معركة حارم.. مفخرة نور الدين الشهيد
في الحادي والعشرين من رمضان سنة 559 هـ انتصر المسلمون على الفرنجة في معركة حارم، بقيادة نور الدين محمود زنكي، الملقب بالشهيد.
أذن الله لأمة الإسلام أن لا تزول ما دامت السموات والأرض، مهما بلغ بها من الضعف والهوان، وذلك بأن يهيئ الله لها رجالاً يحملون الراية ويسيرون بها إلى بر الأمان، ثم تنتكس بعد ذلك وتعود الكرة، وكما قال تعالى: (وإن عدتم عدنا)، فهي السنن سارت على الأمم السابقة وتسير على أمة الإسلام. ومن هؤلاء القادة العظام الذين أضاءت بهم سماء أمة الإسلام القائد المجاهد نور الدين محمود زنكي.
هزيمة البقيعة
لم يعبأ نور الدين بهزيمته أمام الفرنجة سنة 558 هـ، في معركة البقيعة، التي باغتوه فيها وأوقعوا بالمسلمين مقتلة عظيمة وهم آمنون، حيث هجم عليهم الفرنجة حتى قبل أن يتمكنوا من ركوب الخيل أو أخذ السلاح، وأكثروا فيهم القتل والأسر، فنزل نور الدين عند بحيرة «قدس» بالقرب من حمص في موضع يبعد أربعة فراسخ عن مكان المعركة، ولحق به من نجا من الجند حتى اجتمعوا به. فقال يومئذ: «والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام».
كان الفرنجة قد عزموا على التوجه إلى حمص بعد انتصارهم؛ لأنها كانت أقرب البلاد إليهم، ولما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها، فراسلوه يطلبون منه الصلح، فلم يجبهم فعادوا إلى بلادهم.
بعد ذلك بدأ نور الدين بتجهيز قواته، استعداداً لمواجهة الفرنجة والأخذ بالثأر، واتخذ جميع الأسباب المادية والمعنوية من التجهيز والإعداد، وتهيئة نفوس المجاهدين عن طريق العلماء والدعاة.
جاء في كتاب «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 9/308: «في هذه السَّنة، في شهر رمضان، فتح نور الدين محمود بن زنكي قَلعة حارم من الفرنج؛ وسبب ذلك أن نور الدين لما عاد منهزماً من البقيعة، تحت حصن الأكراد، كما ذكرناه قَبل، فرق الأموال والسلاح، وغير ذلك من الآلات، فَعاد العسكر كأنهم لم يصابوا وأخذوا في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره».
موقعة حارم
وفي العام التالي خرج الفرنجة من «عسقلان» لقتال أسد الدين شيركوه بمصر، فاستغل نور الدين فرصة خروجهم، وراسل الأمراء يطلب العون والنصرة، فجاءوا من كل فَجّ، وطلب من العلماء أن يحثوا المسلمين على الجهاد في سبيل الله.
فلما اجتمعت الجيوش سار نحو «حارم»، وهو حصن في بلاد الشام من جهة حلب، في شهر رمضان من هذه 559 هـ، فحاصرها ونصب المجانيق عليها، ثم تابع الزحف للقاء الفرنجة، الذين تجمعوا قريباً من الساحل مع أمرائهم وفرسانهم بزعامة أمير أنطاكية.
جاء في كتاب «عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية» 1 / 419: « وبلغنِي أن نور الدّين، رحمَه الله تعالى، لما التقى الْجَمْعَانِ أَو قُبيله انْفَرد تحت تل حارم وسجد لرَبه عز وَجل ومرَّغ وجهه وتضرع وقال: يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك، إيش فضول محمود في الوسط! يشير إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينَك نصرت، فَلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر. وبلغني أَنه قَال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى ينصر!».
خطة محكمة
وبدأ القتال والتحمت الصفوف، فهجم الفرنج في البداية على ميمنة الجيش الإسلامي حتى تراجعت الميمنة، وبدا وكأنها انهزمت، وكانت تلك خطة من قبل المسلمين اتُّفِق عليها لكي يلحق فرسان الفرنج فلول الميمنة، لتنقطع الصلة بينهم وبين المشاة من قواتهم؛ فيتفرغ المسلمون للقضاء على المشاة، فإذا رجع الفرسان لم يجدوا أحداً من المشاة الذين كانوا يحمون ظهورهم.
وبهذه الخطة أحاط بهم المسلمون من كل جانب، وألحقوا بهم هزيمة مدوية، وخسائر فادحة قُدِّرت بعشرة آلاف قتيل، ومثل هذا العدد أو أكثر من الأسرى، وكان من بين الأسرى أمير «أنطاكية»، وأمير «طرابلس».