الأحد، 30 أغسطس 2015

صيد الخاطر لابن الجوزي - تذكر الموت

صيد الخاطر لابن الجوزي  - تذكر الموت

   حضرنا يوما جنازة شاب مات أحسن ما كانت الدنيا له ، فرأيت من ذم الناس للدنيا ، و عيب من سكن إليها و التقبيح للغافلين عن الاستعداد لهذا المصرع أمراً كبيراً من الحاضرين . 
   فقلت : نعم ما قلتم . و لكن اسمعوا مني ما لم تسمعوه .
   
أعجب الأشياء أن العاقل إذا علم قرب هذا المصرع منه أوجب عليه عقله البدار بالعمل و القلق من الخوف .
   
وقد اشتد ذلك بأقوام فهاموا في البراري ، و طووا الأيام بالمجاعة ، و داموا على سهر الليل ، و لازموا المقابر ، فهلكوا سريعاً .
   
و لعمري إن ما خافوه يستحق أكثر من هذا الفعل .
   
و لكن نرى العقل الذي أوجب هذا القلق قد أمر بما يوجب السكون ، فقال : إنما خلق هذا البدن ليحمل النفس كما تحمل الناقة الراكب .
   
و لا بد من التلطف بالناقة ليحصل المقصود من السير ، و لا يحسن في العقل دوام السهر و طول القلق ، لأنه يؤثر في البدن فيفوت اكثر المقصود .
   
كيف و قد خلق بدن الآدمي خلقاً لطيفاً ، فإذا هجر الدسم نشف الدماغ . و إذا دام على السهر قوى اليبس ، و إذا لازم الحزن مرض القلب .
   
فلا بد من التلطف بالبدن بتناول ما يصلحه ، و بالقلب بما يدفع الحزن المؤذي له .
   
و إلا فمتى دام المؤذي عجل التلف .
   
ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل ، فيقول : [ إن لنفسك عليك حقاً و إن لزوجك عليك حقاً ، فصم و أفطر ، و قم و نم. [
   
و يقول : [  كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت   . [
   
و يحث على النكاح و دوام القلق و اليبس يترك الزوجة كالأرملة ، و الولد كاليتيم .
   
و لا وجه للتشاغل بالعلم مع هذا القلق .
   
و من أراد مصداق ما قلته ، فاليتأمل حالة الرسول صلى الله عليه و سلم . فإنه كان يعدل ما عنده من الخوف فيمازح ، و يسابق عائشة ، و يكثر من التزوج . و كان يتلطف ببدنه ، فيختار الماء البائت ، و يحب الحلوى و اللحم.
   
و لولا مساكنة نوع غفلة لما صنف العلماء ، و لا حفظ العلم ، و لا كتب الحديث .
   
لأن من بقول : ربما مت اليوم كيف يكتب و كيف يسمع و يصنف ،
   
فلا يهولنكم ما ترون من غفلة الناس عن الموت و عدم ذكره حق ذكره ،فإنها نعمة من الله سبحانه بها تقوم الدنيا و يصلح الدين .
   
و إنما تذم قوة الغفلة الموجبة للتفرط و الإهمال للمحاسبة للنفس ، وتضييع الزمان في غير التزود ، وربما قويت فحملت على المعاصي .
   
فأما إذا كانت بقدر كانت كالملح في الطعام لا بد منه، فإن كثر صار الطعام زعافاً .فالغفلة تمدح إذا كانت بقدر كما بينا . و متى زادت وقع الذم .
   
فافهم ما قلته .
   
و لا تقل فلان شديد اليقظه ما ينام الليل ، و فلان غافل ينام أكثر الليل ، فإن غفلة توجب مصلحة البدن و القلب لا تذم ، و السلام  .









Posted Image

ليست هناك تعليقات:

المتابعون

أرشيف المدونة الإلكترونية