صافية لا بُدَّ أن يُسبِقها بتخليةٍ صادقة،
فإن التحلية إنما تحلُّ في فؤاد المرء بعد التخلية،
ومن أرادَ اللبنَ الصريح فلينزِع عنه الرُّغوة
{ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا }
[ الإسراء: 19 ].
والحاصلُ - يا رعاكم الله -:
أن المردَّ في حقيقة التجرُّد يرجعُ إلى عُنصرين رئيسين لا ثالث لهما :
أحدهما: التجرُّد في الإخلاص
والآخر: التجرُّد في المُتابعة.
فتجرُّد الإخلاص ينفي كل شائبةٍ من شوائِب الشرك الأكبر والأصغر،
الخفيِّ منه والجليِّ؛ فإن من تجرَّد في إخلاصه لله لم يُشرِك معه غيرَه.
وفي الحج من مظاهر التوحيد ما لا يتَّسع المقام لذكره،
ويجمعُ مُتفرِّقها كلَّه قوله تعالى:
{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
[ البقرة: 196 ]
أي: له وحده دون سِواه.
فإن من الناس من يحُجُّ رياءً وسُمعةً، ومنهم من يحُجُّ لدنيا يُصيبُها أو رغبةٍ يُحصِّلها،
فكان التجرُّد لله قاطعًا كل سبيلٍ إلى غيره.
وأما تجرُّد المُتابعة - يا رعاكم الله - فهو عُنصرٌ عظيم، وسِياجٌ منيع،
يتمُّ الحفاظُ من خلاله على عُنصر التجرُّد في الإخلاص؛
إذ لا نفعَ في إخلاصٍ لا تتحقَّقُ فيه مُتابعةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛
أي: يقعُ الإخلاص في موقعه اللائِق به،
وهو أن يكون مُوافقًا لهدي النبي - صلواتُ الله وسلامُه عليه .
إذا تحقَّق هذان التجرُّدان - عباد الله - فلا تسألوا حينَئذٍ عن حُسن انتظام الناس
في حياتهم القلوية والعملية؛
لأن من تجرَّد لله في إخلاصِه ومُتابعته فحريٌّ به أن يُصيبَ الحكمةَ إذا نطَق،
وأن يعدِل إذا حكَم، وأن يُنصِف إذا وصَف، وأن يُعرِض عن اللغو إذا سمِعه،
وأن يملأ الله قلبَه في الحُكم على الآخرين بالمنطق العدليِّ لا العاطفيِّ .
فلا تمنعُه عيُ الرضا عن الإقرار بالعيب، كما لا تدفعُه عينُ السخط إلى التجنِّي والبُهتان
ولهذا قال بعضُ السلف:
[ لا تكُن ممن إذا رضِي أدخلَه رِضاه في الباطل، وإذا غضِب أخرجَه غضبُه من الحق ]
ألا والله وبالله وتالله؛ لو تحقَّق في الأمة هذان التجرُّدان لما ظهر الفسادُ فيها،
ولا كثُرت الفتن، ولا عمَّت البغضاءُ والشحناءُ أفئدةَ المؤمنين، ولا اتَّسعت الفُرقةُ بينهم،
ولا سُفِكَت دماؤُهم واستُبيحَت أموالُهم وأعراضُهم في صياصِيهم، أو قريبًا من دارهم.
ولما رأينا في الناس مقامًا لمن هو همَّازٌ لمَّازٌ مشاءٌ بنميم،
يُذلِّل كل سبيلٍ لتحقيق هواه ومُبتغاه، ولو كان في ذلك أكلُ الحقوق بالباطل،
وأكلُ لحوم الناس بالغِيبة باسم النُّصح، وهو في الحقيقة تعيير، وباسم الغَيرة،
وهو في الحقيقة حسَد، وباسم الإرشاد، وهو في الحقيقة إفساد .
ولهذا قال ابن الجوزيُّ - رحمه الله -:
[ ومن تلبيس إبليس: قدحُ بعضهم في بعضٍ طلبًا للتشفِّي،
ويُخرِجون ذلك مخرجَ الجرح والتعديل، الذي استعمله قدماءُ هذه الأمة للذبِّ عن الشرع،
والله أعلمُ بالمقاصِد ]
ولكنها الأدواءُ والأهواءُ - عباد الله -، وحبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت
{ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
[ الأنفال: 67 ].
هنيئًـــــا مريئًـا للنقيِّ إذا اتَّقَـــى
وما قالَ زُورًا أو طغَى وتمــــرَّدَا
فذلك مخمُــــــوم الفــــــــــــــؤاد
وإنه لطاعة ربِّ العالمين تجرَّدَا
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة،
ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلتُ ما قلتُ،
إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان،
وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ،
فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إن ربي كان غفَّارًا .
الحمد لله على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتِنانه .
فإن أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -،
وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكل مُحدثةٍ بدعة.
ثم اعلموا - رحمكم الله - أن من أعظم الحقوق التي يجبُ المُسارعةُ في التجرُّد الصحيح
فيها هي دماءُ المُسلمين؛ فإنها حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا،
في بلدكم هذا، فقد قال الصادقُ المصدوقُ - صلواتُ الله وسلامُه عليه -:
( لا يحلُّ دمُ امرئٍ مُسلم يشهَد أن لا إله إلا الله
وأني رسولُ الله إلا بإحدى ثلاث الثيِّب الزاني، والنفسُ بالنفس،
والتارِكُ لدينه المُفارِقُ للجماعة )
رواه البخاري ومسلم.
فبأيِّ حقٍّ وأيِّ تبريرٍ يستبيحُ أحدُنا دمَ أخيه المُسلم؟!
وبأيِّ حقٍّ وأيِّ ذنبٍ تُزهقُ النفسُ المعصومة، ويُعبثُ بانتظام الحياة الآمِنة الهانِئة؟!
ألا يعلمُ العابِثون بالدماء أن عِصمةَ الدم أعلى درجات الأمن الدنيوي،
فإذا ضاعَ فما سِواه من صُور الأمن أضيَع !
أ لأجلِ الدنُيا يُسفكُ الدمُ الحرام؟!
أ لأجلِ حظٍّ دنيويٍّ زائِل تُزهقُ أرواحٌ دون جَريرة؟!
ألا متى تصحُو أمَّتُنا من غفلتها لتعِي خطورةَ ما يُدمِي القلوب،
ويُبكِي العيون من مآسِي إخواننا المُسلمين في كل مكان؛
حيث تُسالُ دماؤُهم بغير حقٍّ ولا هدًى ولا كتابٍ مُنير.
يستنشِقُ القاتِلون الطُّغيانَ والجبروت، فيستنثِرون الدماءَ والرقابَ والأشلاء!
إنهم قُساةُ القلوب، غِلاظُ الأكباد، من عصاباتٍ طاغيةٍ مُعتديةٍ
أباحَت لنفسها أنواعَ الإجرام من قتلٍ وسلبٍ وإخلالٍ بالأمن إلا لها وعليها،
فهي في نظرها من يستحقُّ الحياة لا غيرها، فتُبيحُ لنفسها الانقلابَ والقتلَ
والاستِهتارَ بالأرواح وحقوق الجِوار. حتى أدمنَت رؤية الدماء، فلا تنتشِي إلا بها.
ألا فبشِّر القاتل بقتله ولو بعد حينٍ. فأيُّ خُلُقٍ يحملُ هؤلاء،
وأيُّ ذمةٍ يلقَون بها الحكمَ العدلَ
{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ }
[ الشعراء: 88 ]
{ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ }
[ هود: 103 ].
فإن أول ما يُقضَى في ذلك اليوم الدماء فالويلُ ثم الويلُ لمن قدِم على الله
في ذلك اليوم وفي رقبته دمُ امرئٍ مُسلم !
فكيف بمن في رقبته ما لا يُحصَى من الدماء المعصُومة؟!
ذلك اليوم الذي سيتحقَّقُ فيه قولُ الله - ومن أصدقُ من الله قِيلاً -:
{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا }
[ النساء: 93 ].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة:
محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه،
وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون
فقال - جل وعلا -:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
[ الأحزاب: 56 ].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر،
وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ،
وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -،
وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين،
وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين،
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين،
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين،
اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها،
أنت وليُّها ومولاها يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين،
واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين،
واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمرنا،
واجعل ولايتَنا فيمن خافك واتقاك واتبع رِضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم،
اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين في الثغور،
اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين في الثغور،
اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم،
اللهم ارحم شهداءَهم، ورُدَّ غائبَهم،
اللهم قوِّ عزائمهم، وسدِّد سِهامهم وآراءَهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في سائر الأوطان،
اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في فلسطين، وفي سُوريا، وفي اليمن،
وفي سائر بلاد المُسلمين،
اللهم انصُرهم على من ظلمَهم يا ذا الجلال والإكرام.
{ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
[ البقرة: 201 ].
سبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين،
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين .
====================================================================================================================================
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور عبد المحسن بن محمد القاسم - يحفظه الله
خطبتى الجمعة من المسجد النبوى بالمدينة المنورة بعنوان :
خيرُ الأعمال وأفضلُها
والتي تحدَّث فيها عن الأفضل في المكان والزمان والقول والعمل؛
فذكرَ فضلَ مكة والمدينة والمسجد الأقصى، كما بيَّن فضلَ الشهور والأيام والليالي،
ثم عرَّج على أفضل الأقوال والأعمال، في خطبةٍ شاملةٍ لكثيرٍ من فضائل الأعمال.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه،
ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،
من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له،
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه،
وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، وراقِبُوه في السرِّ والنجوَى.
أيها المسلمون:
انفردَ - سبحانه - بالاصطِفاء والتفضيل كما تفرَّد بالخلق والتدبير
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
[ القصص: 68 ].
ولكمال علمِه خصَّ ما شاءَ بفضلِه، واختيارُه - سبحانه - وتخصيصُه دالاَّن على ربوبيَّته
ووحدانيَّته وكمال حكمتِه وقُدرته؛ فاصطفَى ملائكتَه على سائر خلقِه،
خلقَهم من نورٍ ووكَّلَ إليهم شُؤون مُلكِه
{ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
[ التحريم: 6 ].
وكرَّم بني آدم واختارَ منهم أنبياءَ ورُسُلاً،
واصطفَى منهم نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -،
وجعلَه سيِّدَ ولد آدم وأكرمَهم وأفضلَ الأنبياء والرُّسُل،
وصحابتُه خيرُ صحبٍ وأفضلُ جيلٍ، لا كانَ ولا يكونُ مثلُهم،
قال - عليه الصلاة والسلام -:
( خيرُ الناسِ قرني، ثم الذين يلُونَهم، ثم الذين يلُونَهم )
متفق عليه.
قال الشافعيُّ - رحمه الله -:
[ هم فوقَنا في كل فقهٍ وعلمٍ ودينٍ وهُدًى، وفي كل سببٍ يُنالُ بهم علم،
أو يُدرَكُ به هُدًى، ورأيُهم لنا خيرٌ من رأيِنا لأنفُسِنا ]
وهذه الأمةُ تمامُ سبعين أمةٍ هي خيرُها وأكرمُها على الله،
صُفوفُ أهل الجنة عشرُون ومائةُ صفٍّ، ثمانون من هذه الأمة، وأربعون من غيرها.
وأكرمُ الخلق عند الله أتقاهم.
( مرَّ بالنبي - عليه الصلاة والسلام - رجلان: أحدُهما من فُقراء المُسلمين،
والآخر من أشراف القوم،
فقال في الأول: هذا خيرٌ من ملئِ الأرض مثلَ هذا )
رواه البخاري.
والجنَّةُ دارُ كرامته أعدَّها الله لعبادِه المُؤمنين،
( ولموضعُ سوط أحدِكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها )
رواه البخاري.
وأفضلُها الفردوسُ
( فإنه أعلى الجنة، وأوسطُها، ومنه تُفجَّرُ أنهارُ الجنة، وفوقَه عرشُ الرحمن )
وأفضلُ نعيم أهل الجنة: رؤيتُه - سبحانه ؛
قال - عليه الصلاة والسلام -:
( فيكشِفُ الحجابَ فما أُعطُوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربِّهم - عز وجل )
رواه مسلم.
وخلقَ الله الأماكِن وفاضلَ بينها، وخيرُها ما وصلَ به العبدُ إلى ربِّه
وكان أقربَ لنَيل رِضاه وجنَّته ومكةُ خيرُ أرض الله وأحبُّها إليه،
بلدٌ حرامٌ وفيها قبلةُ المُسلمين، وأولُ مسجِدٍ وُضع في الأرض،
الصلاةُ فيه خيرٌ من مائةِ ألفِ صلاةٍ فيما سِواه،
جعلَ الله فيها مناسِكَ عباده وإليها تهوِي القلوبُ ويأتيها الخلقُ من كلِّ فجٍّ عميقٍ.
والمدينةُ مُهاجَرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلدٌ حرام،
البركةُ فيها ضِعفَا ما بمكَّة، والصلاةُ في مسجِدها
في مسجدِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سِواه،
ومن تطهَّر في بيتِه ثم أتَى مسجدَ قُباءٍ كان له أجرُ عُمرة.
والمسجِدُ الأقصَى أولُ القبلتين ومسرَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم
ولا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجِدٍ:
( المسجِد الحرام، والمسجد الأقصَى، ومسجدِه - عليه الصلاة والسلام )
( وأحبُّ البلاد إلى الله مساجِدُها، وأبغضُ البلاد إلى الله أسواقُها )
رواه مسلم.
ومجالسُ الذكر رِياضُ الجنة؛
قال - عليه الصلاة والسلام -:
( وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ الله يتلُون كتابَ الله
ويتدارَسُونَه بينهم إلا نزلَت عليهم السَّكينةُ، وغشِيَتهم الرحمةُ،
وحفَّتهُم الملائكةُ، وذكرَهم الله فيمن عنده )
رواه مسلم.
والزمانُ مطيَّةٌ للدار الآخرة، واللَّبيبُ من اغتنمَ أنفسَه، وأفضلُ الشهور رمضان،
فرضَ الله صومَه وأنزلَ فيه القرآن،
وأشهرُ الله الحرام عند الله مُعظَّمة والمعاصِي فيها أشدُّ قُبحًا من غيرِها.
وخيرُ الأيام يوم النَّحر، ثم يوم عرفة،
وما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من أيام عشر ذي الحجَّة،
ويوم الجُمعة خيرُ يومٍ طلعَت فيه الشمسُ،
فيه ساعةٌ لا يُوافِقُها مُسلمٌ وهو قائمٌ يُصلِّي يسألُ اللهَ خيرًا إلا أعطاه،
وليالِي العشر من رمضان مُبارَكة، وخيرُ ليالِي الدهر ليلةُ القدر خيرٌ من ألفِ شهر.
والثُّلُثُ الآخر من الليل أنفَسُ ما في الليل،
ينزلُ فيه الربُّ إلى السماء الدنيا ويتودَّدُ إلى عباده، فيقول:
( من يدعُوني فأستجيبُ له، من يسألُني فأُعطِيه، من يستغفِرُني فأغفِر له )
متفق عليه.
والله طيِّبٌ لا يقبلُ من الأقوال والأعمال إلا طيِّبَها
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }
[ فاطر: 10 ].
والأعمالُ الصالحةُ مُدَّخرُ العباد عند الله، وبها سعادتُهم ونجاتُهم وفوزُهم،
والله فاضلَ بينها، وما تقرَّبَ عبدٌ إلى الله بشيءٍ أحبَّ مما افترضَ عليه،
ولا يزالُ يتقرَّبُ بالنوافِلِ حتى يُحبَّه.
وأعظمُ الفروضِ إيمانٌ صادقٌ ويقينٌ راسِخ؛
( سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمال أفضل؟
قال: إيمانٌ بالله )
متفق عليه.
وخيرُ القلوب القلبُ السليم، وبصلاحِه تصلُحُ الجوارِح،
وفي الآخرة لا ينفعُ مالٌ ولا بنُون إلا من أتَى الله بقلبٍ سليم،
وما سبقَ الأولون إلا بصلاحِ بواطنِهم.
قال بكرٌ المُزنيُّ - رحمه الله -:
[ ما سبقَهم أبو بكرٍ - رضي الله عنه - بكثرة صلاةٍ ولا صيامٍ ولكن بشيءٍ وقرَ في قلبِه ]
قال أهلُ العلم:
[ الذي وقرَ في صدره هو حبُّ الله والنصيحةُ لخلقِه ]
وإخلاصُ العبادة لله وحده أصلُ كل خيرٍ وفلاح،
وخيرُ الهديِ هديُ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -،
والمُتابعةُ له سببُ القبول وبركةِ العمل.
وكلمةُ التوحيد شِعارُ الإسلام ومِفتاحُ الجنة، جمعَت الدينَ كلَّه، فكانت أولَه وخاتمَه،
وهي أفضلُ شُعب الإيمان وأعلاها؛
قال - عليه الصلاة والسلام -:
( الإيمانُ بِضعٌ وسبعون شُعبةً، فأعلاها قولُ: لا إله إلا الله )
متفق عليه.
والولاءُ والبراءُ حِصنٌ للدين وأهله، وأوثقُ عُرَى الإيمان الحبُّ في الله والبُغضُ في الله،
ومن أحبَّ الله، وأبغضَ في الله فقد استكملَ الإيمان،
وإنما تُنالُ ولايةُ الله وحلاوةُ الدين بذلك.
والصلاةُ صِلةٌ بين العبد وربِّه، وهي أفضلُ أعمال الجوارِح وأزكاها،
ثانِي أركانِ الإسلام ومبانِيه العِظام، وفارِقةٌ بين المُؤمنين والكُفَّار،
أداؤُها جماعةً في المسجِد واجبٌ،
وفضلُ الجماعة على صلاة الفرد سبعٌ وعشرون درجة.
وأعظمُ الناسِ أجرًا في الصلاةِ أبعَدُهم إليها ممشَى،
وخيرُ صفوف الرجال أولُها وخيرُ صفوف النساء آخرُها،
وأفضلُ الصلاة طولُ القيام إلا ما جاء النصُّ بتخفيفِه،
وأقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجِد.
وصلاةُ المرأة في بيتِها خيرٌ من صلاتِها في المسجِد،
وخيرُ صلاة المرء في بيتِه إلا المكتُوبة.
وأفضلُ الصلاةِ بعد المكتُوبة صلاةُ الليل، وهي في الثُّلُث الآخِر منه مشهُودة،
وأحبُّ القيام إلى الله صلاةُ داود - عليه السلام -، كان ينامُ نصفَ الليل ويقوم ثُلُثَه
وينامُ سُدُسَه، وركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها.
والصدقةُ تُطفِئُ الخطيئة كما يُطفِئُ الماءُ النار،
وهي بُرهانٌ على الإيمان ومن خير الأعمال؛
سُئِل - عليه الصلاة والسلام -:
( أيُّ الإسلام خيرٌ؟
قال: تُطعِمُ الطعامَ، وتقرأُ السلامَ على من عرفتَ ومن لم تعرِف )
متفق عليه.
وأعظمُ الصدقةِ أجرًا أن تصدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشَى الفقرَ وتأملُ الغِنى،
ولا تُمهِلُ
( حتى إذا بلغَت الحُلْقومَ قلتَ: لفُلانٍ كذا ولفُلانٍ كذا، وقد كان لفُلان )
متفق عليه.
وخيرُ الصدقة ما كان عن ظهر غِنى، واليدُ العُليا خيرٌ من اليدِ السُّفلَى،
وإخفاءُ الصدقة خيرٌ من إظهارها،
فهي أبعَدُ عن الرِّياء إلا أن يترتَّبَ على الإظهار مصلحةٌ راجِحةٌ كالاقتِداء بالإنفاق؛
قال - سبحانه -:
{ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
ومن السبعةِ الذين يُظلُّهم الله في ظلِّه:
( رجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه )
متفق عليه.
والتيسيرُ على المُعسِرين صدقةٌ، ومن استدانَ أموالَ الناس يُريدُ قضاءَها أدَّى الله عنه،
وإن من خيارِكم أحسنَكم قضاءً.
والصومُ جُنَّةٌ من النار، ولخُلوفُ فم الصائِم أطيبُ عند الله من ريح المِسك،
وأفضلُ الصيام بعد رمضان شهرُ الله المُحرَّم،
وأحبُّ الصيام إلى الله صيامُ داود - عليه السلام -، كان يصوم يومًا ويُفطِرُ يومًا.
والعُمرةُ إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينَهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة،
وأفضلُ أنساك الحجِّ التمتُّعُ لمن لم يسُقِ الهديَ، والحلقُ في النُّسُك أفضلُ من التقصير،
وما عمِلَ آدميٌّ يوم النَّحر أفضلَ من إراقَة دمِ نُسُكه.
ولرَوحةُ في سبيل الله أو غَدوةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها،
ورِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقيامِه وخيرٌ من الدنيا وما عليها.
والعلمُ سابِقٌ العمل ومُقدَّمٌ عليه، وهو إمامٌ والعملُ تابِعُه،
( ومن يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين )
والله نفَى التسويَة بين العلماء والجاهلين،
وفضلُ العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكِب.
والناسُ معادِن خيرُهم في الجاهلية خيرُهم في الإسلام إذا فقُهوا،
وخيرُ الخلق من تعلَّم القرآن وعلَّمه.
قال سُفيانُ - رحمه الله -:
[ ما من عملٍ أفضلُ من طلبِ العلمِ إذا صحَّت النيَّة ]
وذكرُ الله أفضلُ ما تحرَّك به اللسان،
وأفضلُه القرآنُ العظيمُ كلامُ ربِّ العالمين، وهو أفضلُ الكُتب المُنزَّلة.
ومن قال:
( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير،
في يومٍ مائة مرَّة، لم يأتِ أحدٌ أفضلَ مما جاءَ به إلا أحدٌ عمِلَ أكثرَ من ذلك )
رواه مسلم.
وأحبُّ الكلامِ إلى الله:
( سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر )
قال عنها - عليه الصلاة والسلام -:
( أحبُّ إليَّ مما طلعَت عليه الشمسُ )
رواه مسلم.
( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن:
سُبحان الله وبحمده، سُبحان الله العظيم )
متفق عليه.
والدعوةُ إلى الله مهمَّةُ الرُّسُل، ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله،
وبها خيريَّةُ هذه الأمة وشرفُها، ولئن يهدِيَ الله بك رجُلاً خيرٌ لك من حُمر النَّعم،
ومن دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبِعَه إلى يوم القيامة،
وأولُ ما يُبدأُ به من الدعوة الأهمُّ فالأهمُّ،
ورأسُ الأمور وأصلُها دعوةُ الخلقِ إلى توحيدِ الله وعبادتِه،
وإنقاذُهم من الشركِ وسخَطِ الله.
وإصلاحُ ذاتِ البَين دينٌ وقُربة، وبه المحبَّةُ والأُلفة؛
قال - سبحانه -:
{ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
[ النساء: 114 ].
ولعظيم نفعِه يُدرِكُ به المرءُ درجةَ الصيام والصلاة والصدقة؛
قال - عليه الصلاة والسلام -:
( ألا أُخبرُكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟
، قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: إصلاحُ ذات البَين )
رواه الترمذي.
والعبدُ مُكلَّفٌ بعبادة الله والإحسانِ إلى خلقِه،
وأولَى الناسِ بالبرِّ وحُسن الصُّحبة الوالِدان،
وأوجبُ حقوق المخلُوقين وأفضلُ عملٍ بعد الإيمان، ثم بعد الوالدَين الأقربُ فالأقرب.
والمُؤمنُ الذي يُخالِطُ الناسَ ويصبِرُ على أذاهم خيرٌ ممن لا يُخالِطُهم
ولا يصبِرُ على أذاهم، وخيرُ الناس المُؤمن النافعُ المُحسِنُ للخلق
يُعاملُهم بما يودُّ أن يُعامِلوه، ويُحبُّ لهم ما حبُّ لنفسِه، وينصَحُ لهم ويصبِرُ على أذاهم.
وأكملُ المُؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا؛
قال - عليه الصلاة والسلام -:
( إن من خيارِكم أحسنُكم أخلاقًا )
متفق عليه.
وما من شيءٍ في الميزان أثقلُ من حُسن الخُلُق.
وخيرُ الأصحابِ خيرُهم لصاحبِه، وخيرُ الجيران خيرُهم لجارِه،
وخيارُ أئمتكم الذين تُحبُّونهم ويُحبُّونكم، وخيرُ الناسِ خيرُهم لأهله.
وأحبُّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلَّ،
والقليلُ الدائِمُ يُثمِرُ حتى يزيدَ على الكثير المُنقطِع أضعافًا مُضاعفَة.
وأحبُّ الدين إلى الله الحنيفيَّة السَّمحة، وما خُيِّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم
بين أمرَين إلا اختارَ أيسرَهما ما لم يكُن إثمًا.
والمُؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المُؤمن الضعيف،
وإذا قوِيَ داعِي الشرِّ عظُم شأنُ الثبات، وممن يُظلُّهم الله في ظلِّه:
( رجلٌ دعَتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ فقال: إني أخافُ الله )
والعاملُ أيامَ الصبر المُتمسِّكُ بدينِه له أجرُ خمسين من الصحابة،
وأجرُ الصُّحبة يفوقُ ذلك.
وأجرُ العبادة في الفتن كأجر الهِجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -،
والفتنُ بلاءٌ والقاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والسلامةُ في اعتِزالِها.
والدنيا دارُ سعيٍ وكِفاح، وأطيبُ الكسبِ عملُ المرء بيدِه،
وما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكُلَ من عملِ يدِه، وأطيبُ ما أكلَ الرَّجُلث من كسبِه،
وولدُه من كسبِه، ولأَن يأخُذ الرجلُ حبلَه
فيحتطِبَ خيرٌ من أن يسألَ الناسَ أعطَوه أو منَعُوه.
والدنيا متاعٌ، وخيرُ متاعها المرأةُ الصالحة، وخيرُ النِّكاح أيسرُه،
وأعظمُه بركةً أقلُّه مُؤنة.
وأحبُّ الأسماءِ إلى الله عبدُ الله وعبدُ الرحمن، وأوصدقُها: حارثٌ وهمَّام.
وأفضلُ ما غُيِّر به الشَّيبُ الحنَّاءُ والكتَم، وأفضلُ ما تداويتُم به الحِجامة،
وخيرُ المياه ماءُ زمزم ماءٌ مُبارك، وطعامُ طُعمٍ وشفاءُ سُقم.
وبعدُ .. أيها المسلمون:
فالمُؤمنُ يطمَحُ للوصول إلى أعالِي الأعمال وأكملها وأفضلها، وظنُّه بالله عظيم،
والله لا يُخيِّبُ من رجاه وأحسنَ الظنَّ به، ومن تنوَّعَت أعمالُه المرضيَّة
وأصابَ أعالِيها زادَ نعيمُه في الدنيا والآخرة،
وليس جزاءُ ولذَّةُ من ضربَ في كل طاعةٍ بسهمٍ وأخذَ منها أفضلَها
كجزاءِ ولذَّة من اقتصَرَ على نوعٍ واحدٍ وحُرِم فاضلَها.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم:
{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }
[ آل عمران: 133 ].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،
ونفعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ ما تسمَعون،
وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه،
وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه،
وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
السعادةُ وانشراحُ الصدر في القُربِ من الله، والطاعةُ تُورِثُ الأُنسَ بالله والمحبَّةَ له،
والدنيا دارُ سباقٍ في الخيرات ومُسارعةٍ إلى الطاعات،
والمُوفَّقُ من بادرَ إلى العمل قبل أن يفجَأَه الأجل.
ونافِسِ السابقين بالخير ولا تخلُد إلى اللهو والكسَل،
ولازِم الطاعةَ ولا تستغِل بالمفضُولِ عن الفاضِلِ والأكمل،
ومن استطاعَ ألا يسبِقَه إلى الله أحدٌ فليفعَل.
ثم اعلَموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل:
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
[ الأحزاب: 56 ].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمد، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الراشِدين،
الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلُون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ،
وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين،
واجعَل اللهم هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان،
اللهم اجعَل ديارَهم ديارَ أمنٍ ورخاءٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك،
ووفِّق جميعَ وُلاة أمور المُسلمين للعمل بكتابِك وتحكيم شرعِك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر جُندَنا،
اللهم ثبِّت أقدامهم، واربط على قلوبهم، وسدِّد رميَهم يا ذا الجلال والإكرام،
وأعظِم لهم الأجورَ المُضاعفَةَ إلى يوم الدين.
{ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
[ البقرة: 201 ].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء،
أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
[ الأعراف: 23 ].
عباد الله:
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
[ النحل: 90 ].
فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكرُوه على آلائِه ونعمِه يزِدكم،
ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
==================================================================================================
Aly Kharashy |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق